التحقيق في المسألة

القريب إلى أفق الواقع رابعها: في المصاحف - كمصحف الجلالين وغيره - ذكر مكي السورة ومدنيها، وعدد آياتها المكية والمدنية، وكذلك لاحظت أن كثيرا من السور لم تنزل دفعة واحدة. وهذا واضح في سور كثيرة، فالمعروف أن سورة العلق أول ما نزل خمس آيات، أي إلى قوله تعالى: (ما لم يعلم). راجع " إمتاع الأسماع " للمقريزي. وأما سورة البقرة فنزلت مختلفة - كما عرفت فيما سبق بتفصيل - وهذا يشعر بأن سورة البقرة لم تكن ذات طول واحد أو ترتيب واحد منذ بدء وحيها، ولكن تألفت في الأدوار المختلفة حتى أصبحت في ترتيبها الأخير التوفيقي، ولو أردنا أن نتبع نزول الآيات في سورها وتاريخها لإثبات ما تقدم، فالمجال واسع جدا، إذ لا تكاد تخلو سورة كبيرة منه. وإنما نتعرض للعهد المكي قبل غيره فيما لم يكن القرآن قد رتب ترتيبا أخيرا، ولكن كثيرا من سوره كان مرتبا ترتيبا أوليا وكذلك لأول العهد المدني. ويؤيد ما سبق في سورة البقرة ما روي عن أبي بن كعب في حديث إسماعيل ابن جعفر، عن المبارك بن فضالة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، قال لي أبي بن كعب: كأين تعد سورة الأحزاب؟قلت اثنتين وسبعين أو ثلاثا وسبعين آية. قال: إن كانت لتعدل سورة البقرة، وإن كنا لنقرأ آية الرجم فيها. راجع " الإتقان " (1).

فإن في ظاهر قوله طعما شهيا يتصيد به المتصيدون من أعداء الإسلام، لأن سورة البقرة في وضعها الحاضر تحوي (286) آية، وهناك مجال لأن يسأل: فأين ذهبت (213) آية من الأحزاب؟وهناك رأي آخر نقله السيوطي في " الإتقان " عن مالك، يقول: بأنه قد ثبت بأن سورتي البراءة والبقرة كانتا من طول واحد (2)، فإذا علمنا أن، براءة تحتوي (130) آية، والبقرة تحوي (286) آية، فإن هناك مجالا للتسائل من قبل السطحيين من أعداء الإسلام وحتى من المسلمين عن مصير هذا الفرق وهو (156) آية، والقولان سيثبت بأنهما صحيحان ولا غبار عليهما. اعلم أن سورة البقرة هي أول السور المدنية، والأحزاب هي رابعة السور المدنية في النزول، أي من أوائلها، ولا يبعد أنهما كانتا تعدلان بعضهما البعض في الدور الأول من العهد المدني، ولقد لفت نظري أن بداية سورة البقرة (ألم) يساوي بحساب الجمل (71)، والأحزاب على قول (72) أو (73) آية، فهما في هذه الحالة تعدلان بعضهما البعض، لأن كلمة " تعدل " صادقة مع التقارب، وهذا يدلنا إذا تطابقت هذه الطريقة على سور أخرى، أن سورة الأحزاب والبقرة كانتا في دور من أدوار الوحي من طول واحد تقريبا، أي كانتا تتعادلان، فقول أبي - على هذا الأساس - صحيح، وسوف لا يكون هناك مجال بعد ذلك لأن يتسائل إنسان: أين ذهبت (213) آية من الأحزاب أو (156) آية من البراءة؟فأنت ترى من هذه الخدمة الجليلة التي يؤديها الرمز (ألم) هنا في دفع شك كبير قد يتطرق إلى الباحث عند مطالعة البحث المشوش عن جمع القرآن في " الإتقان " وغيره، وفي تأييد قول الصحابي كأبي بن كعب ونحوه.

ومما تقدم يظهر: أن سورة الأحزاب لم تضم إليها آيات جديدة بعد أن وصلت الآية الثالثة والسبعين، بعكس سورة البقرة، فإنها طالت بما ضم إليها من آيات جديدة، فكانت في دورها الثاني في طول (براءة تقريبا)، وبراءة لم تزد بعد الآية (130) بعكس البقرة فإنها ختمت في (286)، وهي نهايتها، فلا تناقض بين الأقوال التي وردت عن تعادل الأحزاب والبقرة، ثم عن تعادل براءة والبقرة، بل كلها صحيحة. ولقد شجعتني هذه النتيجة على الاستمرار بالبحث، وظهرت لي الحقائق التالية: سورة الأعراف: (المص) مجموع هذه الحروف (161) عدد آياتها (205) يلفت النظر أن هذه السورة مكية حتى الآية (161)، أما بقية السورة فمدنية. ويؤيد ذلك: أن السيوطي يذكر: أن من المراجع ما يشير إلى أن آية (163) إلى (174) فهو مدني (الإتقان) (3)، وأما آية (174) وما بعدها (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) فعن عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وأبي روق: أن هذه الآيات نزلت في أمية بن أبي الصلت وقد مر على قتلى بدر، فقال لو كان نبيا ما قتل أقرباءه... إلى آخره (4).

