التفسير والتأويل على اختلاف المسالك والمشارب

فعلى مشرب الأخباريين: (ذلك الكتاب) الذي أخبر به موسى ومن بعده من الأنبياء، (لا ريب فيه) ولا شك يعتريه، و (هدى) وبيان من الضلالة (للمتقين)، الذين يتقون الموبقات ويتقون تسليط السفيه على أنفسهم، حتى إذا علموا ما يجب عليهم علمه، عملوا بما يوجب لهم رضاء ربهم (1). أو (ذلك الكتاب) أمير المؤمنين - صلوات الله وسلامه عليه - لاشك فيه إنه إمام (هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) (2)، فلا يحق تفسير المتقين بغير ما في الآيات التالية، فإن القرآن يفسر بعضه بعضا. أو (هدى للمتقين) في قوله تعالى: (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب...) إلى أن يقول الله تبارك وتعالى: (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) (3). أو (هدى للمتقين) (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) (4). ومن هذه الآيات يتبين أن النظر ليس إلى حصر المفهوم في المصداق، بل النظر إلى بيان مرتبة من تلك الحقيقة المشككة.

وفي أخبار العامة: (ذلك الكتاب)، أي هذا الكتاب لا شك فيه (هدى) من الضلالة (للمتقين)، الذين اتقوا ما حرم الله عليهم، وأدوا ما افترض عليهم، أو الذين يحذرون من الله عز وجل عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء به، أو غير ذلك من الأحاديث المختلفة في شتى كتبهم الأخبارية وتفاسيرهم القشرية (5). وقريب مما سلف: " المتقون شيعتنا الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، ومما علمناهم ينبئون، وما علمناهم من القرآن يتلون " (6)، وتلك الأخبار بين مراسيل وضعاف، فلا يعتمد عليها، ولقد دسوا - خذلهم الله تعالى - في أخبارنا، وغشوا - لعنهم الله تعالى - فخلطوا بين اللباب والقشور، كما وقع الخلط المزبور بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، عصمنا الله من الثبور.

وعلى مسلك أرباب التفسير: أن (ذلك الكتاب) هو الكتاب الموعود به (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله تعالى: (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا)، أو الكتاب المصطلح عليه في القرآن في آيات كثيرة بقوله: (يا أهل الكتاب) وغيره، أو هذا القرآن تعظيما بتنزيل البعد الرتبي منزلة البعد الحقيقي، كما في قوله تعالى: (فذلكن الذي لمتنني فيه) (7) وغير ذلك مما مر بك في البحوث السابقة. (لا ريب فيه) ولا ظن يعتريه أو لا ترتابوا فيه، أو لاشك، ولا يجوز فيه الارتياب، وفيه (هدى) ونور (للمتقين)، الذين يتقون ويصيرون أهل التقوى بتلك الهداية، أو الذين كانوا من المتقين، فضلوا وأضلوا، فإنهم بذلك الكتاب يندرجون في سلك الأتقياء أيضا، أو الذين هم المتقون فعلا، فيخرجون من الظلمات إلى النور بمثل الكتاب الذي لا ريب فيه، أو لا يرتاب فيه، أو لا ريب فيه فلا ترتابوا فيه، فنفس عدم الارتياب فيه من مظاهر الهداية الحاصلة من الكتاب، فيكون طبعا من المتقين عن الارتياب والشك الذي هو نفس الضلالة والظلمة. وقريب منه: أن (ذلك) الصراط المستقيم الذي أنعمه الله تعالى عليهم، هو (الكتاب) الذي (لا ريب فيه). أو أن ذلك الألف واللام والميم هو (الكتاب) الذي (لا ريب فيه)، أو لا يجوز الشك والوهم أن يعتريه، وهو الهداية لأرباب التقوى، وهم أصحاب الخاص، لا مطلق الناس، فيكون المراد من المتقين الذين أنعم الله عليهم بمعرفة فواتح السور، وتكون هدايته بالنسبة إليهم قطعية، لتمامية شرائط تأثير الفاعل وشرائط انفعال القابل، ولأجل ذلك صح أن يقال: (لا ريب فيه) واقعا لا ادعاء، أو هو بنفسه الهدى لهم ونور في جبينهم، من غير ارتياب في هذه الجهة أيضا. وهناك وجوه واحتمالات اخر تظهر مما سلف في بحوث الآية ومسائلها، فتدبر.

