علم الأسماء والعرفان

قد تحرر في محله: أن غير هذا السفر الظاهري والحركة المتوسطة بين المبدأ والمعاد، سفرا معنويا ينقسم إلى غير النهاية، حسب السير في المعاني والروحانيات، وحسب الحركة في الحسنات الأخلاقية والفضائل الإنسانية، بالخروج من الحجب الظلمانية وبترك الغرائز الرذيلة، إلا أن المعروف منهم (1) - ومن تحريراتنا في " القواعد الحكمية " لبعض المناسبات العرفانية - أن عمده أربعة، وقد ذكرناها في بعض البحوث السابقة، ونشير إليها حتى يتوجه السالك العارف إلى أن هذه السورة قد اشتملت - حسب الذوقيات الإدراكية - على تلك الأسفار غير مرة. اعلم: أن السفر الأول هو السير من الخلق إلى الحق المخلوق به والحق الثاني، برفض الكثرات والخروج عن تلك البيوت والدور، والوصول إلى مرتبة القلب بشهود الوحدة الظلية المستجمعة لجميع الأوصاف والكمالات الكلية، وتلك الوحدة مظهر الوحدة الأصلية، ولعل إلى هذه السفرة الصعبة يشير المولوي: جمله دانسته كه أين هستى فخ است ذكر وفكر اختياري دوزخ است (2) والسفرة الثانية من الحق المخلوق به إلى الحق الأول، بخروجه عن تلك الوحدة الوهمية، ووصوله إلى مقام الواحدية، بمشاهدة الأوصاف والصفات الإلهية، وملاحظة أحكام الروح بعد الخروج عن بيت القلب وقبل الوصل إلى مقام السر. والثالثة من الحق الأول - ومن الحضرة الواحدية الجمعية - إلى الحق المتجلي بتجلي الأحدية الغيبية الذاتية، بخروجه من المرتبة السابقة ووصوله إلى هذه الحضرة. وهناك سفرة أخرى غير ممكنة وقد استأثرها لنفسه لا ينالها الأوحدي.

عنقا شكار كس نشود دام بازگير (3) ويصل في هذه الورطة إلى مقام الخفاء بل والأخفى، وهنا الضلالة الحقيقية لما لا يبقى منه الأثر، ويبقى ببقاء الله، فإذا كان ممن شملته العناية الإلهية والرحمة الرحيمية، يشرع في السفرة الأخيرة من الحق الأول إلى الخلق، واجدا لمقام البرزخية الكبرى، متنعما بأنواع النعمة، وفي هذه السفرة يأتي بالتشريع والقانون. وقد اختلفت أحكام الراجعين إلى الحق حسب اختلاف حالاتهم في هذه الأسفار، واختلفت الشرائع الإلهية لاختلاف مقاماتهم: فمن سافر من بيت النفس المظلمة بالمرة، وجاهد في الله حق جهاده، وتوجه إليه توجها تاما بجميع شؤونه وأحكام وجوده، هو النبي الإسلامي الخاتم، محمد بن عبد الله الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) روحي وروح العالمين لتراب قدمه الفداء، وقد صاحبه في هذه السفرة الأنوار الاخر والأئمة الاثنا عشر بوحدة نورانية، حشرنا الله تعالى معهم، ورزقنا الله شفاعتهم.

فإذا طلع لك هذه الحقائق وظهر عليك تلك الرقائق المبرهنة في مقاماتها والمشفوعة بالمشاهدات العرفانية عند أهلها، فإليك الآيات الأخيرة من هذه السورة الجامعة: فإن المنعم عليهم هم الذين رجعوا عن السفرة الثالثة إلى الشهود، ومن الفناء الذاتي والصفاتي والأفعالي إلى البقاء ببقاء الله، ومن الباطن والغيب المطلق إلى الظاهر والشهادة المطلقة، فهم المهتدون الحقيقيون الذين يطلب السالك أن يهتدي بهداهم ويقتدي بهم. والمغضوب عليهم هم الذين لم يخرجوا من سجن الطبيعة، ولم يتحركوا إلى دار العزة والاهتداء، وانغمروا في الشهوات والرذائل، وانغمسوا في الخبائث والمادة، ولم يدركوا من الغيب شيئا ولا من الحقيقة أمرا، ولم يذوقوا من أطعمة الآخرة، ولا من لذائذ القيامة، حتى ماتوا كالأنعام، بل هم أضل سبيلا. وأما الضالون المتحيرون الباقون في السفرة الثانية والثالثة، ولم تدركهم العناية الإلهية بالخروج من جلباب الحجب النورانية، فلم يصبحوا في الآفاق المطلوبة، بالرجوع من تلك الوحدات، فلم يتمكنوا من حفظ مقام الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة، فضلوا - كما أن الحكمة ضالة المؤمنين - وقد تبين لك أن الضلال أصله الهلاك، فهلكوا. والله هو المؤيد، وعليه التكلان.

