الكلام وعلم الاعتقادات

وهنا مسائل:

المسألة الأولى: حول النعمة على الكافر اختلفوا في أن لله تعالى نعمة على الكافر أم لا؟فقال بعض العامة: ليس لله تعالى على الكافر نعمة، وقالت المعتزلة: لله على الكافر نعمة دينية ونعمة دنيوية. واحتجوا على المقالة الأولى بقوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم)، ضرورة أنه لو كان الكافر متنعما بنعمته تعالى، لا ندرج تحت هذه الآية، ويلزم كون طلب الهداية إلى الصراط المستقيم طلبا إلى صراط الكفار، وهو باطل بالضرورة. وتوهم: أن الصراط الأول غير الصراط الثاني، مدفوع: بما تقرر من البدلية (1).

أقول: لا شبهة في وفور نعم الله تعالى على الكفار من نعمة الوجود وكمالاته الدنيوية، ولا شبهة في اتصافهم بالكمالات الحقيقية المعنوية الأخروية إذا كانوا غير معاندين، بل ورد أن مثل حاتم في النار وعليه حلقة تمنع أن تمس جسمه وهي حلقة السخاوة، فما توهمه هؤلاء الفضلاء فهو لعدم غورهم في المسائل الحقيقية ولعدم اطلاعهم على حقائق النعم الإلهية في الدار الآخرة، فظنوا أن نعم الدنيا شئ لا ينبغي للكافر، أو لا يعطيهم الله - تعالى عن ذلك - غفلة عن التوحيد الأفعالي، فإن كل موجود وجوده من الله، وكمال وجوده منه تعالى (وما بكم من نعمة فمن الله) (2)، (وما أصابك من حسنة فمن الله) (3)، (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين) (4)، (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) (5). فيعلم من هذه الآيات أن النعم النازلة على الكفار هي من قبل الله تعالى، وفي بعض رواياتنا: أنه لولا المخافة على إيمان المؤمنين لجعلنا ميزابهم من الذهب (6). فبالجملة: لا بخل في حضرته تعالى، فإذا كانت هناك قابلية لأية نعمة فهي تفاض من ناحيته المقدسة، لعدم عجزه عن ذلك، ولا يخص أحد بشئ إلا لخصوصية اكتسابية حسب ما تحرر في محله.

المسألة الثانية: تناسب الآية للإمامة قال الفخر: قوله تعالى: (إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم) يدل على إمامة أبي بكر، لأنا ذكرنا أن تقدير الآية هكذا: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، والله تعالى قد بين في آية أخرى: أن الذين أنعم عليهم من هم فقال: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين)، ولا شبهة في أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر، ولو كان أبو بكر ظالما لما جاز الاقتداء به (7). انتهى بتلخيص منا. ومن العجيب - وإن كان ليس من مثله بعجيب - أن حب الشئ يعمي ويصم، فأنت ترى أنه كيف أدخل مقدمة خارجية مفروغة عنده في إتمام الاستدلال بالآية الشريفة، وسيظهر للقارئين الكرام في ذيل بعض الآيات المناسبة أن مسألة الولاية كمسألة النبوة من المسائل الكلية العقلية، ولا يمكن بناء الاعتقادات الجازمة على الأدلة اللفظية السمعية. نعم هذه الأدلة تؤيد البراهين العقلية، إذا كانت الأدلة اللفظية الصريحة موقفها التأييد، فكيف بمثل هذه الأراجيف والأباطيل ؟! ولعمري إنه لو أسقط مثل هذا الاستدلال كان أولى وأحسن، لما يستظهر منه أن مبنى اعتقاداتهم على هذه الدلائل الواهية والبراهين الفاسدة، ولو صح هذا النحو من الاستدلال لصح الاستدلال بجميع الآيات والكبريات الكلية على خلافة كل موجود، لأن من انضمام اعتقاد المستدل إلى صغريات تلك الكبريات يتم الاستدلال. مثلا: من يعتقد بأن يزيد بن معاوية من الأنبياء، يستدل بهذه الآية: إن المسؤول عنه بقوله: " اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم " هو صراط يزيد بن معاوية لأنه من النبيين قطعا... وهكذا. فعلى هذا فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا على الدليل والمستدل.

المسألة الثالثة: حول مسألة الجبر قالت المعتزلة: إن خالق الإيمان هو العبد لا غيره (8)، وهذه الآية تدل على أن الإيمان من إنعام الله تعالى، ضرورة أن الإيمان إما هو القدر المتيقن من قوله تعالى: (أنعمت عليهم)، أو هو المقصود لا غيره، أو هو أيضا داخل في الآية، بل قد ورد في أخبارنا ما يؤيد الأول (9)، وقد مر طائفة منها فيما سبق حول المراد من الصراط المستقيم (10)، وهذا هو المستظهر من قوله: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، فإن النعمة المقابلة للغضب والضلالة هي نعمة الإيمان والاعتقادات الصحيحة. إن قلت: بناء على هذا يلزم الجبر، فإن خالق الإيمان إذا كان هو الله تعالى، فخالق الكفر أيضا هو تعالى. قلت: ليس معنى خلق الله الإيمان والكفر: أنه تعالى جزافا يريد الإيمان في أحد والكفر في الآخر، بل الكفر والإيمان من كمالات الوجود، ومثل سائر الصور الحالة في محالها ويتقوم بالإمكانات الخاصة الاستعدادية والصور السابقة، إلا أن الإيمان من الكمالات الحقيقية والكفر من الكمالات الوهمية. فبالجملة: لا شبهة حسب البراهين المقررة في محله، وسيوافيك في بعض البحوث المناسبة: أن إرادته تعالى نافذة، وقدرته تعالى عامة شاملة لكل شئ (11)، وأن إرادة العبد وقدرته رشحة من تلك الإرادة الأزلية الكلية السعية، ولها الدخالة في حصول الإيمان والكفر، من غير كونها علة تامة، فالإيمان والكفر من الأمور التي تكون تحت الاختيار والإرادة بمبادئها وإن لا يتعلق بها الإرادة والاختيار ابتداء. فما يتوهمه المعتزلة من: أن الإيمان مخلوق الإنسان من أجزاء مقالتهم الكلية بالتفويض، كما أن من يتوهم: أنه مخلوق الله من غير دخالة إرادة العبد، هو أيضا من أجزاء مقالته الكلية بالجبر، وخير الأمور أوسطها، كما تحرر وتقرر.


1- راجع التفسير الكبير 1: 259، والبحر المحيط 1: 28.

2- النحل (16): 53.

3- النساء (4): 79.

4- الزخرف (43): 35.

5- آل عمران (3): 178.

6- لم نعثر عليها في هذه العجالة، انظر تفسير البرهان 4: 141.

7- راجع التفسير الكبير 1: 260.

8- راجع شرح المقاصد 4: 223 وما بعدها، وشرح المواقف 8: 146 وما بعدها.

9- راجع معاني الأخبار: 36 - 37 / 9.

10- راجع الفاتحة: الآية 6، التفسير والتأويل على اختلاف المسالك والمشارب.

11- راجع الأسفار 6: 369.