المعاني والبلاغة

وفيها بحوث:

البحث الأول: وجه الإتيان بكلمة " ذلك " قد اشتهر - كما تقرر - أن كلمة ذلك للبعيد وضعا، فيتوجه السؤال عن وجه الإتيان بها مع أن المشار إليه حاضر. والجواب من وجوه عديدة وطرق كثيرة لا بأس بالإشارة إليها:

1 - عن الأصم: أن الله - تبارك وتعالى - أنزل الكتاب بعضه بعد بعض، فنزل قبل سورة البقرة سور كثيرة، وقوله: " ذلك " إشارة إليها، ولا بأس بتسمية بعض القرآن قرآنا (1). وفيه: أن إمكان التصحيح غير كون الكلام صحيحا بليغا، مشتملا على الأسرار والنكات البلاغية، فالسؤال بعد باق، وتلك السور لابد وأن يشار إليها بكلمة " تلك " فإنها للمؤنث، فتأمل، وإطلاق القرآن على بعض منه أجنبي عن هذه المسألة.

2 - أنه تعالى وعد رسوله عند مبعثه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماحي، وهو (عليه السلام) أخبر أمته بذلك، وروت الأمة ذلك عنه، ويشير إليه قوله: (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا)، وهذا في سورة المزمل، وهي إنما نزلت في ابتداء المبعث (2). وفيه - مضافا إلى ما عرفت - أنه لابد وأن ينزل عليه هكذا، ذلك القول لا ريب فيه، كما هو غير خفي.

3 - أنه تعالى خاطب بني إسرائيل، لأن سورة البقرة مدنية، وقد كان بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى - على نبينا وآله وعليهم السلام -: أن الله يرسل محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وينزل عليه كتابا (3). وفيه ما أشير إليه.

4 - أنه تعالى لما أخبر عن القرآن: بأنه في اللوح المحفوظ بقوله: (وإنه في أم الكتاب لدينا)، فكان قد أخبر عنه ب? " ذلك " هنا (4). وفيه ما عرفت، مع أن ما أخبر به تمام الكتاب، ولا معنى للإشارة إليه ب? " ذلك "، للزوم كون المشير والمشار إليه واحدا.

5 - أن الإشارة ب? " ذلك " إلى (ألم)، ولأجل انقضائه فهو في حكم المتباعد (5). وفيه: أن " ذلك " للغائب سواء كان بعيدا أو قريبا، هذا مع عدم انحلال الإعضال والإشكال للإشارة بذلك إلى ما فيه كل الريب حسب أفهام عموم الناس، فتدبر.

6 - أن القرآن لما اشتمل على حكم كثيرة وعلوم عظيمة يتعسر الاطلاع عليها بأسرها، فهو وإن كان حاضرا بصورته، ولكنه غائب عن الصور البشرية بسيرته وأسراره، فجاز أن يشار إليه ب? " ذلك " (6). وإن شئت قلت: إن الإنسان حين الانسلاخ من هذا البنيان، يشاهد أو يتحقق بمراتب العالم التي هي بوجه حقائق القرآن، وبوجه مراتب الإنسان، ويظهر من تلك الحقائق بحكم اتباع الداني للعالي، واقتضائه من حظوظ العالي، وإفاضة العالي على الداني صورا مناسبة لتلك الحقائق، كما عرفت في معاني الفواتح، فيسهل عليك معرفة أن قوله تعالى: (ذلك الكتاب) إشارة إليها، ولمكان تعظيم تلك الحقائق، وبعدها غاية البعد عن إدراك الأبصار والبصائر، أتى باسم الإشارة للبعيد، بل هذا الاسم من لوازم ذلك البعد المعنوي في النشأة الظاهرة.