وعلى مسلك الحكيم: أن (ذلك الكتاب) المحفوظ في اللوح، وتلك الحقائق الموجودة في الكتاب التكويني، والمرسومة في الأعيان، (لا ريب فيه)، ويكون (هدى للمتقين) في جميع مراحل الوجود، من غير فرق بين الموجودات الأمرية والخلقية، وذلك الكتاب الذي لا ريب فيه أنحاء الريب، ومستجمع لجميع الكمالات اللائقة بالكتاب، هو الكتاب المتحقق بالوجود الحقيقي في الأعيان، وهو حقيقة الإنسان الكامل في القوس الصعودي، لأنه به تحصل هداية المتقين في النشآت الغيبية والشهودية، فيكون هداية من جميع الضلالات التي أهمها توهم البقاء الذاتي، ويكون هاديا للمتقين من جميع ما ينبغي الاتقاء منه، ومن أهمها الاتقاء من رؤية ذاته حذاء الواجب المطلق الكامل على الإطلاق. فما هو شأنه مثل هذه الهداية، وما هو خاصته إيصال الضالين بإخراجهم من ظلمات الجهالات الكلية والجزئية، وإدخالهم في الأنوار الكلية الإلهية، الملازمة للفناء الذاتي برؤية استيلاء المحبوب على جميع شراشر وجوده، استيلاء خارجيا موجبا لاندكاك المستولي عليه على وجه لا يبقى لصفة الاستيلاء معنى واقعي متقوم بالمستولى عليه، وهو عين الضلالة والكفر.

وإلى جملة من هذه الدقائق أشارت أخبارنا وأحاديثنا، لأنها صدرت من مبادئ العلوم الكلية، فلابد من اشتمالها على جميع الحقائق على اختلاف مراتب الناس، كما عرفت فيما سبق. فما هو شأنه ذلك هو الكتاب الكلي السعي، الشامل لجميع الكتب التدوينية والتشريعية والكتب الضالة وغير الضالة، لأن الكتب الضالة ضالة من حيث وهادية من حيث، فلا ريب فيه من جميع الحيثيات بالضرورة الذاتية اللايزالية. وقريب منه: أن (ذلك) المشار إليه بالألف واللام والميم، والمرموز إليه بتلك الحروف، وهي البسائط الأولية للمركبات الثانوية هو (الكتاب) الذي (لا ريب فيه)، ولا يناله يد المحو والإثبات، وهو أم الكتاب، بخلاف كتاب المحو والإثبات، فإن فيه الريب، كما ترى.

وعلى مسلك العارف: أن (ذلك الكتاب) مقول قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في السفر الرابع، وهو السفر من الحق إلى الخلق بالحق، أي بوجود جامع للبرزخية الكبرى، فلا يشغله الكثرة عن الوحدة، ولا الوحدة عن الكثرة، ولكنه لمكان غلبة أحكام المادة - حسب المنطقة والحيطة - وأحكام القالبية - حسب الصيصية والبشرية - يصح أن يغلبه أحيانا غشية خاصة، موجبة لصدور كلمة " ذلك " إشارة إلى الغيب، مع أنه جامع الغيب والشهود، ولا يتصور في حقه القرب والبعد والغيب والشهود، حتى يتمكن من استعمال تلك الكلمة، ولكن مع ذلك كله لمكان تلك النكتة صحت في حقه كلمة " ذلك "، ويكون ما هو حقيقة المشار إليه هو الغيب المطلق والوجود البحت، فإنه حقيقة كل شئ، وهو الذي ينبغي أن يقال فيه: (لا ريب فيه)، وهو الهدى (للمتقين) لأعم من الأسماء والصفات، ومن مظاهرها في العوالم الكلية والجزئية، وفي جميع النشآت الباطنية والظاهرية. فهو الكتاب لا غير، لأن غيره المكتوب، لا بالحلول بل بالاتحاد والصدور، فلا يتقوم كون الكتاب كتابا بأن تحل فيه النقوش والرسوم، بل النقوش والرسوم الصادرة من الغيب توجب كونه الكتاب، فإن النفس كتاب مع صدور الصور العلمية منها، وتقوم بها قيام صدور، ومتحدة معها اتحادا واقعيا بحسب المبدأ والأصل.

