الحكمة والفلسفة

البحث الأول: المراد من الكتاب إن الكتاب الذي لا ريب فيه هو التأليف الإلهي والكتاب الرباني، لا مطلق الكتاب، بل ولا الكتاب الإلهي في جميع مراحله، بل المرحلة الغائبة المشار إليها بذلك، فلا يشمل المرتبة المادية التي من عالم الخلق، وحيث ينتهي البحث هنا إلى كيفية انتساب هذا الكتاب إلى الله تعالى، وأنه كيف يكون كتابه؟وإلى البحث عن الفرق والفروق بين الكتاب والكلام، فالأولى إيكال الأمر إلى سورة الجاثية عند قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) (1) ونرجو منه تعالى أن يوفقنا للبسط حول ذلك في تلك السورة إن شاء الله تعالى.

البحث الثاني: حول كون القرآن وحيا أو نازلا ربما تشعر هذه الآية الشريفة بمسألة عقلية: وهي أن الإنسان والنبي الأعظم الإلهي، بعد الاتصال بالغيب في الأسفار المعنوية، وبعد العود من السفر الثالث والتحقق بالسفر الرابع - حسب ما تقرر في سورة الفاتحة كيفية تلك الأسفار (2) - يكون القرآن بحسب الحقيقة والرقيقة نازلا عليه بتوسط الأمين الإلهي، وحيث هو (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك اللحظة والحالة، تختلف نسبته إلى الأشياء حضورا وغيابا، يصح أن يترنم بقوله: (ذلك الكتاب) بنحو الغيبة، إذ لا يعقل الغيبة والحضور بالنسبة إلى الحضرة الربوبية، ولكنه بالنسبة إليه في تلك النشأة الملكوتية ممكنة، فتلك الألفاظ والتراكيب المسماة بالكتاب والقرآن نازلة تلك الحقائق ومتحددة ومحدودة بتلك التراكيب بتوسط الحقيقة الأحمدية في مرتبة من مراتب بشريته. فيكون ما اشتهر من أن هذه التراكيب وحي وإيحاء في غير محله، بل ما هو الوحي أمر، وما هو نازل هذا الوحي في أفق الإنسان والإمكان أمر آخر، والله الواقف على أسرار آياته. وبالجملة: من استعمال أمثال هذه الكلمات، يمكن - بنحو الكلي - استكشاف هذه المسألة العويصة العلمية، والله الهادي إلى الصواب.

البحث الثالث: حول كون الكتاب هو الهدى ربما يشعر حمل الهدى على الكتاب ودعوى أن الكتاب هو الهدى بأن هداية كل شئ بالكتاب، وهداية الكتاب بنفس ذاته، وأن عنوان الهداية ينتزع من الكتاب، ويكون خارج المحمول له، لا المحمول بالضميمة، ويكون بينهما التساوق لا الترادف، فكما يصح حمل الوجود على الوحدة، والنور على الكتاب، كذلك يصح حمل الهداية، لأنها هو حقيقة وإن اختلفا مفهوما وعنوانا، وهذا لأجل أن كل ما بالعرض لابد وأن ينتهي إلى ما بالذات، وإلا لتسلسل، فما هو به هداية الأشياء هو الكتاب، ولكن الكتاب هداية بنفس ذاته، فيصح الحمل الهوهو، حسب ما اصطلحوا عليه في الكتب العقلية. ومن هنا يتجه أن يقال: إن ما هو الهداية بالذات لو كان نفس هذه الخطوط والنقوش - المسطورة على صفحات من القراطيس - لما كان الحمل المزبور في محله إلا عند طائفة خاصة، كما أشرنا إليه في البحوث السابقة. فما هو الكتاب الذي هو نفس الهداية، ويصح نفي الريب المطلق عنه، لابد وأن يكون طورا آخر من الكتاب، وكثيرا ما يستكشف خصوصية الموضوع من الأحكام الخاصة المترتبة عليه، فما هو مورد نفي الريب على الإطلاق، ومورد حمل الهداية عليه أمر آخر وراء هذه المكتوبات المسطورة والمرسومات بالأقلام.

