البحوث الراجعة إلى آياتها

المقام الثاني: البحوث الراجعة إلى آياتها قوله تعالى: (ألم) والكلام حوله يقع في جهات، وتلك الجهات والمباحث لا تختص به، بل يشترك فيه سائر الحروف المقطعة المفتتح بها السور. الجهة الأولى في أنها من القرآن والوحي حكي عنه طه حسين - عليه ما عليه -: أنه أنكر ذلك، وقال: إنها لصقت بالسور على مرور الزمان. وقد أخذ هذا الرأي الفاسد من المستشرق " رودويل " (1) حيث ظن أن هذه الحروف المختلفة رموز إلى جامعي القرآن، مثلا: " كهيعص " رمز إلى مصحف ابن مسعود، و " حم عسق " رمز لمصحف ابن عباس، و " طس " رمز لمصحف ابن عمر، وهلم جرا، ثم ألحقها مرور الأزمان بالقرآن، ولا ننتظر من المستشرق إلا مثل هذه الأقاويل، ولا من طه حسين إلا الافتتان بالغرب، وكأنه كان يرى أن هذه الطريقة حديثة، ولا معنى محصل لها، فتكون من الزيادات والتحريفات. وهذا أمر قبيح من العاقل، فإن عدم إمكان الاطلاع على بعض الرموز والحقائق لا يدل على انتفاء كونه من الواقعيات، ويكفي ردا عليه: أن الرجوع إلى النسخ القديمة، وإلى التفاسير الموجودة من القرون الأولى وأواسط القرن الثالث، تثبت خلاف مذهبه، ولو كان مرور الدهور كافيا لكان بعد مضي القرون الكثيرة ينبغي أن تزاد الأشياء الاخر، ولا سيما ما يكون مثلها، فاشتمال النسخ القديمة عليها، وكونها مورد البحث في الكتب التي تكون بين أيدينا من أوائل القرن الثالث، أصدق شاهد على أنها كانت في الابتداء تكتب في القرآن، وليس من الأمور الحادثة المتخيلة. وقيل: إن خلو الكتاب الإلهي عن إفادة شئ يرجع إليها، وخلو السنة الصحيحة عن إبانة مغزاها ومعناها، يومي إلى الزيادة المذكورة. وأجيب عنه: بأن المفسرين أكثرهم قد رأوا أن القرآن لم يشر إليها إشارة صريحة، غير أننا نرى أنه أشار إليها في قوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) (2).

وكذلك في قوله: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) (3). ودليلنا على ذلك ما يلي: أولا: أن الحديث الوارد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله تعالى قال: يا محمد (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم)، فأفرد بالامتنان علي بفاتحة الكتاب، وجعلها بإزاء القرآن " (4)، ولو كان هذا الحديث مقطوع السند ومعلوم الصحة، لما كان هناك وجه لاختلاف المفسرين فيها بل لسلموا قطعا بأنها الفاتحة، وهذا مما لم يتسالموا عليه، كما مر تفصيله في أوائل هذا الكتاب. وبالجملة: إن لهجة الآية تدل على الفخر والاعتزاز والإنعام، ولا نجد هناك وجها ومجالا للامتنان بالفاتحة، ووضعها في كفة ووضع القرآن العظيم في كفة أخرى. وثانيا: يدل منطوق كلمة " مثاني " - الواردة مرة ثانية في سورة الزمر - على أنها هنا تشير إلى السور المبتدأة بالحروف المقطعة، وخاصة المكررة منها من أمثال " حم " و " ألم " و " ألر " و " طس "، وتشير آية الحجر إلى وحدة الحواميم، وعدها سبعا، وينطبق عليها وصف القرآن بكونه (مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) بصورة قوية، ذلك لأن الحواميم هي أكثر سور القرآن احتواء للوعد والوعيد والعذاب والنار، وذلك بخلاف فاتحة الكتاب التي تشعر آياتها بالضراعة والهداية والسكينة، هذا فضلا عن أن مجموع آيات الحواميم السبع - وجميعها مكية - كانت تعادل - في دور من أدوار الوحي - جزءا كبيرا مما كان قد نزل من القرآن في ذلك الدور، يبرر وضعها في كفة وما نزل - وقتئذ - في كفة أخرى. إذا تبين ذلك فانطباق كلمة " مثاني " على السور المبتدأة بالحروف المقطعة، يجعلها وحيا قطعا لا يمكن نفيه، ويدل بالصراحة على أنها لم تلصق بالسور على مرور الزمن. أقول: هذا غاية ما يمكن أن يقال في المقام، وللمناقشة فيه مجال واسع من نواح شتى لسنا في مقام كشف الستر عنها. ويكفي ردا عليه: أن وحدة المراد من كلمة " المثاني " في الآية الأولى والآية الثانية غير واضحة، مع أن عظمة الفاتحة اقتضت جعلها في كفة تقابل كفة القرآن الموصوف بالعظم، واختلاف المفسرين في الحديث أو في أمر مما كثر في جميع العلوم الإسلامية، مع استدلال كل خصم على خصمه بالآية والرواية، فلا يلزم من وجود الحديث الواحد اتفاق الصحابة وأرباب الرأي على مفاده، مع أنه صحيح حسب الصناعة، فما هو الدليل الوحيد اشتمال الكتاب من الأول عليه، وإلا فيمكن المناقشة في كل واحد واحد من هذه الكلمات، كما لا يخفى على الفطن العارف.

الجهة الثانية: في كيفية قراءتها وكتابتها فما هو المتعارف اختلاف الكتابة والقراءة، فإنها تكتب على نسق كتب الحروف البسيطة، وتقرأ على أسمائها، فتكتب: ألم وتقرأ: ألف، لام، ميم، وهذا خلاف الأصل اللازم رعايته في الأساليب (الأدبية)، لما تقرر: أن الوجود الكتبي تابع للوجود اللفظي، وإلا يلزم الإخلال بالغرض، فالمطابقة بين الوجودين لازم حتى يكون القارئون على حذر من الخطأ والغلط، وكما لا يجوز زيادة الكتابة على اللفظ، كذلك لا يجوز نقصانها منه، وقد مضى شطر من هذا البحث في بحوث البسملة وكلمة " الرحمن ". فكمال الخط انطباق المقروء عليه حذو النعل بالنعل، فعلى هذا إما يقرأ الحروف كما كتبت، أو تكتب بصورة الأسماء، وهي هكذا: ألف، لام، ميم، وحيث لا سبيل إلى الأول بالضرورة يتعين الثاني، لاتفاق القراء على هذه الكيفية في القراءة، مع أن مقتضى الفصاحة إبرازها بأسمائها، فإن الطبع لا يقبل غيره، كما ترى.

فالتخلف عن الأصل المزبور ربما كان لأجل أن يحصل التفاوت بين هذه الحروف المقطعة، وبين ما وقع في أول سورة الفيل، وهو قوله تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل)، وفي سورة الانشراح: (ألم نشرح لك صدرك)، أو كان لأجل أن كتابتها بأسمائها ربما يؤدي إلى الإطالة غير اللازمة، كما في (كهيعص)، وإن كان ينبغي أن تكتب بأسمائها المقروءة، حتى لا يمكن إحداث الشبهة في بعض السور الاخر، مثل سورة الدهر: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر)، فإن من الممكن توهم: أن " هل " من الحروف المقطعة، ولكن يكذبها اتفاق القراء والسيرة القراءتية عليه. ويمكن أن يعد هذا أيضا من الأغلاط الإملائية في الكتاب العزيز، فإنها كثيرة، والمتأخرون تحفظا على خصوصيات الكتاب لم يغيروها، أفما ترى أنهم اتفقوا على كتابة " أيها " في قوله تعالى: (سنفرغ لكم أيه الثقلان) (5) " أيه " بدون ألف، وهكذا في مورد آخر وأكثر (6)، ولك دعوى أن ذلك من الرمز في الكتابة، وهو في الجملة متداول في بعض أنواع الخطوط. ثم إن من المحرر في الكتب: أن الألف غير الهمزة، وهو لا يقبل الحركة، بخلاف الهمزة، فعليه لابد وأن نقرأ في أمثال المقام " همزة، لام، ميم " دون ألف، وهذا أيضا نوع اشتباه آخر في أوائل السور. ويؤيد ذلك: أن في اللغة العربية والفارسية، أو في اللغات الشرقية إلا طائفة منها، تكون الحروف واقعة في أوائل أسمائها، فكون " ف " واقعا في أول اسمه وهو الفاء، و " ق " واقعا في أول اسمه، وهو القاف، فيكون أول الألف هي الهمزة، فالألف موضوع للهمزة لا غير. نعم لابد في إفادة الألف من الاعتماد على كلمة يبتدأ بها، واختاروا اللام لذلك، فقالوا: " لا "، وذلك لأن قلب اللام ألف، وقلب الألف لام. وأنت خبير: بأن هذه القواعد الأدبية قابلة للتخصيص، فلا منع لما تداول عقلا.