ومن هذا يظهر أن الآيات مدنيات: آية (186) (يسألونك عن الساعة) فعن ابن عباس أنها مدنية (5)، وهكذا آية (203) فعن الزهري والسيوطي أنها مدنية (6)، فمما سبق يظهر للقارئ بوضوح أن (المص) تشير إلى آيات السورة المكيات، ولما كانت هذه السورة من أوائل السور المكية - الثامنة والثلاثون في النزول - فإن الرمز هنا كان يشير بالضبط إلى عدد آياتها في العهد المكي قبل أن تضاف إليها آيات مدنيات في العهد المدني. سورة هود: (الر) مجموع حروفها (231) عدد آياتها (123) آية ما عدا الآيات (12، 17، 114) فإنها مدنيات (7)، وعلى هذه الحال، فإنها تحوي (120) آية مكية في الدور المكي، ويبدو لأول وهلة أن الحساب هنا لا ينطبق، ولكن مهلا أيها القارئ الكريم، وتأمل ترتيب سورة هود في القرآن، فإنها قبل سورة يوسف، وهما بحساب ابن عباس متتابعان في النزول (8)، ويلفت النظر أن سورة يوسف مبتدأة ب? (الر)، فهل هذه البداية تشير إلى أنها تابعة لوحدة هود التي نزلت قبلها، وأن مجموع آياتهما هو مجموع حروف رمزهما المشترك؟قد مر: أن سورة هود تحوي (120) آية مكية وعدد آياتها في الدور المكي (120)، وسورة يوسف (111) آية مكية، بإضافتها إلى آيات هود ينتج (231) آية بالضبط، وهو مجموع آيات هذه الوحدة، ويثبت أن هذه السور ليس فيها دخيل عليها أو نقص، وأن ما أورده السابقون في مدنية الآيات ومناسبات التنزيل صحيح، وهذا البحث يؤيده، ويورث الطمأنينة في كتاب الله، ويدفع عنه الشك في ناحية هامة من حيث جمعه وعدد آياته وضياع شئ منه أو دخول شئ عليه، ويلاحظ بأنه لو كانت في هذه السور زيادات أو نقص لما ضبط الحساب بهذا الشكل الدقيق، فيسقط قول حكاه السيوطي وغيره ك? " المجمع ": بأن ثلاث آية من أول سورة يوسف مدنية، فاغتنم (9). سورة الرعد: (المر) مجموع هذه الحروف (271) عدد آياتها (47) آية بحسب الشامي (10). إننا نرى بأن سورة هود ويوسف والرعد كانت وحدة متتابعة في دور من أدوار جمع القرآن، بدأت بسورتي هود ويوسف، وكان مجموعهما (231)، ثم نزلت وحدة جديدة مكية من القرآن عدد آياتها (40) رمز إليها بالحرف " م " في (المر)، فأصبحت الحروف المقطعة " المر "، فكانت في ترتيبها سورة يوسف مباشرة، كما رتبها زيد بن ثابت، فأصبح مجموع هذه الوحدة (271)، وهو يرمز إليه ب? (المر) فاتحة سورة الرعد، فهل هذا هو الواقع؟نعم، إن عدد آيات سورة الرعد (47) بحسب الشامي، كلها مكية، ما عدا الآيات من (8 - 13) (الله يعلم ما تحمل كل أنثى...) إلى (شديد المحال) فهي مدنية (11)، وكذلك آخر آية منها (ومن عنده علم الكتاب) مدنية (12). فيكون مجموع الآيات المدنيات (7)، والمكيات (40) بالضبط، فبإضافة آيات الرعد إلى وحدة هود ويوسف، ينتج وحدة جامعة كاملة لتلك السور الثلاث، ومجموعها (271) مكية تطابق مجموع حروف (المر)، كما لا يخفى، فليتدبر جيدا. وغير خفي: أن هذا برهان جديد على أن هذه الرموز، كانت تعين عدد الآيات المكيات في السورة والوحدة القرآنية بالضبط، وما مر في الأربع سور من مدني آياتها ومكيها كان صحيحا.

