التفسير والتأويل على المسالك المختلفة والمشارب الكثيرة

فعلى مسلك الأخباريين: (صراط الذين أنعمت عليهم) " شيعة علي (عليه السلام) بولاية أميرا لمؤمنين، لم يغضب عليهم ولم يضلوا " (1)، وعن الصادق (عليه السلام): " يعني محمدا صلى الله عليه وآله وذريته " (2). وفي سند معتبر مضى عن معاوية بن وهب قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أقول: آمين إذا قال الإمام: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) ؟قال: هم اليهود والنصارى، ولم يجب في هذا " (3). وفي ذيل رواية أخرى: أنه قال في (المغضوب عليهم): هم اليهود الذين قال الله فيهم: (من لعنه الله وغضب عليه)، وفي (الضالين) قال: هم النصارى الذين قال الله فيهم: (قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا) (4).

وفي تفسير الإمام: ثم قال أمير المؤمنين: " كل من كفر بالله فهو مغضوب عليه، وضال عن سبيل الله عز وجل " (5). وفي رواية أخرى بسند معتبر عن القمي، قال: " (المغضوب عليهم) النصاب، و (الضالين) اليهود والنصارى " (6)، وبسند آخر عنه (عليه السلام) قال: " (المغضوب عليهم) النصاب، و (الضالين) الشكاك الذين لا يعرفون الإمام " (7). وأنت قد أحطت خبرا - مما اطلعت عليه سرا وعلانية - أن اختلاف لسان الأخبار المأثورة عن أئمتنا الصديقين - صلوات الله تعالى عليهم أجمعين - في موقف إفادة المقصد الأعلى في ثوب التقية ولباس الإخفاء. فإن رواياتهم نطقت: بأن (المغضوب عليهم) اليهود، و (الضالين) النصارى (8)، وفي أخبارنا ما يؤيدهم، ويومي إلى أن الكتاب العزيز لا ينحصر مفاهيمه الكلية بالأصناف الخاصة، بل (المغضوب عليهم) معنى كلي ينطبق على كل إنسان محجوب بالحجب المادية عن المعنويات والروحانيات، و (الضالين) أيضا عام ينطبق على كل متحير غير واصل إلى الحق وغير متوغل في الباطل، ويكون في السبيل والفحص وفي حال السلوك، ولا يكون بعد من المهتدين، وتفسيرها بالنصارى للإيماء إلى أسوئية حال اليهود منهم، كما هو الظاهر من الكتاب وعند كل ذي شعور.

ومما نبهنا عليه يظهر: أن اختلاف العامة في المراد من (المغضوب عليهم) ناشئ من عدم ركونهم إلى باب العلم وفناء المدينة، فقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والسدي وابن زيد: إنهم اليهود، و (الضالين) هم النصارى، وقد روى ذلك أحمد في مسنده (9) وحسنة ابن حبان في صحيحه مرفوعا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود، وحكي عن ابن أبي حاتم، لا أعلم فيه خلافا للمفسرين، ولكنه خالفهم في ذلك وأخذ بالعموم (10)، وأنكر عليه الآلوسي أشد الإنكار، قائلا: إن ذلك طرح للأخبار الصريحة الصحيحة، وقد تجاسر في تفسير الكتاب (11)، ولكنه بمعزل عن التحقيق، كما عرفت وجهه. فبالجملة: اختلافهم الشديد في غير محله، وهذا النوع من الاختلاف الباطل العاطل كثير في تفسير المعاني القرآنية.

