البلاغة والمعاني

وهنا نقاط:

النقطة الأولى: حول اتصاف المتقين بما في الآية قضية ما تحرر في مقامه: أن الأصل في القيود هي الاحترازية، وعلى هذا يكون المتقون على طائفتين: الأولى الذين ينسلكون في سلك المؤمنين بالغيب. الثانية من لا ينسلك في سلكهم وإن كانوا من المتقين. أقول: التوصيف على نحوين: أحدهما: ما يكون النعت من الأوصاف الاشتقاقية، كزيد العالم، أو ما يشبه ذلك. ثانيهما: ما تكون الجملة مصدرة بالألفاظ المشتملة على نوع إشارة إلى الموصوف، مثل قولنا: زيد الذي هو عالم كذا، فما كان من قبيل الأول يكون النعت احترازا ومقسما للموصوف، وما كان من قبيل الثاني فهو إشارة إلى ذات الموصوف بزيادة البيان وتوضيح الحال، وعندئذ لا معنى لكونه احترازا، ف? " المتقين " موضوع لتوضيح الجملة الثانية وكشف حالها به. ولكن الإنصاف عدم تمامية هذا البيان أيضا كما ترى. فالمراد من المتقين بالإرادة الاستعمالية معنى أعم، ويحصل التقييد بالتوصيف، فلا تكون الجملة الثانية إلا احترازا، وقد عرفت منا في محله أعمية المتقين وشموله لجميع الأصناف حتى الكفار، فليراجع.

النقطة الثانية: حول عمومية " الذين يؤمنون " لا شبهة في العموم الأفرادي، وأما العموم الأحوالي بالنسبة إلى مراتب الإيمان فهو ممنوع جدا، فلا تكون إلا في موقف أن الكتاب هدى للمؤمنين، البالغين المرتبة الراقية من الإيمان، بل هو أعم من ذلك. فمن اتصف بصرف وجود الإيمان ونفس الطبيعة، فهو مشمول الآية الكريمة، ولا معنى لإطالة الكلام هنا حول مراتب الإيمان وخصوصياته، فإنه خارج عن ديدننا في هذا الكتاب، ولا يجوز التوغل لأجل المناسبات الضعيفة في المطالب الخارجة عن مداليل الكتاب جدا.

وأما الشبهة والخلاف في عمومه الأفرادي فهو بلا دليل. وربما يقال باختصاص هاتين الآيتين بطائفة، وهي العرب المؤمنون، واستدلوا على ذلك بالآية الآتية: (والذين يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك)، ضرورة أنه لم يكن للعرب كتاب قبل الكتاب الذي أنزله الله عز وجل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) تدين بتصديقه والإقرار والعمل به، وإنما كان الكتاب لأهل الكتابين غيرها. وغير خفي: أن الآية الثانية لا تفيد حصر مفاد المتقين في الذين يؤمنون بالغيب، وهكذا الآية الثالثة لا توجب حصر الثانية في الذين يؤمنون بما انزل إليك، لأن هداية الكتاب عامة، والطوائف المهتدون به مختلفة، والآيات تضمنت شرح هؤلاء الطوائف.

وهكذا الشبهة والخلاف في هاتين الآيتين مع ما بعدهما من الآيتين الآتيتين في أنها نزلت بأربعها في مؤمني أهل الكتاب، لأنه ذكرهم في بعضها، وقال الآخرون: إنها نزلت في المؤمنين كافة، وهو مورد تصديق أرباب التفسير من العامة والخاصة. وأنت قد أحطت خبرا بأن هذه الآيات ليست إخبارية صرفة، بل إخبار في موقف الترغيب والإرشاد إلى الاندراج في مسلكهم، فيكون مفادها ناظرا إلى كافة البشر ودعوتهم إلى أن يكونوا من المتقين، حتى يهتدوا بالكتاب، فيكونوا مؤمنين بالغيب بهداية الكتاب، ومن مقيمي الصلاة ومؤتي الزكاة وهكذا، ولعل النظر إلى تلك الدعوة بهذه الطريقة أقوى من الجهات الأخر. النقطة الثالثة حول عمومية " الغيب " ربما يتراءى من كلمات بعض منهم، لا سيما من صريح " التبيان ": أن الغيب له العموم، فلا يختص بالقرآن، كما عن زر بن حبيش، ولا بما جاء من عند الله، كما عن ابن عباس، ولا بما رواه أصحابنا من زمان الغيبة وقت خروج القائم (عليه السلام)، قال: والأولى أن تحمل الآية على عمومها في جميع من يؤمن بالغيب، فالغيب ما غاب عن العباد علمه من الجنة والنار والأرزاق والأعمال وغير ذلك.

