البلاغة والمعاني

وهنا مطالب:

المطلب الأول: النكات في ذكر الأوصاف الثلاثة تعقيب الصراط المستقيم بالجمل الثلاثة المتأخرة، خروج عن المساواة والإيجاز، وتجاوز إلى الإطناب الممل، وقد حكي عن بعض المتعصبين المعاندين من النصرانيين: أن سورة الفاتحة لا تكون بليغة مستدلا بمثل ذلك، وقد لخصها على نهج تخيله وتشيطنه، وقال: لو قال: " الحمد للرحمن، رب الأكوان، الملك الديان، لك العبادة وبك المستعان، اهدنا صراط الإيمان " لكان أوجز، وجمع كل المعنى وتخلص من ضعف التأليف (1). انتهى.

وأنت لا تحتاج إلى التفكر والتأمل في جوابه، ولا سيما بعدما أحطت في هذا الكتاب بالمسائل الكثيرة، التي استخرجناها من الخصوصيات المركوزة في الآيات ومطاويها، ومن النكات والدقائق الكامنة تحت أستارها، وأما ذكر الآيات المفسرة أو المبينة لبعض مصاديق الصراط المستقيم، فسيأتي المحاسن المستنبطة منها، والمعاني الممكن استخراجها من جوانبها. ومنها: أنه بدونها لا نجد إلا الصراط الطبيعي والانتقال منه إلى الطرق المعنوية والسبل الروحانية، يحتاج إلى مزيد عناية يستغني عنها بتلك الآيات. ثم إن المقام ليس مقام الإيجاز والاختصار، ولا موقف الرمز والاقتصار، لأنه بعد ما حمد الله تعالى وأثنى عليه بتلك المحامد والأثنية، وذكره بتلك الأوصاف الجمالية والجلالية، ثم عبده بالعبادات القلبية والقالبية، فوصلت نوبة الأجر والجزاء، واستعانه على تلك التذللات والتوسلات، وطلب منه الهداية، ولابد من الإلمام في الطلب بذكر خصوصيات المطلوب، لأنه دأب الطالبين، ولو كان ما قيل صحيحا لكان ينبغي أن يختصر على كلمة واحدة، وهي " بسم الله " لما فيها من كل الأشياء، فلا تغتر بما يقوله الظالمون.

المطلب الثاني: إضافة " صراط " إلى " الذين " من إضافة " الصراط " إلى " الذين " يعلم: أن المراد من " المستقيم " هو المراد منهم، ويكون الاستقامة هو الإنسان الكامل، وهذه أيضا من ثمرات هذه الآية المذكورة بعد الآية السابقة، وهذا مما لا يهمنا بحثه هنا، وما هو مقصودنا هو أن الجمع المزبور استغراقي أو مجموعي، أي صراط الذين أنعمت عليهم صراط واحد، لأن الذين أنعم عليهم لوحظوا بوصف الوحدة، أم هو كثير بالكثرة الأفرادية، أي صراط كل واحد من الذين أنعمت عليهم، فيطلب السبل الكثيرة والصرط المتعددة. والذي يظهر للمتدبر: أن الثاني لا وجه له، ضرورة أن الإنسان لا يتمكن إلا من أن يسلك سبيلا واحدا، فكيف يسأل ربه أن يهديه السبل الكثيرة، وإن كانت كلها مستقيمة ومن المنعم عليهم ؟! ومن الممكن أن يقال: إنه سأل الكثير حتى يعطى واحدا، وذلك إحدى طرق التكدي والالتماس والدعاء والاستجداء، وإني بعد ما وجدت في كتب التفاسير من كشف النقاب عن هذه المعضلة، ولكنك أحطت فيما سلف: بأن المسالك في وحدة الصراط وكثرته مختلفة، والنظر هنا فيما هو الظاهر من الآية الكريمة. ولا يبعد كونه العام المجموعي، أي صراط هؤلاء الناس هو الصراط المستقيم، من غير نظر إلى كون الأشخاص الكملين نفس الصراط، وعلى هذا لا يبقى احتمال كون (غير المغضوب عليهم) استثناء من (الذين أنعمت عليهم)، لأن الاستثناء يحسن من العام الاستغراقي.

