الفقه والآداب

مسألة: حول بطلان الصلاة بالإخلال بالقراءة قد سبق أن بسطنا القول حول جواز الاقتداء بالقراء وعدمه، وقربنا الثاني، وقلنا: إن القراءات السبع غير ثابت جوازها، فضلا عن الشواذ والنوادر، ولو كان يجوز، فيجوز كل وجه لا يخل بالعربية وإن لم يكن قرأه أحد. ومما يجب التنبيه عليه هنا: هو أن المحكي عن الحافظ ابن كثير في تفسيره: الصحيح من مذهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء، لقرب مخرجيهما، وذلك لأن الضاد... إلى أن قال: فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك. والله أعلم. وأما حديث " أنا أفصح من نطق بالضاد " فلا أصل له (1). انتهى. وفي بعض التفاسير الحديثة: أن أكثر أهل الأمصار العربية قد أرادوا الفرار من جعل الضاد ظاء - كما يفعل الترك وغيرهم من الأعاجم - فجعلوها أقرب إلى الظاء منها إلى الضاد حتى القراء المجودون منهم إلا أهل العراق وأهل تونس - على ما نعلم - أفصح أهل الأمصار نطقا بالضاد، وإننا نجد أعراب الشام وما حولها ينطقون بالضاد، فيحسبها السامع ظاء لشدة قربها منها وشبهها بها، وهذا هو المحفوظ من فصحاء العرب الأولين حتى اشتبه نقلة العربية عنهم في مفردات كثيرة، قالوا: إنها سمعت بالحرفين، وجمعها بعضهم في مصنف مستقل، والأشبه أنه قد اشتبه عليهم أداؤها منهم، فلم يفرقوا (2). أقول: اختلاف أشكال الحروف كتبا لأجل اختلاف الحروف صوتا وموجا وحقيقة، واختلاف تلك الأصوات والأمواج لاختلاف أسبابها ومبادئها الوجودية، ولو كان الصوت الحاصل من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان ويساره، عين الصوت الحاصل من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا، لما كان وجه لتعدد أشكالها الكتبية وللزم اللغوية، ولما كان وجه للاقتصار على الشكلين، بل كان ينبغي تكثير الحروف الكتبية أكثر من هذا. فانحصار وجوداتها الكتبية لأجل انحصار وجوداتها السمعية الصوتية، واختلافها كتبا لأجل اختلافها حقيقة وسماعا، فمن يتوهم ذلك فهو لأجل قلة الباع وعدم العثور والاطلاع على جوانب القضايا وشتى مسائلها. ومن المحرر في محله: أن الأغلاط الإملائية تنشأ من اختلاف الألسنة، وإلا فلا معنى لأن يغلط في كتابة الحروف العربية، كما لا يغلط الإنسان في سماع الفاء والقاف، كذلك لا يقع في الغلط الإملائي في سماع الظاء والضاد والذال والزاء، لأن لكل منها مخرجا يخصه وصوتا ممتازا عن الآخر ثبوتا وواقعا. نعم ربما لا يتميز لقرب المخارج والأصوات، كما ربما لا يتميز بين الحروف المتميزة إثباتا، لبعد المسافة وضعف قوة السامعة، ولكن لا هذا ولا ذاك له مدخلية في واقعية الأمر. وغير خفي: أن الإنسان ربما يقتدر على إخراج الأصوات المشابهة من المخارج الكثيرة، أو الأصوات المضادة من المخرج الواحد، ولكنه خروج عن طبع المتكلم وأسلوب المخاطبات. وأما ما في بعض التفاسير الحديثة من الاستشهاد على اختلافها: بأن قوله تعالى: (وما هو على الغيب بضنين) (3) قد قرئ بكل من الضاد والظاء، والضنين هو البخيل، والظنين المتهم، ولو استوى الحرفان لما ثبت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان (4). فهو قريب إلا أنه ليس من البرهان اللم، بل هو من قبيل الإن القابل للمناقشة، بأنه منشأ التوهم. وبعبارة أخرى: يمكن أن يتوهم أحد اتحادهما ثبوتا، ويدعي أن اختلافهما في القراءة ناشئ عن الغفلة عن حقيقة الحال. والظاهر أن المسألة عند فقهائنا إجماعية، وأن الإخلال بالضاد من " المغضوب عليهم " بإتيان الظاء يورث البطلان، إلا أن هنا اختلافا في أن الكلمة تبطل، أو الصلاة - مثلا - تصير باطلة، فظاهر الأكثر هو بطلان الصلاة، لأنه من الزيادة العمدية، وهي منهي عنها وموجبة للبطلان (5). ومن الممكن توهم: انصراف أدلة الزيادة العمدية عن مثله، لأنه يعد من قراءة القرآن غلطا، وهو لا يورث فساد أصل الصلاة. وفيه مالا يخفى، فإن القرآن لا يوصف بالغلط والصحيح، بل هو موضوع لما نزل به جبرئيل (عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو أمر مضبوط وواحد من عند الواحد، ووجوده الكتبي مرآة ذلك الوجود الوحداني النوراني. وللمسألة موقف آخر يطلب منه.


1- راجع تفسير ابن كثير 1: 30، وتفسير المنار 1: 100.

2- تفسير المنار 1: 100.

3- التكوير (81): 24.

4- راجع تفسير المنار 1: 100.

5- راجع جواهر الكلام 9: 286.