الجهة الثالثة: في إعراب تلك الحروف فقيل: هي غير معربة لا لفظا ولا محلا: أما الأول فهو واضح. وأما محلا فلا تعرب، لأنها من المفردات كأسماء الأعداد التي توردها لمجرد العد من غير نظر إلى إفادة المعنى التصديقي، وأما السكون عليها فلابد منها، فإنه فرق بين السكون المبتني على الوقف أو البناء، وبين هذا النحو من السكون، ولأجل هذه النكتة إظهار الحركة عليها لا يورث كونها معربة، ولا تكون في الجملة المركبة، كما لا يخفى. وهذا القول منسوب إلى الخليل وسيبويه (7). وعن الأكثر: أن لها محلا إذا أخبرت عنها، وعطفتها ولو بحذف الحرف العاطف، للزوم التأسي بالقراء وبالسيرة القرآنية.

ويمكن أن يكون محلها الرفع على الابتداء، أو على إضمار المبتدأ، والنصب بإضمار فعل، والجر على إضمار حرف القسم (8). وقال ابن كيسان النحوي: " ألم " في موضع النصب، كما تقول: إقرأ " ألم " أو عليك " ألم " (9). وغير خفي: أن اختلاف الاحتمالات ناشئ من اختلاف المباني في معانيها، فمن جعلها قسما التزم بخفض محلها، ومن اعتقد أنها أسماء السور تصور إعراب محلها، وهكذا، ومن أنكر تمكنها جعلها من الكلمة المفردة. والذي هو الحق: أنه على جميع التقادير تكون: إما من أركان الجملة المحذوف ركنها الآخر، أو من متعلقات تلك الجمل، ولا معنى لكونها مفردة، للزوم اندراجها تحت اللغو المستحيل في الكتاب الإلهي، ومقتضى ذلك كونها في محل الإعراب والتمكن. فما عن الخليل وسيبويه ساقط جدا. وأما تعديد الأعداد فهو أيضا كذلك، فإن العاد آخر ما يريد من التعديد، إعلام الطرف بأنه يتمكن من ذلك ويعلمه، فيكون في موضع النصب على المفعولية. نعم إيجاد المفرد لغرض الأمر الطبيعي ممكن، كما إذا كان يقول بصوت رفيع: " إسحاق "، ويريد أن يفرج عن حلقومه، ولكنه هنا غير صحيح، فعلى جميع المسالك تكون من الأسماء المتمكنة. إن قلت: هذه حروف لا معنى لكونها في محل الإعراب. قلت: كيف وإذا قال: " أب ت ث من الحروف "، تكون في موضع الرفع على الابتداء. هذا، مع أن الحاكي من الأسماء، وما هو في محل الإعراب والبناء هي الجمل الحاكية، لا المكتوبة المحكية، مع أن اللازم اتحاد الحاكية مع المحكية في هذه الجهة، كما هو الظاهر، فتأمل.

تذنيب

قيل في إعراب هذه الحروف وجوه ومحتملات بملاحظة ما هو المقدر، وما هو المذكور بعدها، وربما تبلغ تلك إلى أحد عشر ألف ألف ألف ألف وأربعمائة وأربعة وثمانون ألف ألف ألف ومائتان وخمسة آلاف ألف وسبعمائة وسبعون ألفا ومائتان وأربعون وجها وهذه أرقامه: (11484205770240)، ونشير إلى ابتدائها، وأنت تقف على تفصيلها إلى انتهائها وهو: أنها إن كانت حروف الاسم الأعظم: فإما يكون له محل من الإعراب أولا، فإن كان ذا محل من الإعراب، فإما أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، أو خبرا محذوف المبتدأ، أو مفعولا لمحذوف، مثل " أذكر " أو " ادع " أو الف مما يناسب المقام، أو هو مقسم به منصوب بفعل القسم، أو مبتدأ لما بعده، أو خبر لما بعده، أو منادى بتقدير حروف النداء، فهذه ثمانية أوجه تجري بأعيانها أو أمثالها في جميع الوجوه المحتملة في " ألم " التي هي تقرب من ثلاثين على ما حكيناه، ومن اثني عشر على ما هو المعروف بينهم، وتحصل من الضرب في اثني عشر ستة وتسعون وجها، ويجري في كل وجوه عديدة من الإعراب بحسب تركيبه مع ما بعده.

مثلا: إذا كان " ألم " مأخوذا من حروف الاسم الأعظم، وكان مبتدأ محذوف الخبر تقديره حروف " ألم " الاسم الأعظم، وذلك بدل له، أو عطف بيان، والكتاب صفة لذلك، أو بدل منه، و " لا ريب " على قراءة الفتح والرفع " لا " فيه لنفي الجنس، أو عاملة عمل " ليس " أو ملغاة من العمل، فهذه اثنا عشر، والجملة حال أو مستأنفة، فتلك أربعة وعشرون، وخبر " لا " محذوف، و " فيه " صفة لريب، أو حال عنه، أو حال عن " ألم "، فتلك اثنان وسبعون و " هدى " حال من الريب أو من " ألم "، أو صفة للريب، أو خبر مبتدأ محذوف، أو مفعول فعل محذوف، أو تمييز، فتلك ستة عشر وجها مضروبة في الاثنين والسبعين، فيحصل (1152)، وهكذا في " المتقين " (10)، وقيل: تلك الوجوه المحتملات هي الشائعات التي لا شذوذ لها ولا ندور ولا غلق فيها، وأما الوجوه الضعيفة فتبلغ أضعاف ذلك، حسب اختلاف المرادات من " ألم " (11)، فلا تخلط، وكن على بصيرة من إعجاز الكتاب الإلهي.

الجهة الرابعة: الحروف المقطعة في كلام العرب ربما يشكل الأمر على الشباب، لأجل أن الكتاب الإلهي كتاب القانون، وكتاب الهداية والإرشاد، وكتاب عرف نفسه: بأنه تبيان كل شئ، وعرف نفسه: بأنه عربي مبين، ولا يشتمل على العجمة والإجمال وعلى الإرماز والإهمال، فكيف يمكن الالتزام بأنه في افتتاحه ابتدأ بمثلها، وهو على خلاف الأسلوب المألوف في التآليف والتصانيف، مع خلو سائر الكتب السماوية منها ؟! فهذا يؤيد خلو هذا الكتاب العزيز منها، والتحاقها به في مر الأزمان ومضي القرون.

أقول:

أولا: تكلمت العرب بالحروف المقطعة - نظما ونثرا - بدل الكلمات التي تكون الحروف منها، كقوله: فقلت لها: قفي فقالت: قاف (12) وأراد قالت: وقفت. وقال زهير: بالخير خيرات وإن شرا فا ولا أريد الشر إلا أن تا وأراد: وإن شرا فشر، وأراد إلا أن تشاء، وعن آخر: نادوهم أن ألجموا ألا تا قالوا: جميعا كلهم ألا فا وأراد: ألا تركبون، قالوا: ألا فاركبوا. وفي الحديث: " من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة... " قال شقيق: هو أن يقول في " اقتل ": اق، كما عنه (عليه السلام): " كفى بالسيف شا " معناه: شافيا (13).

وثانيا: هذا اليسير من الإجمال في الكتاب العزيز، لا يضر بذلك الكثير من القوانين الواضحة والآداب والأحكام البينة الظاهرة، ولا سيما بعد صراحة الكتاب بوجود المتشابهات، بناء على كون معناها التشابه بحسب المعنى والمقصود، لا بالمعنى الآخر المقرر في محله، فانتظر.

وثالثا: كثيرا ما تكون الكتب العلمية والفنية وسائر الكتب السماوية، مشتملة على نقاط مبهمة وتراكيب غير واضحة، ولأجل هذا وذاك احتاجت إلى التوضيحات والتحشية، مع الاختلاف الشديد فيها وفي مراد قائلها، حتى ألفاظ القوانين العرفية، فإن المحامين تختلف أنظارهم في مفاد الدستور، وما ذلك بعزيز جدا. وأما أمثال الفراء والمبرد والقطرب والزمخشري وغيرهم، فقد أفرطوا في جعل حكمتها الإشارة إلى إعجاز القرآن، ولقد أطال في المقال " الكشاف " والبيضاوي، فليراجع (14).

الجهة الخامسة: حول أن (ألم) آية اختلفت آراؤهم وهوساتهم في أنها آية من الكتاب، فقال الكوفيون: (ألم) آية، وهي آية في أول كل سورة ذكرت فيها، وكذلك (المص) و (طسم) وأخواتها و (طه) و (يس) و (حم) وأخواتها إلا (حم عسق)، فإنها آيتان، و (كهيعص) آية، وأما (المر) وأخواتها فليست آية وكذلك (طس) و (ص) و (ق) و (ن)، فإنها حروف دل كل حرف منها على كلمة، وجعلوا الكلمة آية، كما عدوا (الرحمن) و (مدهامتان) آيتين. وقال البصريون وغيرهم: ليس كل شئ من ذلك آية (15).