ف? (ذلك الكتاب) هو الذي يؤمن به المؤمن، وهو الغيب الذي آمن به المؤمنون والمتقون، المشار إليه بقوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب...) إلى قوله: (وبالآخرة هم يوقنون)، وذلك هو (الكتاب) الذي (لا ريب فيه)، ولا يشوبه العدم الذي هو منشأ الريب، وهو الذي يبقى بالبقاء الذاتي، ولا يضمحل بظهور صفة القاهرية عليه، بخلاف غيره من الكتب حتى أم الكتاب، فإنه يطرؤه الريب لاحتفافه بالعدمين، ويندك جبل أنانيته بظهور الصفة المزبورة، فعليه كيف يصح نفي الريب عنه ؟! فما لا ريب فيه هو ذاك، رزقني الله وإياك. وذلك الكتاب الذي لا ريب فيه حقيقة، ولا يرتاب فيه بوجه، نفس الهداية وحقيقتها، وليست الهداية زائدة على ذاته، وبتلك الهداية المتحدة مع الكتاب الحقيقي يهتدي المتقون، وهي الأشياء كلها، فإن كل موجود - بحسب ما تقرر في محله - من ذوي العقول والإدراك (8)، فيكون من المتقين، قال الله تعالى: (إن من شي ء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) (9)، ولا يختص الاهتداء بذلك الكتاب بطائفة دون طائفة وبثلة دون ثلة، بل جميع الحقائق تعتدل في السير إلى المبدأ المسانخ معه بالهداية الذاتية الثابتة للكتاب الحقيقي، ومن تلك الحقائق الأسماء الإلهية والصفات الربانية، فإنها من الأوصاف العادلة غير المتجاوزة من حد الإفراط إلى حد التفريط، بل كلها سوية مستوية الذات لأجل تلك الهداية، وإذا اهتدت الأسماء الإلهية بتلك الهداية الربوبية، يكون مظاهرها مهتدية تبعا للظاهر، الذي هو المهتدي بالكتاب في الأزل حسب التحقق والوجود، فيكون الكل من المتقين.

وعلى المشرب اللطيف ومسلك الخبير البصير: أن هذه المشارب تختلف حسب الآفاق والمنازل، وتتشتت حسب المقتضيات والمواد، وحسب المناكحات في الأسماء والصفات، ولكنها ترجع إلى الأصل الواحد، كما ترجع أرباب المسالك إلى الرب الوحيد والفريد، وقد تقرر منا مرارا: أن الكتاب الإلهي النازل لا يناله بحقيقته إلا الرب المنزل إياه على عبده (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا نمنع أن يكون - في جميع آياته وحروفه - كل الحقائق، بنحو الإيماء والإرماز وبنحو اللف والإجمال، وكيف لا يكون الأمر هكذا ؟! وقد صرح بقوله تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة) (10)، فإن القرآن مخزن يتنزل منه هذه النازلات في الأوراق والأسماع، فتكون هي مجالي ومرائي لتلك المخازن الغيبية، فلا يخص بأحد المعاني المزبورة، بل يتسع وجوده - حتى بحسب الألفاظ - لجميع تلك الإشعارات والإيحاءات. والله هو العاصم، وله الشكر والحمد، ونرجوه أن يوفقنا لخير من ذلك، وهو الموفق والمؤيد.


1- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 62 - 63 / 32، ومعاني الأخبار: 25 / 4.

2- تفسير القمي 1: 30، تفسير العياشي 1: 25 - 26.

3- البقرة (2): 177.

4- الزمر (39): 33.

5- راجع الدر المنثور 1: 24.

6- راجع تفسير القمي 1: 30، وتفسير العياشي 1: 26، ومعاني الأخبار: 23 / 2.

7- يوسف (12): 32.

8- راجع الأسفار 7: 148 - 158.

9- الإسراء (17): 44.

10- الإسراء (17): 82.