وعلى مسلك الحكيم المتأله: (صراط) الطائفة (الذين) هديتهم، و (أنعمت عليهم) بالوصول إلى الغاية المقصودة والنتيجة المطلوبة، و (أنعمت عليهم) بالاهتداء إلى الصراط التكويني والطبيعي، بانطباق حركتهم مع حركة الإنسان الكامل، وباستجماع الاستعدادات اللازمة والقابليات والإمكانات الاستعدادية، لنيل تلك الأخيرة والغاية المأمولة، دون من غضب عليه باحتراق الإمكانات وشرائط الوصول إلى الخيرات، ودون من ضل ولا يتمكن من الوصول إلى أنوار الهداية، والأسباب المخرجة من القوة إلى الفعلية. وقريب منه: (صراط الذين أنعمت عليهم) بخروج جميع القوى الطبيعية والمعنوية إلى فعلياتهما الدنيوية والأخروية، لا (المغضوب عليهم) الذين خرجوا إلى ما دون الطبيعة، فضاعت قواهم المودعة في وجودهم، فشرعوا في الحركة التضعيفية حتى وصلوا إلى باطن الدنيا والطبيعة، ولا (الضالين) الذين صادفوا الموانع عن حركتهم الجبلية الغريزية، فلم تدركهم العناية الربانية، فأصبحوا متحيرين وهالكين غير واصلين إلى الغاية الملحوظة لهم.

وعلى مسلك العارف: (صراط) كل موجود (أنعمت) عليه بسلوكه في مسيره المهيأ له، حسب الاسم المخصوص به في الذات في المرتبة الواحدية، وبانتهاء سفره المعنوي إلى السفرة الثالثة ثم الرابعة، فبلغوا إلى مقام الصحو بعد المحو، وإلى مقام البرزخية الكبرى بالجمع بين أحكام الوحدة والكثرة، دون (المغضوب عليهم)، الذين لم يخرجوا من بيت النفس المظلم ولا من سجن الطبيعة، فتوغلوا في أحكامها، وانغمروا في المادة ولواحقها، ودون (الضالين) الذين تحيروا في الطرق وفي الأسفار، فلم تدركهم العناية الإلهية بالرجوع من الوحدة إلى الكثرة، وهكذا لم يتمكنوا من السفر إلى المراحل المتقدمة على تلك الوحدة، فإنهم وإن لا يكونوا من (المغضوب عليهم)، لكنهم لا يعدون من المنعم عليهم أيضا، فمن سافر في السفرة الأولى والثانية والثالثة يعد من (الضالين)، ومن لا يسافر ولا يتمكن من هذا السير المعنوي مغضوب عليه، ومن شرع في السفرة الأخيرة بالرجوع إلى الكثرة من غير حجاب الوحدة، فهو من المنعم عليهم.

وعلى مسلك بعض المتصوفة: (صراط الذين أنعمت عليهم) بعدم التوجه إلى ذواتهم وصفاتهم وأفعالهم وآداب القراءة، دون من كان متوجها إليها وغير مؤدب بتلك الآداب، ودون (الضالين) الذين يتوجهون إلى شؤونهم ومؤدبون بالآداب القلبية والقالبية. وفي تعبير آخر: (صراط الذين أنعمت عليهم) بالولاية المخرجة له إلى فعلياتها الإنسانية، والفعليات الإنسانية من مراتب الولاية، والآثار الصادرة واللازمة من فعلياتها الإنسانية من التوسط في الأمور المذكورة، وهكذا الأعمال المعينة على الخروج المذكور، إنما هي نعمة باعتبار اتصالها بالنعمة التي هي الولاية، ولما كان المنعم عليهم بالولاية، هم المتوسطين بين التفريط في ترك الولاية، والإفراط المخرج عن حد الولاية، وصراطهم كان متوسطا بين التفريط والإفراط في جملة الأمور، وصفهم بقوله: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، فلا يكون من المفرطين المقصرين، ولا من المفرطين المتجاوزين حد الولاية، فالطريق الوسط هي الولاية لا غير. وقريب منه: (صراط الذين أنعمت عليهم) بنعمة الوحدة، والنعمة الخاصة الرحيمية، التي هي المعرفة والتوحيد والمحبة والهداية الحقة الذاتية، من النبيين والشهداء والصديقين والأولياء، الذين شاهدوه أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، فغابوا في شهودهم طلعة وجهه الباقي عن وجود الظل الفاني. (غير المغضوب عليهم) الذين وقفوا مع الظواهر، واحتجبوا بالنعمة الرحمانية والنعيم الجسماني والذوق الحسي عن الحقائق الروحانية والنعيم القلبي والذوق العقلي، كاليهود إذ كانت دعوتهم إلى الظواهر والجنان والحور والقصور، فغضب عليهم، لأن الغضب يستلزم الطرد والبعد، والوقوف مع الظواهر التي هي الحجب الظلمانية، غاية البعد والطرد والوقوف. (ولا الضالين) الذين وقفوا مع البواطن التي هي الحجب النورانية، واحتجبوا بالنعمة الرحيمية عن الرحمانية، وغفلوا عن ظاهرية الحق، وضلوا عن سواء السبيل، فحرموا شهود جمال المحبوب في الكل، كالنصارى إذ كانت دعوتهم إلى البواطن وأنوار عالم القدس، وأما دعوة المحمديين فإلى الكل والجمع بين صحبة جمال الذات وحسن الصفات.