وعن المرشد: أن الفواتح في السور كلها آيات عند الكوفيين من غير تفرقة، وليس بشئ، كقول بعضهم: إن " ألف لام ميم " من آل عمران خصوصا ليس بآية (16). أقول: سيأتي في محله مناط كون الشئ آية، والذي هو مفادها لغة: أنها هي العلامة، ولو كانت هي غير ذات معان واقعية فعدها علامة وآية في غير محله. وأما إذا كانت ذات معان واقعية ولو كانت من الرموز، فلا بأس بعدها آية، وحيث إن آيات الكتاب الإلهي تختلف طولا وقصرا، وربما تكون آية أطول من سور عديدة مجموعا، كآية الدين (17)، وربما تكون جملة ناقصة، كقوله تعالى: (كغلي الحميم) (18)، وقوله تعالى: (مدهامتان) (19)، فلا سبيل إلى تحديدها، فلابد من النظر إلى كيفية نسخ الكتاب العزيز القديمة، حيث إن سائر الآيات تستفاد منها، ولا سبيل شرعي إلى حدودها. وإني بعد الرجوع إلى تلك النسخ، وإلى ما في نسخ القرآن المكتوبة في التفاسير الموجودة طبعا، وجدت أنها تكون مكتوبة على مثال سائر الآيات بالفصل الخاص المتعارف بينها، وربما يأتيك بعض المنبهات الأخر في مقامات أنسب إن شاء الله تعالى. ومن الممكن أن يقال: إن هذه الحروف وإن كانت لها معان واقعية، ولكنها لمكان اختفائها على عموم الناس لا تعد آية وعلامة، فتأمل جيدا.

الجهة السادسة: في السور المشتملة عليها وحدود المركب والبسيط منها اعلم أن هذه الحروف قد تكررت في تسع وعشرين سورة، افتتح بعضها بحرف واحد، وهي: (ص)، (ق)، (ن) وبعضها بحرفين، وهي سورة طه، طس، يس، حم، ومن المحتمل كون الياء من (يس) حرف نداء، والسين يكون من تلك الحروف، لقوله: (إنك لمن المرسلين)، وبعضها بثلاثة أحرف كما في سور هي: " ألم "، " الر "، " طسم " (20)، وبعضها بأربعة أحرف، كما في سورتي " المص " و " المر " (21)، وبعضها بخمسة أحرف، كما في سورتي " كهيعص " و " حم عسق " (22). ثم إنه يختلف هذه الحروف أيضا من حيث إن بعضها لم يقع إلا في موضع واحد مثل " ن "، وبعضها واقعة في مفتتح عدة من السور، مثل " ألم " و " الر " و " طس " و " حم " (23). وغير خفي: أن البسائط والمركبات في الكلمات العربية، كبسائط هذه الحروف ومركباتها، في أن المركب في الأسماء العربية لا يزيد على خمس حروف - على ما قيل - ولعله حكم غالبي. هذا، وفي كون (حم عسق) من المركب إشكال، لأنهما عدا آيتين في المصاحف الموجودة، فيكون هنا أمر آخر، وهو أن من السور تكون الآية الأولى منها من الحروف المقطعة (24)، ومنها ما تكون الآيتان منها (25)، ومن السور ما لا يكون مصدرا بها (26)، ومن السور ما تكون مصدرة بها، ولكنها لا تعد آية (27) حسب ما مر تفصيله. ثم إن مجموع الحروف المفتتح بها يبلغ إلى ثمان وسبعين حرفا.

الجهة السابعة: حول ما ورد من الأخبار والمآثير ونحن نذكر طائفة منها، لعدم إمكان استقصاء مجموعها، ونشير إلى ما هو الأهم:

1 - عن " المعاني " عن الصادق (عليه السلام): " ألم هو حرف من حروف اسم الله الأعظم المقطع في القرآن، الذي يؤلفه النبي أو الإمام، فإذا دعا به أجيب " (28).

2 - وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفاسير العامة والخاصة أنه قال: " لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي " (29).

3 - وعن تفسير ينسب إلى الإمام (عليه السلام): " إن معنى (ألم) ذلك الكتاب الذي أنزلته هي الحروف المقطعة التي منها: ألف، لام، ميم، وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين " (30).

4 - وعن العياشي، عن أبي لبيد المخزومي، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): " يا أبا لبيد إنه يملك من ولد العباس إثنا عشر يقتل بعد الثامن منهم أربعة، فتصيب أحدهم الذبحة فتذبحه، هم فئة قصيرة أعمارهم، قليلة مدتهم خبيثة سيرتهم، منهم الفويسق الملقب بالهادي والناطق والغاوي، يا أبا لبيد إن في حروف القرآن المقطعة لعلما جما، إن الله تبارك وتعالى أنزل (ألم ذلك الكتاب)، فقام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى ظهر نوره وثبتت كلمته، وولد يوم ولد وقد مضى من الألف السابع مائة سنة وثلاث سنين. ثم قال: وتبيانه في كتاب الله في الحروف المقطعة إذا عددتها من غير تكرار، وليس من حروف مقطعة حرف ينقضي أيام إلا وقام من بني هاشم عند انقضائه. ثم قال: الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون. فذلك مائة وإحدى وستون، ثم كان بدو خروج الحسين بن علي (عليهما السلام) (ألم الله)، فلما بلغت مدته قام قائم ولد العباس عند " المص "، ويقوم قائمنا عند انقضائها ب? " ألم " فافهم ذلك وعه واكتمه " (31). وعن " المعاني " عنه (عليه السلام) في حديث: " وأما " ألم " في آل عمران فمعناه: أنا الله المجيد "، وعنه (عليه السلام) و " المص معناه: أنا الله المقتدر الصادق " (32).

وبهذا المضمون قد انتسب إلى أهل البيت أخبار كثيرة، ولكن نوعها مرسلات جدا. وعن " تفسير القمي " باسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله (كهيعص) قال: " هذه أسماء الله مقطعة " (33). وعن " الإكمال " في حديث " أنه سئل - أي القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف - عن تأويلها؟قال: هذه الحروف من أنباء الغيب أطلع الله عبده زكريا عليها، ثم قصها على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) " (34) وعن " المناقب " مثله (35). وعن " المعاني " عن الصادق (عليه السلام): " وأما طه فاسم من أسماء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومعناه يا طالب الحق الهادي إليه " (36).

وعن " المجمع " عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لما أنزلت (طسم) قال: الطاء: طور سيناء، والسين: إسكندرية، والميم: مكة ". وقال: " الطاء: شجرة طوبى، والسين: سدرة المنتهى، والميم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) " (37). وعن " الخصال " عن الباقر (عليه السلام) قال: " إن لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشرة أسماء: خمسة في القرآن، وخمسة ليست في القرآن، فأما التي في القرآن: فمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأحمد وعبد الله ويس ون " (38). وعن " المجمع " عن الصادق (عليه السلام): " أن صاد اسم من أسماء الله تعالى أقسم به " (39). وعن " العلل " عن الكاظم (عليه السلام) في حديث: " أنه سئل وما صاد الذي أمر أن يغسل منه - يعني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أسري به - فقال: عين تنفجر من ركن من أركان العرش يقال له: ماء الحياة، وهو ما قال الله عز وجل: (ص والقرآن ذي الذكر) " (40) وعن " المجمع " ما يقرب منه.

وعن القمي عن الباقر (عليه السلام): " عسق أعداد سني القائم، وقاف جبل محيط بالدنيا من زمردة خضراء، فخضرة السماء من ذلك الجبل، وعلم كل شئ في عسق " (41). وعن " المعاني " عن الصادق: " وأما (ن) فهو نهر في الجنة " (42). وقريب منه روايات أخر مختلفة المضامين متفقة في هذا المعنى (43). وعن ابن بابويه عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل، قال في ذيله: " فذكر أبو جعفر (عليه السلام): أن هذه الآيات أنزلت فيهم (منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات). قال: وهي تجري في وجه آخر غير تأويل حيي وأبي ياسر وأصحابهما " (44). وقريب منه بعض الروايات الأخر، وقد مضى شطر منها في ابتداء سورة الفاتحة، وقد فصلنا الكلام هناك، وحكينا الأخبار المشتملة على الحروف البسيطة والأدوات المفردة وآثارها وخواصها، ونقلنا هناك الرواية المفصلة الدالة على أن حروف التهجي أسماء للأعيان الخارجية الأخروية أو الدنيوية (45)، وسيظهر بعض الروايات الأخر الآتي إن شاء الله تعالى.