وما ذكره البلخي: أنه كل ما يدرك بالدلائل والآيات مما تلزم معرفته (1). أقول: لم يظهر لي وجه لإفادة المفرد المعرف باللام العموم، ولا يقول به من كان متوجها إلى المراد من العمومات. وأما الإطلاق في المقام فهو لا يفيد إلا كفاية الإيمان بصرف الغيب وبغيب من الغيوب، من غير لزوم استيعاب الإيمان بجميع الغيوب وبكل ما غاب عن الحس، فمن كان يؤمن بالله ولا يؤمن بشئ آخر، فهو من المؤمنين بالغيب، لأن عنوان الغيب من عناوين الطبائع الكلية، والألف واللام الداخل عليه يعد عندهم بالألف ولام الجنس، فلا يمكن الجمع بين الأقوال هنا إلا ببعض الوجوه الخاصة:

الوجه الأول: أن الإيمان بغيب ما وببعض الغيب من صفات جميع آحاد البشر وجميع الناس، لأن الغيب اللغوي مورد تصديق كل ذي شعور ابتدائي، فعليه لابد من المحافظة على موقف الآية، وهو كونها في مقام مدح المتقين ومدح الذين يتمكنون من الاهتداء بالكتاب، فلابد من كونه زائدا على أصل الجنس والطبيعة، وحيث لا سبيل إلى تعيين الحد فيتعين العموم.

الوجه الثاني: أن الألف واللام للتعريف، ولا يعقل التعريف إلا باستيعاب اللفظ جميع أفراد الغيب، كما تحرر في (الحمد لله رب العالمين).

الوجه الثالث: أن مقدمات الإطلاق، كما تفيد فائدة العموم الأفرادي في ناحية الجملة النافية، مثل قوله: لا تشرب الخمر، وما رأيت أحدا، كذلك هي تفيد فائدة العموم الأفرادي في ناحية الإثبات والجملة المثبتة، مثل قوله: أكرم العالم ورأيت أحدا، لأن ما هو موضوع الحكم هو نفس الطبيعة، وهي لمكان تكثرها حسب المنضمات الخارجية، تكون صادقة على جميع الأفراد، وحيث إن الموضوع هو نفس الطبيعة فلابد من تكثر الحكم بتلك الكثرة، فقوله تعالى: (يؤمنون بالغيب) إذا كان الجنة من الغيب فهو مؤمن بها، وإذا كان النار منه فكذلك، فتأمل.

الوجه الرابع: بما أن القرآن كسائر كتب التأليف والتصنيف، يشتمل على مصطلحات خاصة يطلع عليها أهل الفكر والتدبر، وسيمر عليك في بعض المواقف ما يؤيد هذه الكلية، بذكر الشواهد القطعية على أن كلمة الغيب في الكتاب الإلهي اصطلاح في قبال الشهادة، وأن العالم بين الغيب والشهادة، وذلك يظهر بمراجعة موارد استعمالها:

1 - (عالم الغيب والشهادة) (2)، وهذا كثير جدا.

2 - (غيب السماوات والأرض) (3)، وهذا أيضا كثير الورود.

3 - (فقل إنما الغيب لله) (4)، فإنه أريد به الغيب الخاص، لا معناه اللغوي قطعا.

4 - (ولا أعلم الغيب) (5)، فلو كان معناه اللغوي والأخبار الماضية لما كان وجه للنفي، لإمكان الاطلاع على القصص الخالية.

5 - (تلك من أنباء الغيب) (6)، والمراد القضايا الآتية لما عرفت وغير ذلك. واستعماله في المعنى اللغوي أحيانا، لا يضر بكونه اصطلاحا لمعنى خاص، حتى يرجع إليه عند الشك والشبهة، كما في هذه الآيات: 1 - (صالحات قانتات حافظات للغيب) (7).

2 - (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) (8).

3 - (وما كنا للغيب حافظين) (9).