فيظهر لنا: أن هذه السور الرمزية - وهي (29) سورة - كل قرآنها المجيد محفوظ لم تضع منه آية واحدة، وإننا لتلك النكتة وهذه الطريفة، نستطيع أن نصحح كثيرا من الأقوال المشوشة الواردة في المصادر في مكي السور أو مدنيتها، وهكذا في الخلاف على عدد آياتها. ثم اعلم: أن ما سبق إحدى الوحدات القرآنية المبتدأة ب? (الر) و (المر)، وهناك وحدة أخرى من (الر)، وهي تشمل سور يونس وإبراهيم والحجر، وكلها تبدأ ب? (الر)، وليس منها سورة واحدة تعادل مجموع (الر)، ولكن إذا ضمت بعضها لبعض مع فصل الآيات المدنيات من بينها يستقيم الحساب، كما نرى.

سورة يونس: السورة مكية ما عدا ثلاث آيات عن ابن عباس، وهي الآيات (94 و 95 و 96) فهي مدنية (13). ويبدو لنا أن السورة مكية حتى نهاية الآية (93)، ولا يستقيم المعنى إذا اعتبرنا الآيات المستثنيات السابقة مدنيات، لأن ما بعدها متصل بها مباشرة، فإذا كانت مدنيات حقا، فإن الآيات (97) وما بعدها يجب أن تكون مدنية أيضا، حتى يستقيم معنى الوحدة التي تبدأ من الآية (95)، وعلى هذا تصبح سورة يونس - بحسب التحقيق - تحوي (93) آية مكية في دور من أدوار الوحي. وبعبارة وضحى: يلفت النظر اختلاف الرأي في سورة يونس، فالسيوطي يقول في " الإتقان ": المشهور أنها مكية، وعن ابن عباس روايتان أنها مدنية (14). ونتيجة الاختلاف: أن الآيات المنسجمة (93)، فإذا أضيف إليها آيات سورة إبراهيم، وهي (52) آية مكية وآيتان مدنيتان، كما عن جمع، مثل ابن عباس وقتادة والحسن (15)، ثم أضيف إليها آيات سورة الحجر، وهي (86) آية مكية أيضا يصير المجموع بالضبط (231) وهي مجموع (الر). ويدل ما سبق على أن هذه السور كانت في الغالب في دور من أدوار الوحي مرتبة بجانب بعضها البعض، أي متتابعة وأن (الر) المبتدأة بها كانت إشارة إلى أنها جميعها من وحدة واحدة. وغير خفي: أن سورة الحجر مكية بحساب قتادة ومجاهد، وقال الحسن: إلا قوله: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) وقوله: (كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين) (16)، ويضع ابن إسحاق هذه الآية الأخيرة في أوائل ما نزل من القرآن في مكة (17)، وهذا مخالف لما نسب إلى الحسن، وتدل مناسبة التنزيل على أنها مكية. وبالجملة: إننا نلاحظ أن من قوله تعالى: (ولقد آتيناك...) إلى آخر السورة تبدو قد ضمت إلى السورة في فترة أو فترات، فالآية 87 - مثلا - مدنية (18)، والآيات (90) إلى (93) مكيات نزلت في السنة الرابعة للبعثة (19)، والآية (95) وما بعدها مكية نزلت بعد الإسراء، مجموع هذه الآيات - كما هو واضح من فترة غير أو فترات غير فترة مجموعة السورة في مكة كانت تنتهي في الآية (86) فبهذا تنتهي النهاية الجميلة (فاصفح الصفح الجميل) وكن من اللاحظين.


1- راجع الإتقان في علوم القرآن 3: 82.

2- راجع الإتقان في علوم القرآن 1: 226.

3- راجع الإتقان في علوم القرآن 1: 57.

4- راجع مجمع البيان 4: 499.

5- راجع مجمع البيان 4: 505.

6- الدر المنثور 1: 156.

7- راجع الإتقان في علوم القرآن 1: 58 - 59.

8- راجع تاريخ القرآن، أبي عبد الله الزنجاني: 77.

9- راجع مجمع البيان 5: 206، والإتقان في علوم القرآن 1: 59.

10- راجع مجمع البيان 6: 273.

11- راجع الإتقان في علوم القرآن 1: 48.

12- راجع مجمع البيان 6: 273، والإتقان في علوم القرآن 1: 48.

13- مجمع البيان 5: 87.

14- الإتقان في علوم القرآن 1: 47.

15- راجع مجمع البيان 6: 301، والإتقان في علوم القرآن 1: 59.

16- راجع مجمع البيان 6: 326.

17- راجع السيرة النبوية، ابن هشام 1: 290.

18- راجع الإتقان في علوم القرآن 1: 59.

19- راجع السيرة النبوية، ابن هشام 1: 290.