وغير خفي: أن من تجمد على تصحيح أسنادها حسب المصطلحات الأخيرة، وحسب ما هو الحق في تحسين الإسناد، فربما يشكل الاعتماد على أكثر هذه الطوائف من الروايات، إلا أن اشتمال كتب المشايخ الثلاثة على طائفة منها - ولا سيما كتب الصدوق عليه الرحمة - يورث التواتر الإجمالي والوثوق بصدور بعض منها من أئمة الحق عليهم الصلاة والسلام. ولا يخفى أن الروايات في هذه المسألة - وهي تفسير المراد من الحروف المقطعة - كثير من طرقها عامية، وقد ضبطها الطبري في تفسيره الكبير (46) بالأسناد المختلفة، ولكل رأي في المسألة على ما يأتي تفصيله رواية أو روايات، وربما يتمكن الخبير البصير بعد النظر فيما يأتي منا من الجمع بينها، لأن هذه الطريقة - وهي طريقة الجواب عن السؤال بقدر فهم السائل عن حقيقة واحدة بعبائر مختلفة - كانت متداولة في العصور الماضية وفي هذا العصر أيضا، وإلى هذا يرجع كثير من اختلافات الأخبار.

وبالتدبر في تأويل الكتاب العزيز الذي هو عين التفسير، يظهر اتحاد تلك الأخبار حسب الحقيقة والواقعية، ولأجل الغفلة عن الأصل المحرر في محله، وهو أن المعاني تختلف حسب الهويات الوجودية بالنسبة إلى من يتصورها، فإن ما نتصوره من المعنى هو المفهوم الذي واقعيته عين الذهنية والنفسانية، وما يتصوره الله تعالى هو عين الخارجية والعينية، فكل في كونه معنى مشترك، واللفظ الحاكي للمعنى المتصور لنا، يصح أن يحكي عن ذلك المعنى الشامخ وإن لم يكن على نعت الحقيقة، لأن المجازات في جميع الألسنة كثيرة، ولا سيما في هذا اللسان مع نهاية سعته، ولأجل الغفلة وقعوا في حيص بيص، توهموا اختلاف الروايات وتشتت الآثار. والله ولي الجمع والاتفاق.

الجهة الثامنة: حول الآراء المحكية في هذه المسألة وقد بلغت إلى عشرين قولا أو أكثر، ونحن لمزيد الاطلاع نشير إليها إجمالا:

1 - عن قتادة: أنها اسم من أسماء القرآن، ولعل نظره إلى أن كل الحروف المفتتح بها السورة تكون كذلك، وهو المحكي عن مجاهد والشعبي وابن جريح (47).

2 - وأيضا عن مجاهد: هي فواتح يفتتح بها الله القرآن. ومما يشهد على عموم دعواه، ما عن سفيان، عن مجاهد قال: (ألم) و (حم) و (المص) و (ص)، فواتح افتتح الله بها (48). والأمر سهل.

3 - وعن أبي: إنما هي أسماء للسور (49).

4 - وعن ابن عباس: أنها اسم الله الأعظم، ويظهر منه دعوى اختصاص بعضها بذلك (50).

5 - وأيضا عن ابن عباس: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله، وهو المحكي عن عكرمة (51).

6 - وأيضا عن ابن عباس: هو حروف مقطعة من أسماء وأفعال، كل حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر، ف? (ألم) أنا الله أعلم، وهو المحكي عن سعيد بن جبير (52). وعن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قال: أما (ألم) فهو حرف اشتق من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه، وهكذا عن ابن عباس في قوله: (ألم) و (حم) و (ن)، قال: اسم مقطع (53).

7 - وأيضا عن مجاهد، قال: فواتح السور كلها - (ق) و (ص) و (حم) و (طسم) و (الر)، وغير ذلك - هجاء موضوع (54).

8 - وعن الربيع بن أنس: هي حروف يشتمل كل حرف منها على معان شتى مختلفة، وقول الله: (ألم) هي الأحرف من التسعة والعشرين حرفا دارت فيها الألسن كلها، ليس فيها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه، وليس منها حرف إلا وهو مدة قوم وآجالهم (55).

9 - وعنه أيضا: هي حروف حساب الجمل (56).

10 - وعن بعض: أن لكل كتاب سرا وسر القرآن فواتحه (57).

11 - هي حروف من حروف المعجم، استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها، التي هي تتمة الثمانية والعشرين، وإن ذلك هو المتعارف، كما قد يتعارف أن يتخذ في أثنائها ولا يبتدأ بأوائلها، ولذلك رفع الكتاب، لأن معنى الكلام يصير هكذا: الألف واللام والميم وهكذا البواقي، ذلك الكتاب الذي انزل إليك مجموعا (58).

12 - وقال جماعة ابتدأت بذلك أوائل السور ليفتح لاستماعه أسماع المشركين، إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن، فإذا أصغوا إليه واستمعوا له تلي عليهم الكتاب المؤلف منها (59).

13 - هي الحروف التي استفتح الله بها كلامه، إعلاما بتمامية الكلام الأول واختتامه، وإبلاغا بشروعه في الكلام المستأنف (60).

14 - وعن قطرب وغيره: أن المراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته، من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم (61).

15 - إنها أسماء الله تعالى بمعنى أن الناس لو كانوا يعلمون لألفوا منها تلك الأسماء واسم الله الأعظم، مثل " الر " و " حم " و " ن "، فإنها تكون " الرحمن "، وهذا أيضا محكي عن ابن جبير (62).

16 - وعن بعضهم، وهو مختار الطبري: أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح، وإذا كانت القضايا كثيرة، والإشارة إليها غير ممكنة، فلابد من الإيماء إليها بلفظة واحدة، فتكون الألف فيها جميع هذه الآراء والأقوال. وأما قول من يدعي أنها لتلك الأغراض التي أشرنا إليها أخيرا، فهو غير مسموع ومضروب به على الجدار، لأنه خلاف السنة والآثار (63). وقد مضى قول: بأنها ليست من القرآن، وزيدت عليه في مرور الأزمان (64).

وما أشد الفرق بينه وبين من يدعي أنه من القرآن، وفيه جميع الآثار والأخبار والأسماء والأوراد والأذكار، حسب علم الحروف والأوفاق والأعداد (65)، وهكذا بين من يقول: بأنها من العلوم المستورة، ومن المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، ومن الأسرار المحجوبة (66)، وبين قول جماعة من المتكلمين: أنها ليست كذلك، بل لابد من كونها كسائر الآيات مورد الفهم والتفهيم، مستدلين بالآيات والسنن والخطب والعقل (67)، والكل لا يرجع إلى محصل، لأن جميع ما يثبت للقرآن لا ينافيه خروج بعض يسير منه، فإنه تبيان كل شئ، وأنه بلسان عربي مبين... وهكذا، ولكن لا تنافي بينه وبين ذاك بالضرورة، ولا سيما إذا نطقت الآثار الصحيحة: بأنها من الأسرار الإلهية. ومما يؤيد ذلك - وإن استدل به الخصم على مذهبه -: ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " عليكم بكتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل وليس بالهزل " (68) انتهى. فإنه يشهد على اشتماله على الأسرار الغير القابلة للكشف بحسب الظاهر، وقوله (عليه السلام): " عليكم بكتاب الله " لا ينافيه وجود بعض يسير منه غير قابل لفهم كل أحد، بل هو في مقام تعظيم الكتاب وحدود سعته الوجودية، ولعله إيماء إلى إرجاع الناس إلى أهله، وهم أهل البيت (عليهم السلام).

17 - وعن عبد العزيز بن يحيى: إن الله تعالى ذكرها لأن يتعلموها مفردة، ثم يتعلموها مركبة، كما هو المتداول في تعليم الصبيان (69).

18 - وعن آخر: أن التكلم بهذه الحروف معتاد، ويعرفها كل أحد، ولكن التكلم بأسمائها لا يمكن إلا للعالم بها، فإخباره (صلى الله عليه وآله وسلم) بتلك الأسماء، مع أنه لا يعرف الكتابة، ولا يعلم شيئا من هذه الكلمات، يكون من المعجزة، فأول ما يسمع من الكتاب العزيز إعجاز، فضلا عما يأتي من الآيات الباهرات والسور الواضحات (70).

19 - وعن أبي بكر التبريزي أن في ذلك ردا على قول من يتوهم أن القرآن قديم وفي ذلك إعجاز وإخبار عن الغيب أيضا بأن جماعة من المسلمين يتخيلون ذلك بالنسبة إلى الكتاب العزيز (71).

20 - وعن القاضي الماوردي: أن (ألم ذلك الكتاب)، معناه: أنه ألم بكم ذلك الكتاب، أي نزل عليكم، والإلمام الزيارة، وإنما قال الله تعالى ذلك، لأن جبرئيل (عليه السلام) نزل به نزول الزائر (72).

21 - وعن ابن عطية: هي تنبيهات كما في النداء (73). وقال الجزيني: وهذا جيد، لأن القرآن كلام عزيز، وفوائده عزيزة، فينبغي أن يرد على مسمع متنبه، فكان من الجائز أن يكون الله قد علم في بعض الأوقات كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عالم البشر مشغولا، فأمر جبرئيل بأن يقول عند نزوله: (ألم) و (الر) و (حم)، ليسمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صوت جبرئيل (عليه السلام)، فيقبل عليه ويصغي إليه، وإنما أبدع في التنبيه بتلك الحروف، لتكون أبلغ في قرع سمعه.