وإلى ذلك الأمر يشير بعض رواياتنا، مثل ما في تفسير القمي بإسناده عن جابر، عن الباقر (عليه السلام)، قلت: " قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه) ؟قال: الكتاب أمير المؤمنين - صلوات الله وسلامه عليه - لاشك فيه أنه إمام "، وعنه مسندا عن أبي بصير، عن الصادق (عليه السلام): " الكتاب علي لاشك فيه هدى للمتقين... " (3) الحديث. انظر كيف يجمع بين هذا وبين ما ورد عن أهل البيت في قوله تعالى: (إن علينا للهدى) هو أنه كان " إن عليا للهدى " (4)، وعن " الكنز " مسندا عن جابر، عن الصادق في حديث: " وأما قوله: (إن علينا للهدى) (5) يعني إن عليا هو الهدى " (6). وإن شئت قلت: إن علينا للهدى، بإضافة " علي " إلى الضمير، كما في قولك: مررت بأحمدكم، وكونه صلوات الله تعالى عليه الكتاب، نظير كون عيسى - على نبينا وآله وعليه السلام - كلمة الله، كما صرح به الكتاب في سورة النساء (7).

إذا تبين لك هذا الأمر، وتبين من قبل أن المراد من المتقين هو العموم الأفرادي الاستغراقي، وأن التقوى لا تختص بطائفة دون طائفة، فإن المجردات الأمرية أيضا من المتقين، وهم أهل التقوى من أن ينظروا إلى أنانيتهم ووجودهم مقابل الوجود الحقيقي، فهم منزهون ومتقون عن الظهور والتجلي زائدا على تجلياته تعالى. وجودك ذنب لا يقاس به ذنب فيجتنبون عن مثل هذا الذنب العظيم، ويتقون ويهتدون بهداية الله، الذي هو في القوس الصعودي علي (عليه السلام) والإنسان الكامل، الذي هو باطن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فمن هذه الآية يستفاد لزوم كون الإنسان الكامل في القوس الصعودي وفي الحركة المعنوية، بالغا إلى مبدأ القوس النزولي حتى تتم دائرة الوجود، ولا يلزم التكرار في التجلي على حسب ما تقرر في محله من: أن الموجودات المتحركة بالحركات الذاتية لا تنتهي حركتها إلا بعد الوصول إلى عز القدس، وإلى التلبس باكتساء اللباس الوجوبي الباقي ببقائه تعالى (8).

وبالجملة: تحصل أن الآية الشريفة وإن كانت - حسب الآيات الأخر - ناظرة إلى المتقين في هذه النشأة، ولكن بحسب النظر الدقيق ربما ينتهي معناها إلى ما أفدناه، مع أن مفاد الآيات الأخر لا يقصر عن شمول الموجودات الأمرية، ولو كان يفسر القرآن بعضه بعضا، فيكون المتقون هم المؤمنون بالغيب... إلى آخر الآيات، ولكن عموم الآية الأولى لا يفسر بها، كما لا يخفى. إن قلت: ليس التقوى إلا الاجتناب عما حرم الله تعالى أو يعد مورد الشبهة، وهذا هو المقصود منه في الشرائع. قلت: كلا، فإن التقوى: تارة تنسب إليه تعالى، ويقال: (هو أهل التقوى وأهل المغفرة)، فيكون المراد منه أنه يليق بأن يتقى منه دون غيره، وله تفسير آخر ربما يأتي - إن شاء الله تعالى - في محله.