فعلى ما تحصل: أن الآية هنا في مقام إفادة إيمانهم بكل ما كان غائبا في مقابل الشهادة، فإن عالم الشهادة مورد إيمان كل أحد، وعالم الغيب ليس إلا مورد إيمان المتقين، وأما الإيمان بمطلق الغيب مقابل الشهادة، فلابد من استفادته من أحد الوجوه السابقة. والذي هو الأقرب إلى أفق التحقيق بعد هذا البسط البسيط: أن الآية الشريفة ليست إلا في مقام أصل الإيمان بالغيب، ولو كان غيابا، ولا نظر لها إلى مصاديقه ومراتبه، من الغيب المضاف، والغيب المطلق، وغيب الغيوب، فلا وجه لإدراج جميع الأقوال في مفادها، فإن ثبت بدليل متقن شرعي أن الغيب هنا هو المصداق الخاص منه فهو، وإلا فلا معين له حسب الآداب وشؤون البلاغة. إن قلت: قال أبو مسلم الأصفهاني: إن المراد من (يؤمنون بالغيب) هو أنهم حال الغيب يكونون مؤمنين، ومتعلق الإيمان محذوف، لأن النظر إلى إثبات أصل الإيمان حال الغيب، في مقابل المنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم، ونظيره قوله تعالى: (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب). ثم استشهد لإثبات دعواه: بأن الإيمان بالغيب يلازم العلم به، وهو منفي عنهم، (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو)، وأن الغيب يطلق على ما يصلح للحضور، فلا يطلق عليه تعالى وأحكام المبدأ والمعاد، وأن قوله تعالى: (الذين يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك) هو الإيمان بالغيب، فلو كان مفاد الثالثة ما ذهب إليه جمهور المفسرين يلزم التكرار (10).

قلت: بناء على ما أفاده لا يلزم كون الجار والمجرور في مقام الجملة الحالية وصفة للمؤمنين، بل يتعين أن يقال: إن مقتضى الظاهر هو كون الغيب مورد الإيمان، وأنه ليس من الأمور الراجعة إلى المبدأ والمعاد، ولا يكون مما انزل إليه حين نزول هذه السورة، وإن كان نزل إليه بعدها، وهذا هو الموجود الذي يصح في حقه الحضور والغياب، كما أشرنا إليه في بحوث اللغة والصرف، ويكون حين طلوع الإسلام وبعده غائبا، ويصح عليه الحضور في الزمان المتأخر، وهو القائم من آل محمد عجل الله تعالى فرجهم. وقد ورد في بعض أحاديثنا ما يؤيد ذلك: فعن " إكمال الدين " عن داود بن كثير الرقي، عن الصادق (عليه السلام): " في قوله تعالى: (يؤمنون بالغيب) من أقر بقيام القائم (عليه السلام) أنه حق " (11). وعنه مسندا عن يحيى بن أبي القاسم، عن الصادق (عليه السلام): " والغيب هو الحجة الغائب (ويقولون، لولا انزل عليه آية من ربه قل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين) " (12).

إيقاظ

وربما يدل على أن المراد من الإيمان بالغيب، هو العمل الجارحي والإقرار بأحد أركان الدين وأصول المذهب، أن هذه الآية في حكم التفسير للآية السابقة، ولا معنى للتقوى حسب الأفهام العرفية إلا الاتقاء في مقام العمل والفعل، كما يشهد له قوله: (يقيمون الصلاة...) إلى آخر الآية.

النقطة الرابعة: حول تقديم الصفات وتأخيرها تقديم الإيمان بالغيب على إقامة الصلاة، وهي على الإنفاق من الرزق، ربما يكون لبعض الوجوه، فإن الإيمان فعل القلب وعمل مجرد يحصل للنفس في ملكوته السفلى، وأما الصلاة والإنفاق فمن الأفعال القالبية ومتعلقات الأبدان ومن الأعمال الملكية، ولا سيما الإيمان بالغيب بناء على شموله لغيب السماوات والأرض، فإنه لأجل تلك الإضافة يرجع إلى الأعمال الخاصة الحاصلة لطائفة من المؤمنين والمتقين. وأما تقديم الصلاة فلأشرفيتها على الإنفاق، كما قدمت نوعا أو كلا عليه وعلى الزكاة، ولأن التحلي بالصور الكمالية علة صدور الأفعال الحسنة، والإنفاق لا يمكن إلا بعد الاستكمال بتلك الصورة الإلهية، برفض القوى الشيطانية وغيرها. ولو كان المراد من إقامة الصلاة تعديلها أو الأمر بها وتوجيه الناس إليها، فلا شبهة في أولويتها عليه، بل يكون من ذكر العام بعد الخاص.