22 - وعن بعض: العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه، فأنزل الله تعالى هذا النظم البديع ليعجبوا منه، ويكون تعجبهم منه سببا لاستماعهم إلى ما بعده، فترق القلوب وتلين الأفئدة.

23 - وعن آخر: أن المقصود بها الإعلام بالحروف التي يتركب منها الكلام، فذكر منها أربعة عشر حرفا، وهي نصف جميع الحروف، وذكر من كل جنس نصفه، فمن حروف الحلق الحاء والعين والهاء، ومن التي فوقها القاف والكاف، ومن الحرفين الشفهين الميم، ومن المهموسة السين والحاء والكاف والصاد والهاء، ومن الشديدة الهمزة والطاء والقاف والكاف، ومن المطبقة الطاء والصاد، ومن المجهورة الهمزة والميم واللام والعين والراء والطاء والقاف والياء والنون، ومن المستعلية القاف والصاد والطاء، ومن المنخفضة الهمزة واللام والميم والراء والكاف والهاء والياء والعين والسين والحاء والنون، ومن حروف القلقلة القاف والطاء (74).

24 - وعن بعض المستشرقين، وتبعه صاحب كتاب " النثر الفني " الدكتور مبارك: أنها بيانات وإشارات موسيقية يتبعها المرتلون، وقد كانت الموسيقية القديمة بسيطة يشار إلى ألحانها بحرف أو حرفين أو ثلاثة، وكان ذلك كافيا لتوجيه المغني أو المرتل إلى الصوت المقصود، وفي الكنيسة المسيحية في أوروبا حيث لا تزال تحفظ تقاليد الغناء الفريفوري، وفي اتيوبيا - مثلا - يوجد اصطلاح موسيقي مشابه لذلك، فإن رئيس المرتلين يبدأ الصوت بالحروف التي تذكر ب? " ألم " في القرآن أو (I - O - A) في نشيد " رولان "، واستظهر الدكتور تأييدا لذلك: أن " ألم " تقرأ هكذا: الف، لام، ميم، فهي ليست رموزا ولكنها رموز صوتية.

25 - وعن مستشرق آخر ما مر في بعض الجهات السابقة، وقد أخذ بها طه حسين، وهو أنها زيدت على القرآن بمرور الأزمان، وتكون رمزا إلى النسخ المختلفة السالفة، كنسخة ابن مسعود وابن عباس... وهكذا.

26 - أن تكون للامتحان والافتتان وهو: أنها ليس لها معنى أصلا، ولا مقصودا رأسا، بل أريد بذلك أن يعلم العبد المنقاد المطيع من غيره، كبعض أفعال الحج، فإن العبد مع توجهه إلى أن المأمور به لا فائدة فيه يمتثل أمره، أقرب من العبد الذي لا يكون كذلك.

تذنيب

حول الأخبار الواردة في معناها اختلفت الآثار والأخبار وتشتت الآراء والأقوال في ما أرمز وأشير إليه بهذه الحروف، من الأسماء الإلهية والأفعال الربانية:

1 - (ألم) معناه: أنا الله أعلم، أي أعلم من كل شئ، أو هو يعلم لا غير (75).

2 - الألف من الله، واللام من جبرئيل، والميم من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي القرآن نزل من الله على لسان جبرئيل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) (76).

3 - الألف دل على قولك: الله، واللام على قولك: الملك العظيم القاهر للخلق أجمعين، والميم على أنه المجيد المحمود في كل فعاله (77).

4 - (كهيعص): الكاف من الكافي، والهاء من الهادي، والياء من الحكيم، والعين من العليم، والصاد من الصادق (78).

5 - الكاف كربلاء، والهاء الهلاك، والياء يزيد، والعين العطش، والصاد الصبر (79).

6 - الألف إشارة إلى أنه أحد، أول، آخر، أزلي، أبدي، واللام إلى أنه لطيف، والميم إلى أنه مجيد، ملك، منان (80).

7 - الألف آلاؤه، واللام لطفه، والميم مجده (81).

8 - الألف أنا، واللام لي، والميم مني (82).

9 - الألف إشارة إلى ما لابد منه من الاستقامة في الشريعة في أول الأمر (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)، واللام إشارة إلى الحاصل عند المجاهدة ورعاية الطريقة (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)، والميم إشارة إلى صيرورة العبد في مقام المحبة، كالدائرة التي تكون نهايتها عن بدايتها، وهو مقام الفناء في الله (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) (83).

10 - الألف من أقصى الحلق، واللام من طرف اللسان، والميم من الشفة، أي أول ذكر العبد ووسطه وآخره لا ينبغي إلا لله (ففروا إلى الله) (84).

11 - (الر): أنا الله أرى (85).

12 - وعن " تفسير الثعلبي " مسندا عن الرضا - عليه آلاف التحية والثناء - قال: سئل الصادق (عليه السلام) عن قوله: (ألم) فقال: " في الألف ست صفات من صفات الله عز وجل: الابتداء، فإن الله ابتدأ جميع الخلق، والألف ابتدأ الحروف، والاستواء، فهو عادل غير جائر، والألف مستو في ذاته، والانفراد، فالله فرد، والألف فرد، واتصال الخلق بالله، والله لا يتصل بالخلق، وكلهم يحتاجون إلى الله، والله غني عنهم، والألف كذلك لا يتصل بالحروف، والحروف متصلة به، وهو منقطع عن غيره، والله تعالى بائن بجميع صفاته من خلقه، ومعناه من الألفة، فكما أن الله عز وجل سبب الفة الخلق، فكذلك الألف عليه تألفت الحروف، وهو سبب ألفتها " (86). وغير خفي: أن مع انضمام هذه الأقوال إلى تلك الآراء، تصير الوجوه ستا وثلاثين، وتزداد بما سيأتي توضيحه.

إيقاظ وإرشاد

اعلم: أن استقصاء الاحتمالات والوجوه غير ممكن، لأن الكلام إذا لم يكن على مبنى العقل أو النقل، لا ينتهي إلى حد ولا ينقطع، وأنت إذا تأملت في هذه الآراء والأقوال التي لا نور لها ولا مستند ولا سند، تجد إمكان تكثير الوجوه إلى مالا يحصيه إلا الله تعالى، لإمكان جعل الحروف المزبورة رمزا وإشارة إلى هذه المسائل، وإلى المسائل الاخر المشابهة معها في الاسم واللفظ، وحيث لا يثبت لنا من طريق الوحي وجه معلوم، فلا نتمكن من تعيين أحد هذه الوجوه، ولو كانت في حد نفسها نقية من الأوهام والشبهات. وإني تارك طول الكلام في المقام على بعض الوجوه المسطورة في المفصلات، ونذكر - إن شاء الله تعالى - بعض الوجوه الأخر، لئلا يخلو الكتاب من الإفادة والاستفادة، من غير إمكان الاطمئنان والوثوق بالمقصود، ضرورة أن نيل مقاصد المولى لا يمكن إلا من طريق الألفاظ الموضوعة، أو من طريق الكشف والشهود، ولا سبيل لنا إلى الأول كما ترى، ولا إلى الثاني، كما نجد ونرى في أنفسنا، رزقنا الله تعالى ذلك. ونستعرض بعض الوجوه الجامعة لشتات الأخبار ولمختلف الآثار، بل به يمكن استجماع الأقوال والآراء، والله الهادي إلى سبيل الرشاد وإلى الصراط السوي وإلى من اهتدى. ولعل إلى هذه المقالة يشير بعض الأخبار السابقة، الظاهرة في أنها من الأسرار الإلهية والعلوم الربانية المستورة. وقد اشتهر: أن روايات أهل البيت تدل على ذلك. ولكنك علمت أن فيها ما تصدت لبيان بعض حدوده، وتضمنت توضيح بعض مقاصده.

