الأخلاق والموعظة

اعلم يا أخي في الله ويا عزيزي السالك: أن ذلك الكتاب لا ريب فيه، فإذا اجتهدت في تعلمه وفي التعين بحقيقته وفي التشخص بشخصية مثله، وكنت في النشأة العلمية عين تلك البارقة الإلهية والحقيقة الملكوتية، فلا يكون لديك ريب أيضا، فلماذا لا تحب أن تكتسي لباسه ؟! ولماذا لا تشتاق إلى أن تسلك سبيله، حتى ينتفي الريب كله عن ذاتك ؟! أفما كان أمير المؤمنين - عليه أفضل صلاة المصلين - وأولاده المعصومين من هذه النشأة ؟! أفما كانوا وما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الكائنات الواقعة في الزمان والملازمات لهذه المادة والمدة ؟! فإذا كانوا كذلك فكيف ارتقوا إلى تلك المقامات، وتعينوا بتلك الصفات حتى نفي عنهم الريب ؟! فكن بعين الله على بصيرة من أمرك، فتلحق بالصالحين، وتحشر في زمرة المتقين، وإذا تعينت بعين الكتاب في النشأة العلمية، وتصورت بتلك الصورة البهية الناضرة، فلا يكون الصادر منك إلا ما يسانخك في الوجود، فإنه لا يصدر من الحسن كله إلا الحسن كله. فيا أيها المسلم المؤمن لا تيأس من روح الله، فإن السالك في الله يعشق الله، فإما يصل إلى عشقه ومناه، أو يموت في طريق عشقه وأمنيته، وعلى كل حال هو الفائز بالدرجة العليا، والنائل لأعلى عليين في الدار الآخرة والعقبى.

والله المعين على ما يصفون. ثم اعلم يا صديقي ويا نور عيني: أن ذلك الكتاب فيه هدى، فعليك الجد والاجتهاد في أن تكون هدى، ولا تكتفي بكونك هاديا، ولا تقنع بأن يهتدي بهديك الآخرون، فضلا عن القناعة بأن يكون الإنسان خارجا عن زمرة الضالين والمضلين، فاسع سعيك وجد جدك في طريقك المثلى ونهجك المقرر حتى تصل إلى هذه المرتبة العليا، ولا يكون ذلك، ولا يناله أحد، وما ناله الأصفياء إلا بالارتياضات النفسانية والتدبر والتفكر، والاقتداء بالصالحين، وباتباع الأولياء المقربين المنتشرين في البلاد والقرى، فسيروا في الأرض فانظروا إلى آثار رحمة الله، فإن لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها (1)، فهذا الكتاب الإلهي جاء لأن يعلم الناس ما يصيرون به مثالا له، فلا يكون فيه ريب، ويكون هدى من الضلالات في جميع النشآت، فتخلقوا بأخلاق الله حتى يتمشى لكم ما تمشى له من المشية المطلقة، فإن الإنسان هو الصورة الجامعة الإلهية، كما عرفت في الحديث الشريف، وحتى يصح فيكم أنه (لا ريب فيه هدى للمتقين) من الضلالات بأقسام الهدايات وأنواعها الممكنة. ثم يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر فأوف لنا الكيل، ويا أيها الحجة الباقية القائمة أعنا على ذلك كله حتى ندرج في زمرة المتقين، ونستضئ بأنوار الحق واليقين، فإن الكتاب الإلهي قد حث على ذلك بأنحاء كثيرة، ومن أحسنها هذه الآية الكريمة، فإنها تومئ إلى اعتبار السنخية بين المهتدين بالقرآن العظيم، وبين الكتاب الذي لا ريب فيه، فإنه لا يعقل هداية الضال، لأنه مع فرض كونه ضالا لا يعقل هدايته، فإن صورة الضلالة هي الصورة الآبية عن قبول الهداية، فلابد وأن لا يكون متصورا بتلك الصورة حتى يكون قابلا للاهتداء بمثل ذلك الكتاب، فعليك أمر، وعلى الله تعالى أمور: أما الذي عليك فهو الاجتهاد في سبيل الخروج عن التعين بتلك الصورة المتعصية والرادعة المانعة، فإذا كنت خارجا عنها برفض الشهوات والبليات وأهواء النفس وأحكام المادة والشيطنة، تنالك - بحمد الله وإن شاء الله - المشية الإلهية الظاهرة في نشأة الغيب والشهود، ويخرجك من الظلمات إلى النور، فإن مجرد الخروج عن بيت ظلمة الطبيعة ليس من الهداية وصورتها النوعية، فإنها حركة نحو الوجود المطلق الإلهي، التي لا تحصل إلا بعد اكتساب الزاد والراحلة، فكما لا يكون الزاد والراحلة من السفر والحركة المعنوية، بل هي استعداد، كذلك الخروج عن ظلمات النفس وغشاوات الطبيعة، لا يعد من السفر المعنوي حقيقة. وعلى كل حال يا أيها المفسر قم ورغب الناس في السير في المفاهيم والتراكيب والنكات والخصوصيات، وبشرهم بالسفر في حقيقة الكتاب وروحه، وفي دقيقة هذا النموذج الإلهي وشؤونه، حتى ينال العبد ما جاء لأجله الكتاب. والله الهادي إلى دار الحقيقة والصواب.


1- بحار الأنوار 68: 221 / 30 و 80: 352 / 4 و 84: 267 / 64 و 87: 95 / 10.