والذي هو الحق: أن هناك ادعاء لإفادة الغيبوبة والبعد بإتيان ألفاظها، وذلك الادعاء هو أن الكتاب الذي هو بحقيقته مورد الإشارة لا بلفظه، ضرورة أن لفظه حاضر، وهكذا في جميع مواضع استعمال تلك الألفاظ، فإذا قيل: ذلك الرجل جاءني، فلا يكون اللفظ غائبا، بل المعنى غائب وبعيد، وما هو مورد الإشارة هو معنى الرجل، فما هو مورد الإشارة والإيماء هو معنى الكتاب وهو غائب، ولا يكون قابلا للإشارة إليه بألفاظها الموضوعة للإشارة إلى الحاضر، وهذا ليس إلا مجرد دعوى، وإلا فلا غائب عن محضره الربوبي، فإن العالم بقضه وقضيضه أشد حضورا لديه من حضوره عند نفسه، كما تقرر في العلوم العالية، فجميع الألفاظ المستعملة في الغائب والبعيد، يكون مشتملا على نوع مجاز ادعاء، لأن مناط الحضور والغيبة حال التكلم، لا المخاطب والمستمع. نعم لابد من مصحح هذه الدعوى كما في سائر الموارد، وما هو المصحح ليس إلا إفادة أن تلك الحقيقة بعيدة عن الأنظار، غائبة عن النفوس البشرية، وبهذا ترفع شبهة اتحاد المشير والمشار إليه إذا كان المشار إليه القرآن، كما ورد في المحكي عن الإمام (عليه السلام) أنه قال: " هو القرآن الذي افتتح ب? " ألم " هو ذلك الكتاب الذي أخبر به موسى ومن بعده من الأنبياء (عليهم السلام)، وهم أخبروا بني إسرائيل: أني سأنزله عليك يا محمد... " (7) إلى آخره. وهذا الخبر يشير إلى أن " ذلك الكتاب " خبر ل? " ألم ".

وغير خفي: أن لتلك الحقيقة مراتب، مرتبة منها ذاته الأزلية السرمدية، ومرتبة منها العترة الطاهرة التي لا تفارقه حتى يردا عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) الحوض، فاختبر. البحث الثاني وجه تعريف " الكتاب " لا يبعد حسب بعض الأنظار كون الكتاب خبرا ومسندا في هذه الآية الشريفة، وعلى هذا يتوجه السؤال عن وجه تعريف المسند وظهوره في الحصر، حسب ما اعترف به أرباب الفن (8)، وإن كان يحتمل كونه تأكيدا في مفاد الجملة. وبالجملة: على التقدير المزبور فلابد هنا من أحد أمرين: إما دعوى أن سائر الكتب ليست حقيقة كتابا، لزواله واضمحلاله وفنائه بمرور الدهور ومضي الأيام والعصور، وما هو الثابت والمحرر الباقي هو هذا الكتاب دون غيره، وأما أن تلك الحقائق حقيقة الكتاب الذي كتبه الرحمن بالأقلام الإلهية على الألواح السماوية أو الأرضية، وسائر الكتب المدونة الإلهية وغير الإلهية صور شؤون ذلك الكتاب، ومرتبة نازلة منه، لكن الكتب الحقة بأنواعها صور شؤون تلك الحقائق التي تتراءى في المرائي المستقيمة الصافية، والكتب غير الحقة بأنواعها وفنونها وشؤونها المترائية في المرايا المعوجة الكدرة التي لا ترى الصور فيها إلا على خلاف ما هي عليه (9). ويمكن دعوى: أن وجه حصر الكتاب بهذا الكتاب ما في نفس الكتاب، وهو كونه بلا ريب بنحو الحقيقة والواقعية، أو لأجل بيان الشرافة والعظمة، فكأنه يرى أن ما فيه الريب والشك والاتهام والظن ليس من الكتاب، فعند ذلك ادعى انحصار الكتاب بهذا الكتاب، النازل من تلك الحقائق الراجعة إلى الحقيقة الواحدة الواجبية. وبناء على هذا يكون جملة (لا ريب فيه) بمنزلة العلة للجملة الأولى، ولم يذكر في جملة الاحتمالات السابقة هذا الاحتمال وبعض آخر أيضا، إذا أضيف إليها يصير الاحتمالات في كيفيته إعراب الآية الشريفة أكثر.