الجهة التاسعة: حول الوجوه المفصلة المذكورة وما هو التحقيق في المسألة القريب إلى أفق الواقع وهي كثيرة: أحدها: قال الشيخ في " الفتوحات ": اعلم أن مبادئ السور المجهولة لا يعرف حقيقتها إلا أهل الصور المعقولة...، فجعلها تبارك وتعالى تسعا وعشرين سورة، وهو كمال الصورة، (والقمر قدرناه منازل) والتاسع والعشرون القطب الذي به قوام الفلك، وهو علة وجوده، وهو سورة آل عمران (ألم الله)، ولولا ذلك لما ثبتت الثمانية والعشرون، وجملتها على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفا، فالثمانية حقيقة البضع، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " الإيمان بضع وسبعون "، وهذه الحروف ثمانية وسبعون حرفا، فلا يكمل عبد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها...، كما أنه إذا علمها من غير تكرار، علم تنبيه الله فيها على حقيقة الإيجاد وتفرد القديم سبحانه وتعالى بصفاته الأزلية، فأرسلها في قرآنه أربعة عشر حرفا مفردة مبهمة، فجعل الثمانية لمعرفة الذات والسبع الصفات، وجعل الأربعة للطبائع المؤلفة، فجاءت اثنتي عشرة موجودة، وهذا هو الإنسان من هذا الفلك، ومن فلك آخر يتركب من أحد عشر ومن عشرة ومن تسعة وثمانية، حتى يصل إلى فلك الاثنين، ولا يتحلل إلى الأحدية أبدا، فإنها مما انفرد به الحق سبحانه. ثم إنه تعالى جعل أولها الألف في الخط والهمزة في اللفظ، وآخرها النون، فالألف رمز لوجود الذات على كمالها، لأنها غير مفتقرة إلى حركة، والنون رمز لوجود الشطر من العالم، وهو عالم التركيب، وذلك نصف الدائرة الظاهرة لنا من الفلك، والنصف الآخر النون المعقولة عليها، التي لو ظهرت للحس وانتقلت إلى عالم الأرواح، لكانت دائرة محيطة، ولكن أخفيت هذه النون الروحانية التي بها كمال الوجود، وجعلت نقطة النون المحسوسة دالة عليها، فالألف كاملة من جميع وجوهها، والنون ناقصة، فالشمس كاملة، والقمر ناقص، لأنه محو، فصفة ضوئه معارة، وهي الأمانة التي حملها، وعلى قدر محوه وسره إثباته وظهورة ثلاثة لثلاثة، فثلاثة لغروب القمر القلبي الإلهي في الحضرة الأحدية، وثلاثة طلوع القمر القلبي الإلهي في الحضرة الربانية، وما بينهما في الخروج والرجوع قدما بقدم لا يختل أبدا. ثم جعل سبحانه وتعالى هذه الحروف على مراتب: منها موصول، ومنها مقطوع، ومنها مفرد، ومنها مثنى ومجموع، ثم نبه أن في كل وصل قطعا، وليس في كل قطع وصل يدل على فصل، وليس كل فصل يدل على وصل، فالوصل والفصل في الجمع وغير الجمع، والفصل وحده في عين الفرق، فما أفرده من هذه فإشارة إلى فناء رسم العبد أزلا، وما أثبته فإشارة إلى وجود رسم العبودية حالا، وما جمعه فإشارة إلى الأبد... إلى أن قال مالا يرجع إلى محصل في القول، مع اندماج في الكلام بما لا يسعه المقام (87).

وفي موضع من محكي كلامه ما يشير إلى أحكام الحروف ودقائق الأعداد، وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة واثنان وثلاثون، وأول التفصيل من نوح إلى إشراق يوح، ثم إلى آخر التركيب الذي نزل فيه الكلمة والروح، فبعد عدده تضربه وتجمعه وتحط منه طرحا وتضعه، يبدو لك تمام الشريعة حتى إلى انخرام الطبيعة (88). ومما يستأنس لذلك ما رواه العز بن عبد السلام: إن عليا - عليه أفضل الصلاة والسلام - استخرج وقعة معاوية من (حم عسق). واستخرج أبو الحكم عبد السلام بن برجان في تفسيره، فتح بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة من قوله تعالى: (ألم غلبت الروم في أدنى الأرض) (89).

وقد ذكر الشيخ لاستخراجه طريقا آخر وهو: أن تأخذ عدد (ألم) بالجزم الصغير، فيكون ثمانية، وتجمعها إلى ثمانية البضع في الآية، فتكون ستة عشر، فتنزل الواحد الذي للألف للاس، فتبقى خمسة عشر، فتمسكها عندك، ثم ترجع إلى العمل في ذلك بالجمل الكبير، وهو الجزم، فتضرب ثمانية البضع في أحد وسبعين، واجعل ذلك كله سنين، يخرج لك في الضرب خمسمائة وثمانية وستون سنة، فتضيف إليها الخمسة عشر، فتصير ثلاثة وثمانين وخمسمائة، وهو زمان فتح البيت المقدس على قراءة " غلبت " بفتح الغين واللام و " سيغلبون " بضم الياء وفتح اللام (90). انتهى، والله العالم بخفيات كلامه وبأسرار آياته. وقال في تفسيره: أشار بهذه الحروف الثلاثة إلى كل الوجود من حيث هو كل، لأن " الألف " إشارة إلى ذات هو أول الوجود على ما مر، و " اللام " إشارة إلى العقل الفعال المسمى بجبرئيل، وهو أوسط الوجود الذي يستفيض منه المبدأ، ويفيض إلى المنتهى، و " الميم " إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو آخر الوجود تتم به دائرته، وتتصل بأولها (91). وعن بعض السلف: أن " ل " ركبت من ألفين، أي وضعت بإزاء الذات مع صفة العلم، اللذين هما عالمان من العوالم الثلاثة الإلهية التي أشرنا إليها، فهو اسم من أسماء الله تعالى، إذ كل اسم هو عبارة عن الذات مع صفة ما، وأما " م " فهو إشارة إلى الذات مع جميع الصفات والأفعال، التي احتجبت بها في الصورة المحمدية التي هي اسم الله الأعظم، بحيث لا يعرفها إلا من يعرفها ألا تدري أن " م " التي هي صورة الذات كيف احتجب فيها، فإن الميم فيها الياء، وفي الياء ألف. والسر في وضع حروف التهجي: هو أن لا حرف إلا وفيه ألف، فمعنى الآية: ألم ذلك الكتاب الموعود، أي صورة الكل المومى إليها بكتاب الجفر والجامعة، المشتملة على كل شئ، الموعود بأنه يكون مع المهدي (عليه السلام) في آخر الزمان، لا يقرأه كما هو بالحقيقة إلا هو، والجفر لوح القضاء الذي هو عقل الكل، والجامعة لوح القدر الذي هو نفس الكل، فمعنى كتاب الجفر والجامعة الحاويين على كل ما كان ويكون، كقولك: سورة البقرة والنمل. ثانيها (92): أن الإنسان الذي هو خلاصة جملة الموجودات، له مراتب كمراتب العالم، وكل مرتبة منه حقيقة أو رقيقة لما سواها، فكلما يجري على لسان بشريته رقيقة وتنزل وظهور لما يجري على لسان مرتبة مثاله، وما يجري على لسان مثاله رقيقة لما يجري على لسان قلبه... وهكذا، وكل تلك الرقائق رقائق لما ثبت في المشية، وفضل الإنسان بمقدار الاستشعار بتلك المراتب والاتصال بها، ومن لا يدرك من الإنسان سوى البشرية فقدره قدر البهيمة، وقد غفل أكثر الناس عن أكثر هذه المراتب، لا يدركون منه سوى ما في ظواهره، والمستشعر بتلك المراتب والمتحقق بها إذا تكلم هو أو غيره بكلمة، يستشعر بحقائق تلك الكلمة وصور حروفها في المراتب العالية أو يتحقق بها. وما قيل: إن كل حرف من القرآن في الألواح العالية أعظم من جبل أحد، صحيح عند هذه المرتبة من الاستشعار أو التحقق.

وقد يتحقق الإنسان بالمراتب العالية أو يستشعر بها أولا، ثم ينزل من تلك المنازل والمراتب على بشريته الكلمات التي هي رقائق ما يظهر عليه من الحقائق في تلك المراتب. وقد حكي عن بعض: أنه كان إذا سمع كلمة دالة على المعاني العالية يأخذه الغشي، وينسلخ عن بشريته، وربما كان يتكلم حين الغشي بالحقائق الإلهية، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأخذه حالة شبيهة بذلك حين نزول الوحي، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يظهر عليه الحقائق - حينئذ - في تلك المراتب بنحو التفصيل، وتنزل على بشريته أيضا بنحو التفصيل، وتسمى النازلة بكلام الله وبالحديث القدسي. وقد يظهر الحقائق بنحو الإجمال والبساطة وتنزل على بشريته كذلك، فيعبر عنها بطريق الإجمال وبالحروف المقطعة، مثل فواتح السور.

وتأويل القرآن: عبارة عن إرجاع ألفاظه إلى حقائقها الثابتة في تلك المراتب. وبطون القرآن: عبارة عن تلك الحقائق في تلك المراتب، ولكون المراتب باعتبار كلياتها سبعا، وباعتبار جزئياتها ترتقي إلى سبعمائة ألف، اختلف الأخبار والآثار في تحديد البطون. ولعدم إمكان التعبير عن تلك الحقائق للراقدين في مراقد الطبع إلا بالأمثال - كما أنها تظهر للنائمين بالأمثال - اختلفت الروايات في المراد من فواتح السور، فلا يمكن الإحاطة بها، بل لابد من الإرماز والإجمال والتشابه. ثالثها (93): اعلم أن الحروف المفردة اللفظية أصل للكلمات المركبة منها، والمفهوم من المركبة أمور غير بسيطة بحسب الاستقراء في الغالب أو الكل، فالظاهر أن تكون تلك الحروف بإزاء أصول العالم التي هي بسائط بالقياس إلى أجزاء العالم، كما أن النفس الإنسانية أول ما يحصل فيها الحروف على حسب مراتبها، فتكون النفس الرحمانية أيضا محصلة لبسائط هي الأصول للعوالم المقيدة المركبة، ويكون كل حرف من الحروف الصادرة من الإنسان، بإزاء حقيقة من تلك الحقائق البسيطة، حتى تطابق الآية - التي هي الإنسان - ذا الآية، ويحصل الطباق بين مقام اللفظ والمعنى، حتى يصلح للمرآتية.