النقطة الخامسة: حول (يقيمون الصلاة) ما كان يرجع إلى العموم الأفرادي في قوله تعالى: (يؤمنون بالغيب) نفيا وإثباتا، يأتي في قوله تعالى: (يقيمون الصلاة) وفي قوله: (ينفقون)، وقد عرفت أن الأدلة قاصرة عن حصر هذه الطائفة بالمؤمنين من العرب أو المؤمنين من أهل الكتاب. وإنما الكلام حول أن في إفادة الإتيان بالصلاة بقوله: (يقيمون الصلاة) نكتة أم لا؟وقد مضى شطر من البحث حوله في بحث اللغة والصرف. والذي يظهر للمتتبع الخبير البصير: أن إقامة الصلاة إشعار بالإتيان بالصلاة على مستوى القوانين الشرعية الواردة في تعيين حدودها من ناحية ماهية الصلاة وكيفيتها وأجزائها وترتيبها، ومن ناحية شروطها وخصوصياتها، ومن ناحية موانعها وقواطعها، ومن النواحي الراجعة إلى أحكامها القلبية زائدا على الأحكام القالبية، بحضور القلب وإخلاص النية والتوجه التام إلى أنه في محضر رب العالمين، وهي المأدبة التي دعي إليها من تلك الناحية المقدسة فليلاحظ جميع الكمالات اللائقة للحضور ورفض النواقض المنافية للتشرف بساحة القدس والوصول إلى فناء الرب المأمول، فإن في ذلك إقامة الصلاة، وفيه صيانتها عن الاعوجاج والانحراف. وسيمر عليك - إن شاء الله تعالى - عند المناسبات الملحوظة في هذا الكتاب خصوصيات هذه المائدة الإلهية والمعجون الملكوتي.

النقطة السادسة: بعض النكات حول (ومما رزقناهم ينفقون) تقديم الظرف في قوله: (ومما رزقناهم ينفقون) إما لأجل الاهتمام به، أو لأجل مراعاة رؤوس الآي، أو لأجل إفادة الحصر، فلا ينفقون مما رزقنا غيرهم، إن كان الرزق للمعنى الأعم، وإلا فلو كان معنى الرزق الواصل إلى المرزوق، فلا يمكن إنفاق ما رزقناهم وما رزقنا غيرهم، فإذا لزم المجازية، فلا منع من الالتزام بالمعنى العام، فليتأمل. ومن العجيب توهم: أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، لأن غيرها مما لا يلزم إنفاقه (13)، وسيظهر أنها لا تفيد إلا المدح على الإنفاق. ثم إن الإنفاق المتعدي بنفسه أو بغير " من " إذا تعدى ب? " من "، فهو ليس إلا لإفادة التبعيض، ففي الإتيان بالجار إفادة لعدم لزوم التقتير على أنفسهم، (ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) (14) بل أبسطها على حد محدود وقدر خاص. ثم إن حقيقة الرزق - حسب ما عرفت - أعم من الأرزاق المادية الراجعة إلى المأكل والمشرب والمنكح والملبس، بل يعم الأرزاق المعنوية والروحانية، فينفقون من علومهم الدراسية والتجريبية، ومن المعارف والمكاشفات القرآنية والعرفانية، وأيضا هو الأعم من المال والولد، فينفقون في سبيل الله أموالهم وأولادهم وعلومهم ومعارفهم وهممهم وأفكارهم وغير ذلك، ويصح - على تعبير - إنفاق أنفسهم، لأن الوجود من الرزق ومن النعم الإلهية. فما عن ابن عباس: بأنه الزكاة المفروضة (15)، وعن ابن مسعود: أنها نفقة الرجل على أهله، لأن الآية نزلت قبل وجوب الزكاة (16)، وعن الضحاك: هو التطوع بالنفقة فيما قرب من الله تعالى (17)، فكله خال عن التحصيل، لعدم الدليل. فعلى ما تقرر ثبت عموم الآية من جهات شتى: الأولى: من جهة أن المؤمن بالغيب والمقيم للصلاة والمنفق أعم، ويشمل الصبيان والمميزين والمراهقين. الثانية: أن الرزق أعم من الأرزاق المادية. الثالثة: الإنفاق يكون أعم من كونه بنحو المباشرة والتوكيل والإيصاء، ولعل قوله تعالى: (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت) (18) ناظر إلى الوصية بالإنفاق. الرابعة: أن المنفق عليه أعم من الجهات والأشخاص والمؤمنين والكفار، وأعم من التمليك والإيقاف.