تذنيب

من كان من المتدبرين وأهل العلم، يجد أن اختلاف القوم في المراد من الكتاب ناشئ عن عدم عثورهم على وجه الإتيان ب? " ذلك " مع أنه للبعيد، وتشتتوا في هذه المسألة غاية التشتت ونهاية الاختلاف، فقالوا: المشار إليه ما نزل بمكة من القرآن، قاله ابن كيسان وغيره، أو التوراة والإنجيل، قاله عكرمة، أو ما في اللوح المحفوظ، قاله ابن حبيب، أو ما وعد به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من أنه ينزل إليه كتابا لا يمحوه الماء، ولا يخلق على كثرة الرد، قاله ابن عباس، أو الكتاب الذي وعد به يوم الميثاق، قاله عطاء بن السائب، أو الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل، قاله ابن رئاب، أو الذي لم ينزل من القرآن، أو الحروف المقطعة (10).

وقال أبو حيان: سمعت الأستاذ أبا جعفر بن إبراهيم شيخنا يقول: " ذلك " إشارة إلى " الصراط " في قوله: (إهدنا الصراط المستقيم)، كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم، قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب، وبهذا البيان يتبين وجه الارتباط بين سورتي البقرة والفاتحة. وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شئ سبق ذكره (11). انتهى. وأنت قد اطلعت على أن الغياب والبعد لا معنى لهما حقيقة في ناحيته الإلهية، وفي حضرته الربوبية، ولا يعقل القرب والبعد ولا الغيبة والحضور على نعت التقابل بين الأشياء بالنسبة إلى ذلك المقام الشامخ، فلابد من كونه من الادعاء كما سبق، ولو كان ما أفاده أخيرا صحيحا لكان المشار إليه تلك الحروف، لما سبق ذكره. إن قلت: لا نسلم كون المناط في استعمال ألفاظ القريب والبعيد، من حروف الإشارة إلى المتكلم وصاحب الكلام، بل المناط يمكن أن يكون حال المرسل إليه والمرسل له، فإذا يمكن أن يكون ذلك في الاستعمال القرآني حقيقة لغوية، وإذا أمكن ذلك، فلاتصل النوبة إلى الحقيقة الادعائية والمجاز. قلت: نعم يصح ذلك بالنسبة إلى المتكلم، الذي يمكن أن يعتبر له الغيبة والحضور بالنسبة إلى الأشياء، بمجرد انعطاف النظر والتوجه إلى الغير، كما يصح أن يشير أحد إلى مخاطبه بكلمة ذلك عند عطف التوجه عن المشار إليه والالتفات إلى المخاطب، وأما بالنسبة إليه تعالى وتقدس فلا يعقل ذلك، فلابد من كون جميع أمثال هذه الألفاظ على نعت الادعاء والحقيقة الثانوية، فتبصر تعرف.