وعلى مسلك الخبير البصير: لا تختلف هذه التعابير ولا تشتت تلك العبائر، بل: عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشير فإن القرآن بما أنه من الغيب إلى عالم الشهادة، وبما أنه تنزل من المطلق إلى المراتب النازلة وإلى أدنى مراحل التقييد، فطبعا هو المتحرك في السفر الرابع من المبدأ - في القوس النزولي - إلى المنتهى حتى صار عرضا مسموعا وخطا مكتوبا، فيما أنه كذلك مستجمع للكل مع وحدته الجمعية، ف? (صراط الذين أنعمت عليهم) لا يتأبى من أن يراد به واحد من هذه المعاني الرقيقة أو كلها، وهكذا (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) وهو تابع قصد القارئ، فله أن يقصد به المعين أو الكل في مقام القراءة. ومن هنا يتجلى لك أن مراتب المعاني ربما كانت أكثر من ذلك، فلا يمكن الإحاطة بما هو مرام الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) حين القراءة، ولكن ما يقصده حين القراءة داخل في هذا المفهوم العام اللغوي بالضرورة. وإن شئت قلت: إن المراد من (أنعمت عليهم)، إن كان المنعم عليه بنعمة التوحيد، ف? (المغضوب عليهم) والضالون هما المنكرون والمترددون، وإن كان المراد منه من أنعم عليه نعمة الإقرار بالأسماء والصفات والأفعال، المناسبة لمقام وجوب الوجود، فهما مقابلاه على الوجه المزبور، وإن كان المراد منه نعمة الإقرار بالشريعة فهكذا، وإن كان المراد منه نعمة الإقرار بالإسلام فهكذا... إلى أن تصل النوبة إلى أن يكون المراد منها نعمة العود من السفر الثالث المعنوي، فيكون أكثر الموحدين والمسلمين والمؤمنين من (المغضوب عليهم) و (الضالين)، فإن من كان همه الوصول إلى نعمة الآخرة، بدخول الجنة والفرار من النار، فهو مغضوب عليه، لأنه قد أفنى في ذاته استعداده الذاتي والفطرة التي توجهه إلى المراتب العالية، التي لا ينظر بالوصول إليها إلى الجنة والنار، ويكون خليا عنهما، ومشتاقا إلى جنة الذات متنفرا من حجبها. ومن لم يتمكن من إحياء تلك الغريزة وإخراجها من القوة إلى الفعلية - بالتردد في أثناء الطريق - يكون من الضالين. ف? (المغضوب عليهم) والضالون يقاسون إلى المنعم عليهم وإلى النعمة المخصوصة بهم، وحيث إن الآية الشريفة لا تأبى عن شمول كل المعاني، وتكون النعمة عامة وقابلة لشمول جميع أنحائها، فلا يختص المراد منها بإحدى الاحتمالات المذكورة، بل جميعها مندرج تحتها بعون الله وقدرته.


1- معاني الأخبار: 36 / 8.

2- معاني الأخبار: 36 / 7.

3- وسائل الشيعة 4: 752 كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب 17، الحديث 2.

4- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 50 / 23.

5- نفس المصدر.

6- تفسير القمي 1: 29.

7- نفس المصدر.

8- راجع الدر المنثور 1: 16.

9- مسند أحمد بن حنبل 5: 77.

10- الدر المنثور 1: 16، روح المعاني 1: 90.

11- راجع روح المعاني 1: 90.