المطلب الثالث: حول عمومية النعم مقتضى إطلاق قوله تعالى: (أنعمت عليهم) - من غير تعيين أصل النعمة وكيفيتها وكميتها - عمومها، وهو صراط من أنعم الله عليه بأنواع النعم وأنحائها: الدنيوية والأخروية، والجسمية والروحانية، والمادية والمعنوية، والجزئية والكلية. أو المراد هو العموم الأفرادي، أي صراط كل أحد أنعمت عليه أية نعمة كانت، ولو كانت قليلة دنيوية، ويسيرة غايتها، وحقيرة نهايتها، فيكون " المغضوب عليهم " و " الضالين " غير متنعمين بأية نعمة. أم الظاهر أن " المغضوب عليهم " و " الضالين " ربما كانوا من المنعم عليهم بأنحاء النعماء الدنيوية، وربما كانت نعمتهم أكثر من غيرهم، فعلى هذا ينحصر أن يكون الحذف دليلا على أن النعمة المقصودة في المقام هي النعم الربانية الإلهية والروحانية المعنوية المنجية من بلايا الآخرة وعواقبها ومن تبعات الدنيا وطوارقها.

وقد حكي عن الشيخ البهائي: أن نعمه تعالى وإن جلت أن يحيط بها نطاق الحصر، كما قال تعالى: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)، لكنها ثمانية أنواع، لأنها: إما دنيوية، أو أخروية، وكل منهما: إما موهبي، أو كسبي، وكل منهما: إما روحاني، أو جسماني. وهذا تفصيلها: دنيوي موهبي: إما روحاني، كإفاضة العقل والفهم، أو جسماني، كخلق الأعضاء. دنيوي كسبي: إما روحاني، كتحلية النفس بالأخلاق الزكية، أو جسماني، كتزيين البدن بالهيئات المتنوعة. أخروي موهبي: إما روحاني، كغفران ذنوبنا من غير سبق توبة، أو جسماني، كالأنهار من اللبن والعسل في الجنة. أخروي كسبي: إما روحاني، كغفران الذنوب بعد التوبة، أو جسماني، كاللذات الجسمانية المستجلية بفعل الطاعات (2). والمراد هنا هي الأربعة الأخيرة، وما يكون وسيلة إلى نيلها من الأربعة الأول. وقال الوالد المحقق مد ظله: إن تقسيم الشيخ وإن كان لطيفا، إلا أن أهم النعم الإلهية، وأشرف مقاصد الكتاب الشريف، قد سقط من قلمه المنيف، وقد اكتفى بذكر نعم الناقصين أو المتوسطين، وإنه (قدس سره) وإن ذكر النعم الروحانية واللذة المعنوية، إلا أنه أراد منها اللذة الحاصلة من فعل الطاعات، التي هي حظ المتوسطين إن لم نقل: هي من حظوظ الناقصين.

وبالجملة: غير تلك النعم هناك نعم اخر ولذات أخرى، عمدها ترجع إلى ثلاثة: أحدها: نعمة معرفة الله ومعرفة الذات، وعرفان السلوك إليه تعالى، المستتبع لجنة الذات وجنة اللقاء. وغير خفي: أن السالك لابد وأن لا ينظر في حال سلوكه إلى الثمرات والنتائج، وإلا فهو في السلوك قاصر، ويرجع إلى السلوك إلى نفسه وإلى عبادة شخصه وإحياء إنيته وأنانيته، ولا يكون فيه رفض الكثرات والتوجه التام إلى التوحيد الذاتي، وهو في غاية الضلالة والغضب. ثانيها: نعمة معرفة الأسماء والصفات والعرفان بها حقه، وهذه النعمة لها الأنواع الكلية من الأسماء الإلهية، وإذا لوحظت بحسب أفرادها وأشخاصها تكون نعمة، وإن تعدوها لا تحصوها. وفي هذا المقام يحصل للسالك التوحيد الأسمائي بمعرفة الاسم الأعظم الإلهي، ويتجلي بمقام الأحدية الجمعية الأسمائية. ثالثها: معرفة النعم الأفعالية التي تتكثر وتتشعب بشعب غير متناهية، ويتجلي السالك في هذه المرحلة بمقام الأحدية الجمعية الفعلية، التي هي مقام الفيض المقدس والولاية المطلقة. والجنة التي تلازمه في الثانية هي جنة الصفات، وفي الثالثة هي جنة الأفعال. رزقنا الله تعالى وإياه. فعلى هذا تبين: أن صراط المنعم عليهم في السلوك إلى الله تعالى، هو السلوك إلى ذاته تعالى، والنعمة التي ينالها السالك في ذلك المقام، هو التجلي الذاتي، وصراطهم في المقام الثاني هو السلوك بأسماء الله، وما هي النعمة في هذه المرحلة هي التجلي الأسمائي، وصراطهم في المقام الثالث هو السلوك إلى فعله تعالى وما يرزقه الله تعالى في هذه الورطة هو التجلي بفعله تعالى، والسالك المتوجه إلى هذه المقامات، لا ينظر إلى جنة أفعال الطاعات وأعمال القاصرين، روحانية كانت أو جسمانية، وقد أشير في بعض مآثيرنا إلى هذه المقامات لطائفة من المؤمنين، الذين لا يتوجهون إلى الجنة زمرا (3). انتهى بتصرف منا.