البحث الثالث: حول إطلاق " الريب " قضية ما تحرر في الأصول وفي علم البلاغة: أن كلمة لا النافية الداخلة على الألفاظ الموضوعة للأجناس، تفيد العموم، والمراد منه أن المنفي هو الجنس، وبانتفائه ينتفي جميع مصاديقه ومراتبه المتصورة والممكنة، وإلا فلا عموم اصطلاحي في قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه) نعم قضية الإطلاق - بعد كون المتكلم في مقام إفادة نفي الريب كلا - هو أن جميع مراحل الريب في جميع النشآت، عن جميع مراتب الكتاب ومعانيه منتفية، وحيث قد عرفت أن الريب ضد اليقين، فكل شئ يعد خلافه، فهو منفي بالنسبة إلى الكتاب الإلهي، ظنا كان أو وهما أو شكا وتخيلا، بل الظنون الخاصة أيضا منتفية، لأنها خلاف اليقين والعلم. ثم إنه يثبت العموم من جهة أخرى وهو: أن قضية حذف المتعلق أن المنفي هو الريب في أية جهة كانت، فلا ريب فيه من أنه إعجاز، ولا ريب فيه من أنه من عند الله، ولا ريب فيه من أنه محفوظ، ولا ريب فيه من صحته، وغير ذلك مما يمكن توجيه الارتياب إليه من النواحي المختلفة والجهات المتنوعة، فكل كمال يمكن إثباته للكتاب ويعد كمال الكتاب، فهو ثابت له، لنفي الريب بنحو الإطلاق عن ذلك الكتاب بلا ارتياب، فهو شفاء بلا ريب، وهداية بلا ريب، وبلاغ وبشير ونذير وفرقان وقرآن وبصائر وروح وفصل بلا ريب ولا ارتياب، وهي النعمة والبرهان والنور والدين القيم والحق والعزيز والكريم والعظيم، بلا مرية ولا شك وبلا ظن ولا تهمة، وغير ذلك من الأوصاف المذكورة في الكتاب الإلهي لهذا السفر القيم، من التنزيل، والذكر، والحكم، والحكمة، والحكيم، والمحكم، والحبل، والصراط المستقيم، والبيان، والتبيان، والمبين، والنجوم، والمثاني، والهادي... وهكذا. ثم إن العموم المذكور لا يثبت على قراءة الرفع، لأجل أن قولنا: ليس رجل في الدار، لا ينافي قولنا: ولكن رجلان فيها، وذلك لظهور التنوين في التنكير، فيدل على الوحدة.

ودعوى: أن التنوين على أقسام ربما تبلغ إلى عشرة ولو كانت مسموعة، ولكن الظهور التصديقي والتبادر العرفي منه، هو إفادة أمر زائد على الطبيعة، وتصير نكرة بذلك. وتوهم: أن لا النافية للجنس تتكرر، في محله، ولكنه أمر غالبي، ولا برهان عليه، فالمتعين أنه اللا النافية للجنس، وليست مشبهة ب? " ليس ". نعم ربما يقال: إنها جملة خبرية صدرت في مقام الإنشاء، ككثير من الجمل الخبرية، مثلا: إذا قيل: (لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)، فهو في مقام النهي عن هذه الأمور، وليست للنفي حسب الإرادة الجدية (12).

وفيما نحن فيه - بعد وجود الارتيابات المختلفة من الأبناء والأمم الكثيرة في هذا الكتاب أصلا وفرعا - تكون الجملة ناهية بحسب الجد، ويصير مفادها: أن هذا الكتاب لا يجوز أن يرتاب فيه، أو ذلك الكتاب لا يرتاب فيه تعبدا وادعاء لا واقعا. وهذه الدعوى غير مقبولة بعد وجود تلك الارتيابات الكثيرة من نواح شتى، لأن الدعوى تصح بالمصححات العقلائية، فإذا قيل: أسد علي، فهو في مورد يتجلى منه آثار الشهامة والشجاعة، ولا يجوز في موقف خلافها، بل ولا في مورد ضعفها ونقصانها، فينحصر بكون الجملة إخبارية استعمالا، وإنشائية حسب الجد والواقع، لا حقيقة ولا ادعائية. وإلى هذا يرجع ما عن بعض الملاحدة: بأنه إن عنى أنه لاشك فيه عندنا فنحن قد نشك فيه، وإن عنى أنه لاشك فيه عنده، فلا فائدة فيه (13). أقول: هنا أمر آخر قد غفل عنه الأصحاب، وهو أن من كان - بحسب نفس الأمر والواقع - عالما بعدم الهرج والمرج في منطقة من مناطق العالم، وكان الناس - لعدم اطلاعهم على الواقع ولجهلهم به جهلا مركبا - معتقدين بذلك فيها، فيرون فيه تمام الاختلال والهرج والمرج، فهل يجوز أن يخبر العالم بانتفاء ذلك فيها بخلاف ما كان يعلم، أم عليه الإخبار والإنباء بما يراه ويعلم؟لا كلام ولا شبهة في تعين الأمر الثاني حسب الفطرة والعقل، فعلى هذا تنحل المعضلة، وتصير النتيجة: لزوم الإخبار بأنه لا ريب فيه، لما يرى أنه لا يشتمل على أدنى مرية، فيكون الظهور الثابت باقيا على حاله، ويتعين الأخذ به. وتوهم: أن الظهور في الجملة الإخبارية ممنوع، فاسد جدا، ولا سيما بعد الإخبار بأنه هدى للمتقين، كما لا يخفى، ولو قلنا بأن كلمة " لا ريب " خبر، وتكون القضية موجبة معدولة لا سالبة محصلة، فيكون أوقع في نفي الريب، لظهور الآية في الحمل الأولي، ويصير مفهوم الكتاب ومفهوم اللاريب واحدا، فافهم واغتنم.

