رسم الخط والكتابة
وهنا مسائل:
المسألة الأولى: كلمة " الذين " إن كتابة " الذين " مورد البحث قد مضى تفصيله في سورة الفاتحة (1) بحمد الله وله الشكر.
المسألة الثانية: كلمة " يؤمنون " قضية ما تحرر منا - في بحوث البسملة وكتابة اللغات - لزوم انطباق الوجود اللفظي على الوجود الكتبي، ويكون ما يلفظ به ويقرأ يكتب، حتى لا يلزم الاختلال في فهم المقاصد (2). فعلى هذا الأصل الأصيل لابد وأن يكتب كلمة " يؤمنون " بدون الواو وإلا يلزم الاشتباه في القراءة، لأن الواو بعد الياء وقبل الهمزة توجب الإشباع، أي يلزم الجمع بين إظهار الواو والهمزة، وهو غير لازم بالضرورة. أقول: المعروف في رسم خط الهمزة وكتابتها: أنها إذا كانت متوسطة ساكنة تكتب بحرف حركة ما قبلها، نحو بأس وبؤس وبئس، إلا إذا كانت مقلوبة بعد همزة الوصل، ثم ردت إلى أصلها في أثناء الكلام، فترسم بصورة الحرف الذي قلبت إليه، لانتقالها منه، فتكتب بالياء في نحو " يا رجل ائذن " وبالواو في نحو " هذا الذي اؤتمنت عليه ". ثم إن اظهار الواو ربما يؤيد لزوم الإشباع في موارده، كما سيأتي عند تفصيل البحث في القراءات. بقي كلام وهو: أن الهمزة كما تكتب على رأس الواو " يؤمنون "، يمكن أن تكتب متصلة بالحرف المتأخر " يوئمنون "، والمعروف هو الأول.
المسألة الثالثة: كلمة " مما " المشهور في كتابة " من ما " مما بالتشديد، ولم يظهر لي من كتبه غير مدغم، ولو كانت القراءة على الإدغام واجبة، كانت تلك الكتابة على الأصل الذي أسلفناكم، وإلا فلا، وحيث إن الظاهر عدم تعينه - كما يأتي - فلا يبعد جواز كتابتهما بغير إدغام، ولو صح إدغام المتأخر في المتقدم، فيكتب هكذا: " ومنا رزقناهم ينفقون "، وحمل ما عن الكسائي - من أنه هكذا: " ومنا رزقناهم ينفقون " (3) - على ما احتملناه أولى مما تأوله ابن جني: من أنه فعل من منى يمني، بمعنى قدر (4).
المسألة الرابعة: كلمة " الصلاة " اختلفت كتابة الصلاة حسب العصور، فكانت تكتب في العصور الأولى إلى ما يقرب من العصر المتأخر في هذه الأمصار بالواو، ثم بنى المتأخرون تبعا لبعض الأجيال في الأمصار النائية على كتابتها بالألف. وبالجملة: كانت الشهرة على الأول ثم انقلبت. والذي ربما يتراءى: أن هذه المسألة من متفرعات ما هو أصل الصلاة حسب اللغة، لأن من المحتمل كونها مأخوذة من مادة صلا يصلو صلوا، فيكون واويا، فتكتب بالواو إيماء إلى أنها منها، وربما كانت الأمة السابقة لأجل اعتقادهم بذلك يكتبونها بالواو. وقواه " الكشاف " واعتقد أن الصلاة من تحريك الصلوان، وهما ما يكون عن يمين الذنب وشماله، ولاشتمالهما عليهما في حال الركوع والسجود سميت بها (5). وغير خفي: أنه مع نهاية ابتكاره في المسائل القشرية والأدبية ابتلي بما لا يبتلى به الأصاغر، ولا تمس الحاجة إلى إبداع الجديد حتى يقع فيما لا يعني، والقول الفحل ما عرفت. ومن المحتمل كونها من الصلاة بمعنى الدعاء وما شابهه، ولا يكون واويا، فلا تكتب بالواو، وحيث إن المتأخرين بناؤهم على الأخير يكتبونها بالألف، ويعدون الواو غلطا. أقول: حيث لا يظهر للمتأمل المتدبر في أصول اللغات، أن الصلاة بمعنى الدعاء واوي أو يائي، لأن كلا الاحتمالين ممكن، ضرورة أن احتمال كونه من صلى يصلي - أي من الفعل المتعدي بهمزة باب التفعيل - ممكن، وأصل هذا الفعل المتعدي بتلك الهمزة هو صلا يصلو، ثم بعد الانتقال إلى الباب المزبور اكتسب المعنى الآخر، وقلبت الواو ياء. والاحتمال الآخر أيضا ممكن، وهو كونه اسما من صلى يصلي، وهو يائي، ولا مجرد له. فعلى هذا يجوز الكتابة بالوجهين، ولا برهان على تعين أحدهما إلا الأصل المزبور، وهو تطابق الوجود اللفظي والكتبي، فتدبر جيدا.
ذنابة
قيل: إن الصلاة من " صليت العصا " إذا قومتها بالصلى، فالمصلي كأنه يسعى في تعديل ظاهره وباطنه، مثل ما يحاول تعديل الخشبة بعرضها على النار (6)، وهي " فعلة " بفتح العين على المشهور، وجوز بعضهم سكون العين، فتكون حركة العين منقولة من اللام. وقد اتفقت المصاحف على رسم الواو مكان الألف في مشكاة ونجوة ومنوة وأمثالها كالصلاة والزكاة والحياة. وفي بعض المصاحف الاخر العثمانية رسم المجموع منها بالواو على اللفظ. وعن ابن قتيبة: بعض العرب يميلون الألف إلى الواو، فيكون في الكتابة بالواو نظر خاص في كيفية القراءة. وعن الحميري: وجه الكتابة بالواو الدلالة على أن أصلها المنقلبة عنه واو، وهو اتباع للتفخيم (7). انتهى. وما أفاده إنما يصح في غير " الصلاة "، ولا سيما على القول بأن " مشكاة " ليست عربية، مع أن " الزكاة " من اليائي، فليتأمل.
1- راجع الفاتحة: الآية 6، رسم الخط.
2- راجع الفاتحة: الآية 1، مبحث الخط من الناحية الأولى والثانية.
3- راجع البحر المحيط 1: 38.
4- راجع البحر المحيط 1: 39.
5- الكشاف 1: 40.
6- راجع التفسير الكبير 2: 29.
7- راجع أدب الكاتب، ابن قتيبة الدينوري: 89.