وإذا لاحظت بعقلك نسبة البسيط إلى المركب المفروض وجوده، فاحدس أنه لم يتحقق المركب في الأعيان إلا وقد سبقه فيها البسائط، التي هي أصول تلك المركبات، فيشبه أن يتقدم خلق البسائط على خلق المركبات، حسب اقتضاء النظام الأكمل حتى تكون بمنزلة الخزائن للحصص التي عرضها التركيب في عالم المركبات، ولعل إليها ينظر قوله تعالى: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) (94). والذي يناسب تلك البسائط والأصول في عالم الوضع والدلالات - ولا سيما إذا كانت الدلالة ذاتية، كما عن الصيمري وابن عباد - هي الحروف المفردة، فيشبه أن تكون تلك الحروف دالة على تلك الحقائق بالذات أو الوضع. وأما الحقائق المستورة هي الأسماء الإلهية، التي ملأت أركان كل شئ بأشعتها وآثارها، وتدل تلك الحروف المفردة على تلك الحقائق بأن يكون كل واحد بإزاء كل واحد، وإلى مثله يشير ما مر من: " أن الله تعالى خلق في الابتداء حروف المعجم " (95)، وقدر رواه ابن بابويه في التوحيد عن الرضا - عليه السلام والثناء - ويومي قوله: " مامن حرف إلا وهو اسم من أسماء الله " (96). ومر منا تفاصيل معاني الحروف وإن كان بعضها مما يتراءى منه أنه ليس باسم له سبحانه، ولكن إذا لاحظته منتسبا إلى الرب سبحانه، فربما يظهر لك المشتق الذي يصح أن يوصف به الحق، ولا يلزم أن يكون مدلول تلك الأخبار والآثار، أن تكون الحروف المفردة دالة على المركبات، كما ربما سبق إلى الوهم، هل صح أن يكون كل من الطائفتين دالة على تلك الحقائق العينية وعلى الله سبحانه باعتبارها ؟! وربما يدل على ذلك ما سبق من: " أن صفوة هذا الكتاب حروف التهجي " (97)، وكثير مما مر وسبق في بيان فواتح السور المفسرة لها بأسماء الله سبحانه، أو بما يستشم منه ذلك كتفسير نون بالمداد من النور الذي كتب به ما كان وما يكون (98)، فإن الظاهر منه أنه من البسائط الأولية، ولا ينافيه كونه نهرا في الجنة (99)، فإن الجنة خلق روحاني وجسماني، فهو نهر في المعاني الروحانية، وفي مقام الأسماء الإلهية، أو إنه عند التنزل إلى الجنة المادية والمقدارية يصير نهرا، فإن النهر والنور والنون متناسبات في الألفاظ، فتكون هكذا في المعاني.

وبالجملة: يؤيد ذلك وصفه بالتوراة، وبأنه ملك، فإن تلك الحقائق ربما يصح أن يطلق عليها لفظ الملك، أو يستعار لها اسم الملك الموكل عليها الواقع تحتها، كما يصح أن يطلق لفظ الجنة مستعملا في الجنة وفي مبدئها وأصلها الذي بتنزلها ظهرت الجنة، وما في ذيل خبر ابن إبراهيم القمي (100) ربما يؤيد ذلك فلاحظه. وما ورد في صاد: أنه عين أو ماء عند العرش (101)، فهو أيضا مثل ما مر في نون، وعلى مثله يحمل أيضا ما ورد من: تفسير بعض الفواتح بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشجرة طوبى وسدرة المنتهى وطور سيناء (102) وغيرها، أو يفسر بالأمير (عليه السلام) بعض الآيات (103)، التي حكي عن ابن شهرآشوب أن عدد تلك الآيات تبلغ إلى ثلاثمائة، فإن حقيقة التأويل كون تلك الحقائق معاني لتلك القوالب، والألفاظ مظاهر لها، ضرورة أن السافلات حاكيات عن العاليات، وهي هي تنزلا، وذاك ذاك ترقيا وعلوا، فإن المعلول حد ناقص للعلة، والعلة حد تام للمعلول. وقريب منه الكلام في تفسير قاف بالجبل (104)، فإن لحقيقة القاف في عالم البسائط ما إذا تنزل يعد جبلا في عالم الألفاظ، وتكون جبلا محيطا بالعالم كله أو مجموعة من العوالم.

ومن هنا يظهر سائر التفاسير الواردة في الحروف المقطعة المركبة أو المفردة، فإن المركبات منها منقطعات بشهادة قراءتها مفردة. ثم اعلم: أن ظهور آثار هذه الحقائق في هذا العالم مختلفة حسب الدهور والأزمان، فتارة يقوى ظهور بعضها ظهورا بينا، ويخفى مقابله، وأخرى ينعكس، وثالثة يتوسط، فيكون لهما الظهور ولدولة كل منها واستيلائه زمان معين وعصر خاص محدود على حسب ما به حكم الله سبحانه، وإذا جاء أجله كان الملك والسلطنة لأهل ذلك الاسم، وإذا انقضى ارتفعت عنهم، وذلك كالشمس إذا طلعت ظهر آثار طلوعها، من الإضاءة والتسخين وغيرها في العالم، وكلما ارتفعت ازدادت الآثار إلى نصف النهار على عكس حال الظلمة والبرودة والرطوبة، فإنها تضعف كذلك، وعند وسط السماء يبتدئ النزول والانتقاص إلى غروب الشمس، فحينئذ يستولي الظلمة، والرطوبة متزايدة إلى نصف الليل، ثم تنقص بحسب المقتضي إلى طلوع الشمس، وهكذا الأمر في أكثر وجودات هذا العالم، فإنها تبتدئ وتأخذ في الكمال إلى حين تقف، وترجع متناقصة إلى ما يماثل الحال الأول، فالإنسان يوجد ابتداء ضعيفا من كل وجه، ويأخذ في القوة والاستكمال إلى حد الشباب.

وبالجملة: لكل موجود طلوع وغروب، بل لكل صنف ونوع ظهور وبطون، تابعان لظهور اسمه وبطونه وطلوعه وغروبه، ومن هنا يظهر أن لكل طائفة خاصة زمانا لطلوع سلطنتها وظهور استيلائها وشوكتها، هو زمان طلوع ذلك الاسم المنتسبة إليه، فإن الناس على دين ملوكهم. ومما يقتضيه الاعتبار: كون مدة تلك السلطنة موافقة لعدد حروف ذلك الاسم طبعا وذاتا، إذن الحرف هناك قالب المعنى، والأصل يطابقه في صفات المعنى، وحينئذ يصح أن يقال: كل فاتحة من فواتح السور تدل على استيلاء مظهر تلك الفاتحة وملكه في المدة المدلول عليها بحروف تلك الفاتحة.

وغير خفي: أن فواتح السور المتعلقة بهذه المسألة مختلفة وكثيرة، فمنها ما يتعلق بقيام بني العباس وانقضاء دولة بني أمية ك? (المص) على ما سبق (105)، ومنها ما يتعلق بانقراض الأديان والأحزاب ومدة حياتهم... وهكذا، كما ترى إلى بعض الأخبار السابقة (106). وأما ما ورد من أن (عسق) عدد سني القائم - عجل الله تعالى فرجه (107) - فهو موافق لكون علم كل شئ في (عسق)، إذ تلك السنين هو زمان ظهور العلم والمعرفة والحقيقة واضمحلال الباطل والجهل، ولما ورد من ترجمته بالعالم السميع القادر القوي (108)، إذ فيها يظهر حكم العلم والسمع مجتمعين مع القوة والقدرة مؤتلفين معهما، إذ القوة والقدرة بيد مظهر العلم السميع. ويؤيد ذلك كله: أن لقراءة هذه الحروف - أعني حم عسق - تأثيرا عظيما في انكشاف العلوم والمعارف، بل في ظهور دولة الحق في العالم الصغير، على ما هو الظاهر مما جربه المجربون، وقد ورد هذا اللفظ (كهيعص) في الدعاء مكررا إما مقسما بهما أو جعلها مدخولي حرف النداء (109)، والظاهر أن لهما شأنا ومكانا لمن كان من أهله. وهذا مما يؤيد كون مدلولهما من حقائق الأسماء العينية الإلهية. ومما أشرنا إليه في (عسق) - من اجتماع القدرة والعلم - يمكن استخراج وجه آخر لدلالة فواتح السور على زمان الملك في الجملة وهو: أن كل موضع كان فيه بعض الحروف دالة على الملك والقدرة أو القوة أو ما شاكلها، فهو يقتضي ظهور معانيها في مظاهر باقي الحروف المجتمعة معه، فها هنا يدل على ملكية العالم السميع، وفي سائرها على هذا القياس. ثم إن الظاهر: أن ما ذكرناه من كون حروف التهجي دالة على حقائق الأسماء الإلهية، أساس علم الحروف وأحكامه وآثاره المرتبة عليها، وتلك الأسماء الإلهية تنقسم إلى اسم أعظم هو بمنزلة الكل في وحدة، وإلى أسماء جمال وجلال، وإلى أسماء كلية وجزئية كما يشهد لذلك ما سبق في تفسير آحاد حروف التهجي. ومن ذلك يظهر وجه ما روي: " أن فواتح السور حروف اسم الله الأعظم " (110)، فإن الظاهر منها أن الفواتح تدل على ما عداه من الأسماء المذكورة، فتلك المفردات إذا اخذت مستجمعات تدل على ذلك الاسم الأعظم، والله العالم بالأسرار والخفيات.