البحث الرابع: حول اتصاف الكتاب بالهدى مقتضى ما تحرر في بحث القراءة: أن الآية ظاهرة في أن الكتاب نفسه الهدى ضد الضلالة، لا أنه فيه الهدى، ومن هذا الحمل المواطاة يستفاد أن المقصود إفادة الاتحاد: إما بنحو الحقيقة الأولية، أو الحقيقة الثانوية المعبر عنها بالمجاز والادعاء، وحيث لا سبيل إلى الأول يتعين الثاني، وقد مر أن الدعوى لا تصح إلا بالمصححات العقلائية، ولكنها هنا واضحة، أو يكفي لذلك كون المتكلم في مقام إفادة المبالغة، وأن الاهتداء بهذا الكتاب يبلغ إلى حد يصح أن يقال: هذا الكتاب هو الهدى. وهذا من أحسن موارد البلاغة في المبالغة، وقد تعارف بين كلمات البلغاء أمثاله. وربما يتخيل: أن الأقرب أن يقرأ: (فيه هدى)، ويكون خبر " لا " محذوفا، لأن في دوران الأمر بين الحذف في الكلمة والمجاز في الإسناد يكون الثاني أغرب. وأنت خبير: بما فيه من الانحراف عن جادة الاعتدال، ولا سيما في مثل هذا الكتاب المشحون بالاستعارات والمجازات. وإن شئت قلت: إنه الهدى حقيقة لا مجازا، وذلك لأن هداية الإنسان بعد التصفية الكاملة والتحقق بحقيقة التقوى، تكون بالمعارف والعلوم المخزونة في نفسه وبالكلمات الإلهية والكتب السماوية، وحيث إن الكتاب الإلهي والكلام الرباني، واحد بحسب الحقيقة ومختلف بحسب الاعتبار، كما ربما نشير إليه في بعض البحوث الآتية، فما من القرآن في النفس الإنسانية هو الهدى، لأنه به المهتدى.

وبعبارة أخرى: الهداية حقيقة اهتداء البشر نحو الخير، واهتداؤه لا يتحقق إلا بتحقق ما به الاهتداء في النفوس البشرية، فما هو المهتدي هو الإنسان، وما هو الهدى هو الضياء والنور الحاصل له، ولأجل ذاك وذلك يقال: القرآن نور وضياء، لأن المتنور والمستضئ لا يتحقق استنارته إلا بالقرآن، فيكون القرآن نورا حقيقة، وهداية وضياء واقعا، فما ترى في كتب التفسير هنا وفي سائر المباحث، كله ناشئ من قله الباع وعدم الاطلاع على مغزى المرام واس المطالب. والله الهادي.

