الكلام وبعض بحوثه

البحث الأول: حول كون الرزق مختصا بالحلال قالت الأشاعرة: إن الرزق ما ساقه الله عز وجل إلى الحيوان، فانتفع به حلالا كان أو حراما. وقالت المعتزلة: الحرام ليس رزقا، واستدلوا بآيات: منها قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون)، فقد مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى، فلو كان الحرام رزقا لجاز، ولوجب أن يستحققوا المدح إذا أنفقوا من الحرام، وذلك باطل بالاتفاق (1). أقول: يتوجه أولا سؤال إلى أرباب الحل والعقد: بأن الرزق إن كان هو الشئ المقسوم المخصوص به المرتزق، فلا يعقل إنفاقه، وإن كان أعم منه ومن المملوكات العرفية فيلزم اتحاد معنى قوله: رزقناهم، وقوله: أعطيناهم وبذلنا لهم، وهذا خلاف الأصل وخلاف المتبادر منه، فالرزق حسب الظاهر هي الحصة الخاصة من الأشياء التي ينتفع منها، وتلك الحصة هي التي تختص بالمرزوق، فيلزم كون الآية مجازا. اللهم إلا أن يقال: بأن الرزق هو الشئ الخاص، الذي يكون مورد التمكن والاختيار والإعطاء والبذل، فهو أعم من هذه الجهة.

ومما يؤيد كونه هي الحصة الخاصة قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) (2)، فالرزق كأنه ما ينتفع به من كل شئ، انتفاعا يعيش به ويديم حياته، لا مطلق الانتفاع حتى يعد الإنفاق من أنحاء الانتفاعات. ومن هنا تنحل معضلة المتكلمين ثانيا، وهو أن يقال: إن حقيقة الرزق إذا كانت ما قررناه، فقوله تعالى: (ومما رزقناهم) يكون معناه: أي ومما مكناهم من أن ينتفعوا به ويستفيدوا منه ينفقون، أي إن ما بحسب الصورة يكون مختصا بهم، وبحسب خيالهم خاصا لهم. ينفقون في سبيل الله ولو كان بهم خصاصة، فإذا أنفقوا ما هو بظاهره رزقهم في سبيل الله - مثلا - فهو رزق غيرهم حقيقة وواقعا. أو يقال: إن الرزق إذا كان أعم لا تدل الآية على أخصيته، لأنها لأجل كونها في مقام المدح منصرفة إلى الرزق الحلال، فلا تخلط. وإن شئت قلت: لو كان الرزق أعم من الحلال حسب اللغة، ولكن هنا لأجل إضافته إلى الرازق الذي هو ذو القانون في تنظيم العباد والبلاد، وصاحب الشريعة المحافظة على النظام من الاختلال والفساد، يكون متعينا في الحلال حسب تلك القوانين التشريعية والإرادات القانونية، دون الإرادات التكوينية الكلية الإلهية، فإذا قال الله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) فلابد وأن يكون من الحلال، لأنه هو الذي رزقه الله تعالى، وأما الحرام في محيط التشريع والقانون فلا يكون مما رزقه الله تعالى، وإن كان من أرزاقه تعالى حسب النظام التكويني، وحسب نفوذ إرادته في كل مكان وزمان، وفي كل مكاني وزماني، فتأمل تعرف. فتحصل إلى الآن: أن ما اشتهر في كتب التفسير من أن الرزق هو الحظ والنصيب - مستدلين بقوله تعالى: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) (3) - غير بعيد حسب المتفاهم البدوي، إلا أنه يلازم المجازية فيما نحن فيه، وهي خلاف الأصل، ويلازم كون الحرام رزقا، لأنه ربما يكون حظا ونصيبا، وهو خلاف الأدب والحرمة.

إيقاظ

اعلم أن اختلاف الأشاعرة والمعتزلة في هذه المسألة ناشئ من الشقاق الكلي الحاصل بينهم في مسألة الجبر والتفويض، وحيث إن الأشاعرة اختاروا الجبر فلامنع من قبلهم من إسناد الرزق الحرام إلى الله تعالى، والمعتزلة لما اختاروا التفويض منعوا عن ذلك، وأنه كيف يمنع قانونا عن الحرام ويحتسب الحرام رزقا للعباد ؟! والذي هو الحق ما أشير إليه وهو: أن النظر هنا إلى المراد من الرزق الذي مدح الله المتقين والمؤمنين على إنفاقه، وهو محصور طبعا في الحلال، لأجل القرائن، ومنها تقديم الظرف الظاهر في الحصر، مشيرا إلى أن المؤمن لا ينفق إلا مما اختص به، ويكون تحت سلطانه حسب القوانين الإلهية.

البحث الثاني: دلالة الآية على وجود صاحب الزمان - عجل الله فرجه - اختلفت كلمات المتكلمين من الشيعة وغيرهم في الإمام الثاني عشر - عجل الله تعالى فرجه - فذهبت الطائفة الحقة إلى أنه ابن الحسن العسكري (عليه السلام)، وقد غاب غيبتين: صغرى وكبرى، وهو الآن في الغيبة الكبرى، ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يأتي ويملأ الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا (4). وسائر الفرق الإسلامية اختلفت عقائدهم به بين مؤمن به وبين كافر بوجوده، أو ببقائه، أو بظهوره. وتفصيل المسألة يأتي في ذيل بعض الآيات الأخر المستدل بها عليه وعلى ظهوره - إن شاء الله تعالى - جعلنا من المستشهدين بين يديه. والذي هو مورد النظر الإشارة إلى دلالة هذه الكريمة - على بعض الوجوه المسطورة - على وجوده المقدس - عجل الله تعالى فرجه - وقد مر تفصيله في البحوث المتعلقة بالبلاغة والمعاني.

وإجماله: أن الله تعالى خالق الغيب، وعنده خزائن الغيب، وعالم الغيب والشهادة، فلا يوصف بالغيب، ولا يعبر عنه بالغيب وإن كان ذلك فهو لقرينة تقتضيه. ثم إن الظاهر عند الفقهاء جواز اغتياب الميت، وذلك لعدم اتصافه بالغائب عرفا، فإن الغائب ما من شأنه أن يحضر ويمكن حضوره، فما هو الغائب عن الحواس على الإطلاق، أو كان حاضرا على الإطلاق، لا يوصف به، فلا يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا ما جاء به الإسلام من الأحكام والإخبار عن المعاد والمبدأ من الغيب، فما هو الغائب حقيقة ينحصر بالمهدي من هذه الأمة، الذي يظهر بعون الله، ويكشف عنهم الغمة، فقوله تعالى: (يؤمنون بالغيب) يناسب المذهب المنصور. ويؤيد ذلك: قوله تعالى في سورة يونس: (فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين) (5) ولو كان المراد أن الغيب من خصائصه تعالى، لما كان وجه لقوله تعالى: (هو الأول والاخر والظاهر والباطن) (6)، فهو تعالى أظهر من كل شئ، فكيف يكون هو الغائب حتى يؤمنوا به ؟!


1- راجع التفسير الكبير 2: 30، وكشف المراد: 341، وشرح المقاصد 4: 318 - 319، وشرح المواقف 8: 172.

2- هود (11): 6.

3- الواقعة (56): 82.

4- الحديث مشهور، انظر عوالي اللآلي 4: 91 وما علق عليه محققه الآقا مجتبى العراقي.

5- يونس (10): 20.

6- الحديد (57): 3.