المطلب الرابع: حول كون " غير " استثناء حقيقة اعلم أن الناس على أصناف: الصنف الأول هم المنعم عليهم، والصنف الثاني هم المغضوب عليهم، فخرجوا عن الصراط المستقيم، والصنف الثالث هم الضالون المتحيرون، الذين يمكن أن ينالهم الهداية، والصنف الرابع الذين هم كانوا من المنعم عليهم، ثم صاروا من المغضوب عليهم أو الضالين. وهناك أقسام اخر لسنا بصدد إحصائها.

والذي هو مورد النظر: هو أن الآية الشريفة، هل هي ظاهرة في أن المطلوب صراط الذين هم الآن من المنعم عليهم، ويكون قوله: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) استثناء عن المنعم عليهم، أي اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، لا مطلق من أنعمت عليهم، بل استثني منهم المنعم عليه الذي صار مورد الغضب والمنعم عليه الذي ضل، أم هي ظاهرة في أن المطلوب هو صراط الصنف الأول، وتكون الجمل المتأخرة قرينة على المراد. والذي هو الأنسب بالبلاغة والفصاحة: أن توصيف " الذين " بغير المغضوب عليهم غير لائق بالكتاب العزيز، وغير مساعد عليه في الذوق السليم، ولذلك ترى في تراجم القرآن باللغة الفارسية، أن الجملة تفسر بصورة الاستثناء، ويشكل التخصيص، وهذه الجملة وإن كانت وصفا نحويا، ولكنها في حكم الاستثناء حسب الأدب العالي والبلاغة الكاملة، ولكن لنا الالتزام بأنه من قبيل الاستثناء المنقطع، ولا يكون له المستثنى منه. وإن شئت قلت: ترجع الآية الشريفة إلى هذا: " اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، لا صراط المغضوب عليهم ولا الضالين "، ولو كانت جملة " غير المغضوب عليهم " وصفا واقعا، للزم كون هذه الجملة حملية، وجملة " ولا الضالين " سلبية، كما أشرنا إليه في البحوث الماضية، وهذا التفكيك لا تساعد عليه البلاغة ووحدة الأسلوب، فالإتيان بكلمة " غير " إيماء إلى هذه النكتة، وهو إفادة: أن المطلوب هو الصراط المستقيم الراسخ غير المتزلزل بطرو الغضب عليه والضلال.

المطلب الخامس: حول استناد النعمة إليه تعالى دون غيرها من الأمور الملحوظة في هذه الآيات الشاهدة على نهاية بلاغة الكلام: أن النعمة استندت إليه تعالى وأن المنعم عليهم لا تكون النعمة من قبلهم، بخلاف الغضب والضلال، فإنهما نسبا إليهما من غير استناد إليه تبارك وتعالى، فيكون أسباب الغضب والضلال في أنفسهم، ومن سوء أفعالهم وعقائدهم. وسيظهر بعض المسائل العقلية حول هذه الدقيقة.

تقابل الأوصاف الثلاثة

ثم إن من المحاسن التي تزيد في فصاحة السورة وبلاغتها: أن الأوصاف المأخوذة في هذه الجمل متقابلة، ولا يزاد عليها شئ، وذلك لأن الإنسان لا يخلو - بحسب الحال - من إحدى هذه الحالات الثلاثة: إما يكون من لمنعم عليهم ومورد الرحمة والإنعام بالهداية إلى تلك النعمة والوصول إليها، أو يكون من الذين أيسوا من هدايته وانخلعت قابلية مادته عن الوصول إلى نور الهداية، فيكون في ظلمات بعضها فوق بعض، أو يكون من المستضعفين، لا بالغا إلى الهداية ولا مغضوبا عليه بغضب الظلمة والذلة، بل هو متحير وفي الطريق متردد، ويمكن أن تناله يد الغيب ونور الهداية. ولكل واحد منهم مراتب كثيرة ربما تكون غير متناهية.


1- تفسير المنار 1: 79.

2- العروة الوثقى، ضمن كتاب حبل المتين للشيخ البهائي: 408، آداب الصلاة، الإمام الخميني (قدس سره): 295 - 296.

3- آداب الصلاة، الإمام الخميني (قدس سره): 295 - 296.