إفاضة وإنارة

في اعتبارات " المنعم " اعلم أن - حسب التقسيم المعروف في الأسماء الإلهية - " المنعم " من أسماء الأفعال، وحسب ما تحرر: أن جميع هذه الأسماء - في اعتبار - من أسماء الذات، وفي اعتبار آخر تنقسم إلى الأسماء الثلاثة: الذات والصفة والفعل، وربما يعد الاسم الواحد - باعتبار اختلاف الآثار في مختلف النشآت - من الأسماء الثلاثة أو الأخيرتين منها (4)، ومن تلك الأسماء - حسب ما يأتي منا تفصيله في أوائل سورة البقرة إن شاء الله تعالى - اسم " المنعم "، فإن من ظهوره يتجلى الأعيان الثابتة في النشأة العلمية، ويتقدر الأشياء بقدرها، ومن تجليه الآخر تظهر الأشياء في النشأة العينية، فهو تعالى منعم بالإنعامين: الإنعام بفيضه الأقدس والإنعام بفيضه المقدس، والإنعام الثاني ظهور الإنعام الأول، وتجل عيني لتجل علمي. وفي اعتبار أن " المنعم " من اعتبارات الذات في المرتبة الواحدية، كعلم الذات بالأسماء والصفات، ضرورة أن وصف الإنعام الذاتي وإن لا ينتزع من الذات بما هي هي، ولكنه ينتزع منها باعتبار التجلي الأول بصدور الفيض الأقدس، فهو منعم في تلك المرحلة وذلك المقام، وحيث إن " المنعم " من توابع اسم " القدير " الذي هو من الأمهات الأسمائية، فلا يكون بنفسه من الأوصاف الكمالية الذاتية، بل هو من الأوصاف الانتزاعية القهرية من غير لزوم نقص في الذات، ثم استكمال لها بذلك الوصف، وللمسألة طور آخر يطلب من محاله.

ولأجل أن النعمة عامة وخاصة - كنعمة الوجود وكمالاته الوهمية، وكنعمة المعرفة وكمالاتها الحقيقية - يكون هذا الاسم من الأسماء الرئيسة، بل في اعتبار جامعا للاسمين " الرحمن والرحيم "، ولكن قد عرفت عموم كل واحد منهما من قبل الذات المقدسة، وهكذا إنعامه بالكمالات الحقيقية عام من ناحية الذات الأحدية، وإنما الاختلاف في كيفية الاستعدادات والقوابل، (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) (5).

نقل وتحقيق

في إشارة السورة إلى الأسفار الأربعة قد اختلفوا في كيفية سير السالكين وسفر العارفين على تعابير مختلفة ومشاهدات متفاوتة. والذي مر منا هو الذي أفاض الله تعالى على قلب عبده في سالف الأزمنة - خلافا لزمرة أرباب التأليف ولما قيل في المقام - أن هذه السورة بأجمعها تشير إلى تلك السفرات المعنوية والأسفار الروحانية، وذلك لأن: الاستعاذة إشارة إلى السفر من الخلق إلى الحق، لأن هذا السفر فرار من الكثرات ومظاهر الشيطان إلى عالم التوحيد ومظاهر الحق تعالى، والاستعاذة القولية إخبار بهذا الالتجاء، والاستعاذة الفعلية نفس ذلك الالتجاء والفرار. والتسمية إلى قوله: (مالك يوم الدين) إشارة إلى السفر من الحق إلى الحق، فإن التسمية إخبار بالاتصاف بصفاته تعالى، وما بعده إلى (مالك يوم الدين) إعلام بحركة السالك في صفات الحق تعالى إلى ظهور مالكيته وفناء العبد في ذاته، وهذا السفر حركة في صفات الحق تعالى إلى فناء العبد.

وقوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) إشارة إلى السفر بالحق في الحق، لأن مالكيته تعالى لا تظهر إلا إذا صار العبد فانيا من فعله ووصفه وذاته، وبفناء ذاته يتم عبوديته، وبعد كمال عبوديته لا يكون سيره إلا إلى الحق المطلق، ولا يكون إلا بالحق لعدم ذات له. وقوله تعالى: (إهدنا الصراط المستقيم) إشارة إلى السفر بالحق في الخلق، وهذا هو الرجعة الاختيارية في العالم الصغير، والبقاء بعد الفناء والصحو بعد المحو، وينبغي أن يكون هذا السفر بحفظ الوحدة في الكثرات، والصراط المستقيم في هذا السفر هو محفوظية الوحدة في الكثرة، بحيث لاتغلب إحداهما على الأخرى، ولا تختفي إحداهما تحت الأخرى. وهذه الأحوال قد تطرأ على السلاك، سواء استشعروا بها أم لم يستشعروا. أذاقنا الله وجميع المؤمنين منها ومكننا فيها، والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (6).


1- راجع رسالة في تحقيق الأسفار الأربعة، محمد رضا القمشه اي، ضمن شرح الهداية الأثيرية: 394.

2- مثنوى معنوي، دفتر ششم، بيت 226.

3- ديوان حافظ شيرازي وتمامه: كانجا هزار باد بدست است دام را.

4- راجع شرح القيصري على فصوص الحكم: 14، مصباح الانس: 113.

5- الرعد (13): 17.

6- القائل هو سلطان محمد الجنابادي في تفسير بيان السعادة 1: 36.