البحث الخامس: حول كون الهداية للمتقين لا شبهة عند أهله في إفادة الجمع المحلى بالألف واللام للعموم الاستغراقي، فهو هداية لعموم المتقين. ولو استشكلنا في هذه المسألة، كما قررناه في الأصول، وذكرنا هناك احتياج العمومات في الإفادة المزبورة إلى مقدمات الإطلاق (14)، ولكنه هنا يثبت العموم لتمامية تلك المقدمات، فلا تختص الهداية بطائفة من المتقين. هذا مما لا كلام حوله. وهكذا قد فرغنا عن مسألة الهداية المتعدية بنفسها أو المتعدية باللام وغيره، وتعرضنا لحدود المسألة، وذكرنا أن الهداية في جميع أقسامها وأنواعها بمعنى واحد (15) وإذا قيل: هو هدى للمتقين، فتلك المعاني بمجموعها مورد الإرادة والنظر ولا يختص ببعض دون بعض، فهذا الكتاب يهدي إلى المطلوب بالإراءة والإعلام، ويهدي إليه بالإيصال حقيقة وواقعا. نعم هنا سؤال عن وجه كونه هداية للمتقين، مع أنه هدى الضالين والمضلين. وبعبارة وضحى وكلمة أخرى: لا معنى لذلك إلا أن يراد منه أنه الهدى بعد الاهتداء، فيكون هناك مراتب، وهذا الكتاب بعد الاهتداء، والخروج من ظلمات الكفر والإلحاد والجهل والنفاق، يهدي إلى المراتب العالية. أقول:

أولا: إن الالتزام بذلك مما لا بأس به، ضرورة أن القرآن يشتمل على جميع أسباب الهداية، وقد أعلن ذلك في مواقف مختلفة. ففي مورد يقول: (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا، وما يضل به إلا الفاسقين) (16)، وهذا ربما يكون أول مرتبة الهداية، وهي الإخراج من الظلمات وسجون الطبيعة المظلمة إلى النور. وفي مورد آخر يقول: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور) (17)، وهذه هي أقصى مراتب الهداية، ومن المراتب العالية التي تتحير فيها العقول، وترتعد عندها القلوب والأرواح، وما بينهما المتوسطات.

وثانيا: إن في قوله تعالى هنا وفي غير هذه الآية ترغيبا وتحريضا على التقوى، ودعوة إلى الاجتناب عن المحرمات والمشتبهات مثلا، وذلك لأن يتوجه الناس إلى أن هذا القرآن يهدي من هو أهلها، وتكون بينه وبين الكتاب سنخية ومشاكلة، ومن يريد أن يهتدي بهداه فليتق الله، فهو - مضافا إلى دلالته على هدايته من أول درجاتها إلى آخرها - تدل على أن التقوى والاتقاء لازم ومطلوب. وإن شئت قلت: إن القرآن يهدي على نعت القضية الطبيعية، أي طبعه على الهداية، وهو غير كاف، بل لابد من العزم والإرادة والبناء العملي والقلبي على الاهتداء بأنواره وأشعته. إن قلت: كيف يصح أن يقال: إن ذلك الكتاب هدى، ولا يهتدي به أكثر الناس، ويعانده الملل المختلفة في الأدوار المتعاقبة وفي الأعصار والأمصار؟قلت:

أولا: هذه الشبهة تتوجه على الوجه الأول، وهو كونه هدى على نعت الادعاء والمجاز، وأما على القول بأنه مبالغة تقتضيه البلاغة، أو واقعية كشف عنها الكتاب، كما حررناه، فلا شبهة ولا مرية.

وثانيا: لا يتقوم صحة الدعوى وحسن الادعاء باتفاق الناس أو الأكثرية، بل تصح حسب المحيط والمنطقة الدعاوى الكثيرة، وهي لا تصح حسب المحيط الآخر، وإذا كان بين الناس أمة يعتقدون بذلك، ويرون أنه كتاب الهداية على نعت الاقتضاء، فيكون هذا الادعاء صحيحا جدا، فكيف وقد اهتدى به الملة التي تبلغ اليوم - وهو الثالث من صفر المظفر عام (1391 ه?) - إلى ما بين سبعمائة مليون وثمانمائة، وهو ثلث البشر في الحال تقريبا. فإلى هنا - مضافا إلى ما تبين أخيرا من الإشكال وجوابه - تبين: أن ما ارتكز لدى المفسرين من أن المتقين في هذه الآية هم الذين سمت نفوسهم، فأصابت ضرما من الهداية واستعدادا لتلقي نور الحق، والسعي في مرضاة الله بقدر ما يصل إليه إدراكهم، ويبلغ إليه اجتهادهم، غير موافق للتحقيق. بل كونه هداية للمتقين لا ينافي دلالته على هدايته الأولية، لأن في تعليق الحكم على الوصف إشعارا بالترغيب في الاكتساء به، وإغراء بالتلبس بلباس التقوى، فيكون هداية بالنسبة إلى غير المتقين أيضا.