1- راجع القرآن الكريم المترجم إلى الانگليزية: 32، الهامش.

2- الحجر (15): 87.

3- الزمر (39): 23.

4- راجع تفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 29.

5- الرحمن (55): 31.

6- النور (24): 31، الزخرف (43): 49.

7- الجامع لأحكام القرآن 1: 156.

8- البحر المحيط 1: 35 / السطر 19.

9- الجامع لأحكام القرآن 1: 157.

10- راجع تفسير بيان السعادة 1: 39.

11- نفس المصدر: 45.

12- انظر مجمع البيان 1: 34 ونسبه في هامشه إلى الوليد بن عقبة على ما في الأغاني 5: 131.

13- راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 156.

14- راجع الكشاف 1: 19 - 31، والجامع لأحكام القرآن 1: 155، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 12 - 15.

15- البحر المحيط 1: 35.

16- روح المعاني 1: 98.

17- البقرة (2): 82.

18- الدخان (44): 46.

19- الرحمن (55): 64.

20- ألم في مفتتح سور: البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، والسجدة، الر في مفتتح سور: يونس، هود، يوسف، إبراهيم، والحجر، طسم في مفتتح سورتي: الشعراء، والقصص.

21- المص في مفتتح سورة الأعراف والمر في مفتتح سورة الرعد.

22- كهيعص في مفتتح سورة مريم وحم عسق في مفتتح سورة الشورى.

23- حم في مفتتح سور: غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف. وأما ألم والر وطسم فمرت.

24- وهي تسع عشر سورة: البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة، الأعراف، مريم، طه، الشعراء، القصص، يس، غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الأحقاف والشورى.

25- وهي سورة الشورى فقط.

26- وهي خمس وثمانون سورة.

27- وهي عشر سور: يونس، هود، يوسف، الرعد، إبراهيم، الحجر، النمل، ص، ق، ن والقلم.

28- معاني الأخبار: 23 / 2.

29- راجع من تفاسير الخاصة إلى مجمع البيان 1: 32 والعامة إلى التفسير الكبير 2: 3.

30- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 62.

31- تفسير العياشي 2: 3 / 3.

32- معاني الأخبار: 22 / 1.

33- تفسير القمي 2: 48.

34- كمال الدين 2: 461 / 21 نقله عن سعد بن عبد الله القمي (رحمه الله) فيما سأله حضورا عن الحجة عجل الله فرجه.

35- مناقب آل أبي طالب 4: 84 نقله عن إسحاق الأحمر فيما سأله عن الحجة عجل الله فرجه.

36- معاني الأخبار: 22 / 1.

37- مجمع البيان 7: 184.

38- الخصال 2: 495.

39- مجمع البيان 8: 465.

40- علل الشرائع 2: 335 / 1.

41- تفسير القمي 2: 268.

42- معاني الأخبار: 23 / 1.

43- راجع معاني الأخبار: 22 - 29.

44- راجع معاني الأخبار: 24 / 3.

45- راجع سورة الفاتحة: الناحية الأولى، علم الحروف والأعداد.

46- راجع تفسير الطبري 1: 87 - 88.

47- راجع تفسير الطبري 1: 87، وتفسير التبيان 1: 47، والتفسير الكبير 2: 6.

48- راجع تفسير الطبري 1: 87، وتفسير التبيان 1: 47.

49- راجع تفسير الطبري 1: 87، وتفسير التبيان 1: 47، والتفسير الكبير 2: 5.

50- راجع تفسير الطبري 1: 87، والبحر المحيط 1: 34.

51- راجع تفسير الطبري 1: 87، وتفسير البيان 1: 47.

52- راجع تفسير الطبري 1: 88، والتفسير الكبير 2: 6.

53- راجع تفسير الطبري 1: 88.

54- راجع تفسير الطبري 1: 88، وتفسير التبيان 1: 48.

55- راجع تفسير الطبري 1: 88، والبحر المحيط 1: 34.

56- راجع تفسير الطبري 1: 88.

57- راجع تفسير الطبري 1: 88، والبحر المحيط 1: 34، وروح المعاني 1: 94.

58- راجع تفسير الطبري 1: 89، وتفسير التبيان 1: 48.

59- راجع تفسير الطبري 1: 89، والتفسير الكبير 2: 6.

60- راجع تفسير الطبري 1: 89، والتفسير الكبير 2: 7.

61- راجع مجمع البيان 1: 33، والبحر المحيط 1: 34.

62- راجع التفسير الكبير 2: 6، والبحر المحيط 1: 34.

63- راجع تفسير الطبري 1: 90 وما بعدها.

64- تقدم عن طه حسين ذيل الجهة الأولى.

65- انظر شمس المعارف الكبرى 1: 61 - 66، والبحر المحيط 1: 35.

66- التفسير الكبير 2: 3.

67- راجع التفسير الكبير 2: 3 - 4.

68- التفسير الكبير 2: 4، تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين، وانظر نهج البلاغة، صبحي الصالح: حكمة 313 " وفي القرآن نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ".

69- التفسير الكبير 2: 6.

70- التفسير الكبير 2: 7.

71- التفسير الكبير 2: 7.

72- راجع التفسير الكبير 2: 7.

73- البحر المحيط 1: 34.

74- راجع الكشاف 1: 29 - 30.

75- التفسير الكبير 2: 6.

76- نفس المصدر.

77- راجع معاني الأخبار: 25 / 4.

78- معاني الأخبار: 22 و 28 / 1 و 6، التفسير الكبير 2: 6.

79- كمال الدين 2: 461 / 21 نقله عن سعد بن عبد الله القمي فيما سأله حضورا عن الحجة (عجل الله فرجه)، مناقب آل أبي طالب 4: 84 نقله عن إسحاق الأحمر فيما سأله عن الحجة (عجل الله فرجه).

80- التفسير الكبير 2: 6.

81- التفسير الكبير 2: 6.

82- نفس المصدر.

83- التفسير الكبير 2: 7 - 8.

84- التفسير الكبير 2: 8.

85- التفسير الكبير 2: 6.

86- راجع نور الثقلين 1: 30 - 31.

87- الفتوحات المكية 1: 59 - 60.

88- راجع روح المعاني 1: 96، والإسرا إلى مقام الأسرى، ضمن رسائل ابن العربي: 77.

89- راجع روح المعاني 1: 96.

90- الفتوحات المكية 1: 60.

91- راجع تفسير القرآن الكريم، المنسوب إلى محيي الدين العربي 1: 13.

92- انظر تفسير بيان السعادة 1: 38.

93- انظر تفسير الكمپاني: 178 - 184.

94- الحجر (15): 21.

95- راجع التوحيد: 232 / 1، ومعاني الأخبار: 43 / 1.

96- راجع التوحيد: 235 / 2، ومعاني الأخبار: 44 / 2.

97- راجع من تفاسير الخاصة إلى مجمع البيان 1: 32، ومن تفاسير العامة إلى التفسير الكبير 2: 3.

98- راجع معاني الأخبار: 23 / 1.

99- انظر نفس المصدر.

100- راجع تفسير القمي 2: 380.

101- راجع معاني الأخبار: 22 / 1، وعلل الشرائع 2: 335.

102- مجمع البيان 7: 184.

103- بحار الأنوار 35: 183 وما بعدها.

104- راجع معاني الأخبار: 22 - 23 / 1، وتفسير القمي 2: 323.

105- تفسير العياشي 2: 3 / 3.

106- راجع معاني الأخبار: 23 / 3 و 4.

107- تفسير القمي 2: 268.

108- معاني الأخبار: 22 / 1.

109- انظر مجمع البيان 6: 502، وبحار الأنوار 84: 251 / 59 و 88: 50 و 189 / 1 و 11 و 91: 329 / 1.

110- راجع معاني الأخبار: 23 / 2.