وأخرى تنسب إلى الخلق من الله تعالى أو من سخطه بالنسبة إلى المحرمات والمشتبهات، فالمراد منه التحفظ عما ينافي أو يضر بحصول الكمالات أو بالكمالات الحاصلة الإنسانية، ولها عند هذا الإطلاق مراتب عديدة، بعضها قبل الإسلام، وبعضها بعد الإسلام وقبل الإيمان، وبعضها بعد الإيمان بمراتبها المنتهية إلى الفناء التام الذاتي. فأولى مراتبها: الانزجار عن مساوئ النفس ودواعيها النافية للعاقلة، وهي مقام الاستغفار. وثانيتها: الانصراف عنها وطلب الخلاص منها بالفرار، وهي مقام التوبة. وثالثتها: الرجوع إلى الهداية الحقيقية والإنسان الكامل الذي هو خليفة الله تعالى، وهي مقام الإنابة. وهذه الثلاثة مقدمة على الإسلام، ولعل إليها يشير الكتاب العزيز بقوله: (يا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) (9)، ويقول في موضع آخر: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له) (10). فإذا أسلم الإنسان على يد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو خليفته، وقبل منه أحكامه القالبية من أوامره ونواهيه، حصل له مرتبة رابعة من التقوى، التي هي التحفظ عن مخالفة قوله بامتثال أوامره ونواهيه. والخامسة: الانزجار عن الوقوف على ظواهر الشرائع بطلب البواطن وروحها، وطلب من يدله على تلك البواطن، وهاتان بعد الإسلام وقبل الإيمان. وهذه التقوى هي تقوى العوام، وتنقسم باعتبار إلى تقوى العوام من الحرام، وتقوى الخواص من الشبهات، وتقوى الأخصين من المباحات. وإذا وجد الطالب من يدله على روح الأعمال، وتاب على يده توبة خاصة، وآمن بالبيعة الخاصة الولوية، واستبصر بباطنه من الرذائل والخصال، حصل له المرتبة الأخرى من التقوى، وهي التحفظ من الرذائل باستكمال الخصال، وإذا تطهر قلبه من الرذائل وتحلى بحلية الفضائل، فربما تجلى له الشيطان، فيرى أن تلك الأفعال والأعمال المنتهية إلى هذه الفضائل والخصال، حصلت من نفسه لنفسه وتكون هي حاصلة من قبل جده واجتهاده. وعند ذلك فلابد من المرتبة الأخرى من التقوى، وهي التحفظ من الشرك الأفعالي والصفاتي، إلى أن تنتهي التقوى إلى المرتبة الأخيرة، وهي التحفظ من الشرك الذاتي، فافهم وتدرس، وكن على بصيرة من أمرك.

البحث الرابع: حول كون الكتاب هدى للمتقين ربما تشعر هذه الآية الكريمة بقوله: (هدى للمتقين) باعتبار السنخية بين الهادي والمهتدي، فإنه إذا كان الإنسان من المتقين واقعا، وكان متصورا بصورة نازلة من التقوى بالدرجة الدنيا منها، فهو من الهداية طبعا ويعد من المهتدين، فلابد وأن تحمل الآية الشريفة على أن ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه هدى بالنسبة إلى المهتدين، فيخرجهم من النورانية الضعيفة إلى النورانية الأقوى، وهو خلاف التحقيق من أنه نور من الضلالة في جميع مراتبها، مع أن في ذلك نوع شبهة تخطر ببال الناقصين، كما لا يخفى. وإذا إما يكون هدى للضالين فهو أيضا غير مطلوب، لصراحته في خلافه، بل لا يعقل كونه هداية للضالين المتصورين بصورة الضلالة الآبية عن قبول الهداية، (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) (11). فعلى هذا يبقى الطائفة الثالثة الذين استعدوا للاهتداء والاتقاء والتصور بصورة التقوى والهداية، فهم بما أنهم جامعون للشرائط اللازمة وطاردون للموانع والعوائق الموجودة برفض الخبائث والرذائل يعدون من المتقين، ويكون الكتاب هداية لهم، فهذه الآية الكريمة كأنها تشير إلى اعتبار السنخية بين من يهتدي بهدى الكتاب، وبين الهداية الجائية من قبله، ولا تشمل العناية الإلهية الخاصة إلا الطائفة الخاصة. وبالجملة: القوى والاستعدادات الموجودة في الطبائع: إما تصورت بالصور الشيطانية والسبعية والبهيمية، فهي خارجة عن إمكان الاهتداء بهدى الكتاب، وإما تكون باقية قابلة لأن يعد من المتقين، فهو من المهتدين بهدى الكتاب المبين إن شاء الله تعالى.


1- الجاثية (45): 29.

2- راجع الفاتحة: الآية 6 و 7، علم الأسماء والعرفان.

3- راجع تفسير القمي 1: 30.

4- راجع تفسير فرات الكوفي: 214.

5- الليل (92): 12.

6- بحار الأنوار 24: 398 / 120، وقد نقل عن " كنز " وهو رمز لتأويل الآيات الظاهرة أيضا: 781.

7- النساء (4): 171.

8- راجع الأسفار 2: 267 - 285 و 7: 148 - 168 و 9: 243 - 273.

9- هود (11): 52.

10- الزمر (39): 54.

11- الأعراف (7): 179.