هذا، مع أن التقوى والاتقاء، لا حقيقة شرعية له حسب ما تبين في البحوث السابقة، فيكون الكافر والفاسق والمؤمن مشتركين في وصف الاتقاء، فمن اتقى عبادة الأصنام - وإن لم يكن مؤمنا - فهو من المتقين، وهكذا سائر الطبقات. وما ورد من طرقنا: بأن المتقين هم شيعة علي (عليه السلام)، كما عن " إكمال الدين " مسندا عن الصادق (عليه السلام) (18)، ومن طرق العامة: بأنهم المؤمنون (19)، فهو لا يفيد الحصر، كما تحرر وتقرر، بل الأخبار والأحاديث تتكفل بيان المصاديق الخاصة، ولا تتكفل إفادة حدود المراد من الكتاب.

والله العالم بالصواب. ومن هنا يظهر ضعف ما قيل: بأن المتقين هنا مقابل الكفار والمنافقين في الآيات الآتية، التي هي تسع عشرة آية: متكفلة لحالات المتقين ثلاث آيات، ولحال الكافرين ثلاث، ولحال المنافقين ثلاث عشرة آية، وذلك بدعوى أن هذه الآيات الثلاث تشتمل على أن المؤمن والمتقي يكون متصفا بخمس صفات: الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق، والإيمان بما أنزله الله، والإيقان بالآخرة، ويكون هؤلاء على هدى من ربهم، فدل هؤلاء على أن تلبسهم بهذه الصفات الكريمة وبهداية منه تعالى، حيث يقول: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) ثم وصف الكتاب بأنه هدى بهداية المتقين بقوله: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)، فيعلم من ذلك أن المتقين محفوفون بهدايتين، والهداية الثانية مرادة من قوله تعالى: (هدى للمتقين)، كما أن الآيات الآتية تفيد: أن الكفار والمنافقين بين الضلالين والعمايتين، حيث يقول: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة)، ويقول: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) (20). أقول: والإنصاف: أنه خلاف التحقيق، كما عرفت منا، فإن توضيح أوصاف المتقين بإقامة الصلاة والإيقان بالآخرة لا ينافي كون الآية ترغيبا في رفض الكفر والنفاق، والاندراج في سلك المتقين، وتوضيح الكتاب أوصاف المتقين لا يضر بالاستخراج المذكور. وهذا نظير ما إذا قيل: هذه الدناير للعلماء، فإن في ذلك تحريكا إلى كسب العلم والاندراج في مسلكهم بنحو أبلغ وأحسن.


1- راجع التفسير الكبير 2: 12.

2- التفسير الكبير 2: 12 - 13، روح المعاني 1: 98.

3- التفسير الكبير 2: 13.

4- نفس المصدر.

5- راجع نفس المصدر.

6- نفس المصدر.

7- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 62 / 32، ومعاني الأخبار: 24 - 25 / 4.

8- راجع تفسير بيان السعادة 1: 45.

9- راجع الكشاف 1: 33.

10- انظر حول هذه الاختلافات إلى البحر المحيط 1: 36.

11- البحر المحيط 1: 36.

12- راجع مجمع البيان 1: 36، وتفسير البيان 1: 53، والجامع لأحكام القرآن 1: 159، وروح المعاني 1: 100.

13- التفسير الكبير 2: 19.

14- تحريرات في الأصول 5: 197.

15- راجع الفاتحة: الآية 6، اللغة والصرف، المسألة الأولى.

16- البقرة (2): 26.

17- المائدة (5): 15 - 16.

18- راجع كمال الدين 2: 340 / 20.

19- راجع الدر المنثور 1: 24.

20- راجع تفسير الميزان 1: 43 - 44.