النقطة السابعة: حول عمومية الصلاة والإنفاق من الواجب والمندوب هذه الكريمة الشريفة جملة إخبارية، ولكنها تشير وتومئ إلى الترغيب بالإيمان بالغيب والحث والإغراء بالصلاة والإنفاق. وربما يتوهم الإشكال: في أن الأعمية من الصلوات الواجبة والمندوبة، ومن الإنفاقات المفروضة كالزكوات المفروضة والمستحبة، غير ممكن، لأن الجمع بين الواجب والمستحب، لا يمكن إلا بعد إمكان الجمع بين المعاني الحرفية، على ما تقرر في الأصول. وفيه: أن البعث الواحد إلى الواجب والمستحب ولو كان غير معقول، ولكن إفادة المطلوبية المطلقة والمحبوبية الذاتية معقول بالجملة الواحدة، وعلى هذا يقال: إن قوله تعالى: (يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)، ليس في موقف إيجاب الإقامة أو الإنفاق ولا في مقام الاستحباب، بل هو في موقف الإخبار الملازم أحيانا للترغيب نحو هذه الأمور، فإن الوجوب والاستحباب يستفاد من القرائن الوجودية أو العدمية الحافة بالكلام، فلا مانع عقلا من كون الآية الشريفة مشتملة على إفادة المعنى الإنشائي، ويكون بالنسبة إلى الصلوات الواجبة إنشاء إيجابيا، وبالنسبة إلى المندوبات استحبابيا، كما لا يخفى.

فبالجملة: تحصل أن ما زعمه بعض المفسرين من أرباب الحديث: بأن المراد من الصلاة هي الواجبة ومن الزكاة هي المفروضة (19)، في غير محله، بل المراد معنى أعم من الواجب والمندوب، لأن قوام الإسلام بالصلاة من غير نظر إلى وجهها من الوجوب والندب، وأساس الإسلام الزكاة، وهي قنطرة الإسلام، وتلك عمود الدين، من غير فرق بين الندب والوجوب، لأنهما من العناوين الوهمية، لا تختلف بهما الحقائق المقصودة من التشريع الأصلي والأغراض العالية من الأمر بهما، بل النظر هنا إلى الواجبات العقلية القلبية، والمفروضات العقلية القالبية البدنية والمالية، التي بها قوام النظام الفردي والاجتماعي، والتي بها بناء الحكومات والسياسات الملكوتية والملكية.

النقطة الثامنة: في إتيان الجمل الثلاثة في هذه الآية بصيغة المضارع - الدال على التجدد والاستمرار - إشعار ودفع توهم اختصاص الآية بالموجودين في عهد النزول، كما توهموه.


1- مجمع البيان 1: 38، تفسير التبيان 1: 56.

2- الأنعام (6): 73، الزمر (39): 46.

3- هود (11): 123، النحل (16): 77، الكهف (18): 26.

4- يونس (10): 20.

5- هود (11): 31.

6- هود (11): 49.

7- النساء (4): 34.

8- يوسف (12): 52.

9- يوسف (12): 81.

10- راجع التفسير الكبير 2: 27 - 28، وروح المعاني 1: 107.

11- كمال الدين 2: 340 / 19.

12- راجع كمال الدين 2: 340 / 20.

13- راجع الإتقان في علوم القرآن 3: 71، والدر المنثور 1: 27.

14- الإسراء (17): 29.

15- راجع مجمع البيان 1: 39، والدر المنثور 1: 27.

16- نفس المصدر.

17- نفس المصدر.

18- المنافقون (63): 10.

19- راجع تفسير الطبري 1: 104.