النحو والإعراب

وهنا مسائل:

المسألة الأولى: حول إعراب " الصراط " في الآية اشتهر بدلية الصراط الثاني من الأول، بدل الكل عن الكل، ويسمى بدل الموافق أو المطابق في موقف خاص، ويكون من قبيل تبديل المعرفة عن المعرفة، فيفيد فائدة عطف البيان، ويجوز أن ينعكس، فيكون حسب التركيب عطف بيان، وعلى كل تقدير لا تخرج العبارة عن أسلوب العربية، وعلى قراءة الصراط الأول نكرة - كما مر - هو إلى التوصيف أقرب من البدل، وقيل: يجوز تبديل المعرفة من النكرة، ولا سيما إذا كانت مخصوصة، كما فيما نحن فيه. والإنصاف: أن مع تكرار لفظة " الصراط " لا يناسب الكلام الحمل على التوصيف ولا البدلية، بل التكرار يعين كون الثاني عطف بيان جئ به لتوضيح المعطوف عليه، كما إذا قيل: جاءني زيد، زيد العالم، وليس هو من قبيل بدل الغلط حتى يتوهم: أن المتكلم انصرف من طلب الهداية إلى الصراط المستقيم، إلى صراط الذين أنعمت عليهم، توهما: أن الاستقامة حسب التشخيصات مختلفة، كما لا يخفى، وحيث إن الإنعام غير معلوم الوجه، اختلفت كلماتهم في المراد من الصراط المستقيم، كما مر تفصيله وتحقيقه. فما قد يتوهم: أن الاختلاف في المراد من الصراط المستقيم غير صحيح، لما أن السورة الشريفة قد تكفلت بيانه، ساقط جدا.

ومن الممكن أن يقال: إن المراد من الإنعام إذا كان شيئا خاصا - مثل الإسلام والإيمان أو التوحيد والقرآن أو غير ذلك - فيكون الصراط الثاني بدل البعض من الكل، أو عطف بيان للمصداق الأهم والفرد الأكمل، ولا يستلزم الحصر وانحصار الصراط الأول في الثاني. وربما ينسب في تفاسير العامة - كتفسير ابن حيان وغيره ممن يأخذ عنه كثيرا - إلى صادق أهل البيت (عليهم السلام)، أنه قال: " إن الصراط الثاني غير الأول " (1) من غير تدقيق في صحة النسبة وعدمها، وقد توهموا أن ذلك من تبعات القول بأن الصراط الثاني معطوف على الأول بالواو المحذوف. وإني بعد ما تفحصت مصادرنا ما وجدت فيها، حتى الرواية الضعيفة الحاكية لقوله (عليه السلام)، فما بال هؤلاء الجهلة السقطة ؟! وما عليهم إلا وزر ما نسبوه إليه عليه الصلاة والسلام، مع أن من الممكن أن يكون النظر إلى أن الصراط الأول هي الهداية إلى الإسلام والإيمان، والصراط الثاني هي الهداية إلى معرفة الله والتفهم منه لنيل الصراط الأول، فالثاني مقدم طبعا ومؤخر لفظا، والأمر - بعد ما عرفت - واضح لا غبار عليه، ولا شبهة تعتريه.

إيقاظ

بناء على قراءة الجمهور يكون العام استغراقيا والعموم أصوليا، أي صراط كل إنسان أنعمت عليه، أو كل ذي عقل أنعمت عليه، أو كل موجود أنعمت عليه، وبناء على قراءة النادر الشاذ يشكل الأمر، وذلك لأن " من " من الموصولات، ويكون عمومه بدليا، فكيف يمكن إرجاع ضمير الجمع الاستغراقي إلى الجمع البدلي، إلا على سبيل الغلط والمجاز، فقوله: " عليهم " يشمل الأفراد عرضا، مع أن كلمة " من " الموصول يشمل الأفراد طولا، ولذلك يصح أن يقال: كل من في الوجود يطلب صيدا، ولا يصح إضافة " كل " إلى " الذين " مع صحة إضافته إلى " الذي ": وكل الذي دون الفراق قليل فعلى هذا يتعين قراءة " الذين "، ولا يجوز في هذه المواقف قراءة " من ". اللهم إلا أن يقال: بأنه - مضافا إلى إرجاع ضمير الجمع إلى " من " الموصول في بعض الآيات وعليك الفحص عنها - أن كلمة " من " الموصول من ألفاظ العام البدلي، ولكنه إذا صح إطلاقه على البدل على كل أحد في الاستعمال الواحد، فلابد وأن يحضر في النفس من تلك الكلمة الأفراد الكثيرة الإجمالية متعاقبة، وعند ذلك يجوز إرجاع ضمير الجمع إلى المدلول عليه، لا الدال، ولا حين الدلالة، فافهم وكن على بصيرة من أمرك، ولا تكن من الغافلين المبعدين.

المسألة الثانية: حول إعراب " غير " قد اشتهر في علم الأدب والنحو: أن " غير " يأتي لمعان: أحدها: النفي المجرد ويكون وصفا، نحو مررت برجل غير فاسق، ومنه قوله تعالى: (وهو في الخصام غير مبين) (2). ثانيها: حرف الاستثناء ولا يكون له محل من الإعراب عندنا، فلا يقع وصفا، خلافا لهم، نحو (مالكم من إله غيره) (3)، ونحو (هل من خالق غير الله) (4)، وعند ذلك إما يتخير في حركة الراء، أو يتبع لما قبله، ولا معنى لتوصيف جملة المستثنى منه بجملة المستثنى بل، ولا يعقل، كما لا يخفى. ثالثها: لنفي الصورة عن مادتها، ومنه قوله تعالى: (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) (5). رابعها: أن يكون متناولا لذات، نحو (أتقولون على الله غير الحق) (6)، (أغير الله أبغي ربا) (7) وغير ذلك. أقول: والذي هو الأصل أن " غير " لا تأتي إلا لمعنى واحد، وهو النفي على أن يكون وصفا لما سبقه، وفي قوله تعالى: (جلودا غيرها) لا يفيد إلا ذلك، بل قضية القواعد العقلية أن لا مادة هناك حتى يتبادل عليها الصور، مع أن للآية معنى آخر، كما يأتي في محله، وهكذا في الآيات المزبورة أخيرا، فإن الموصوف محذوف، ولابد منه، أي أتقولون على الله شيئا غير الحق، وأشياء غير الله أبغي ربا... وهكذا.

وأما في مورد الاستثناء وإن كان قريبا لقيام سائر حروف الاستثناء مقامه، ولكنه بعيد، لأن الالتزام بأنه حرف الاستثناء، ويستثنى من أحكام الحروف، غريب، مع أن تعدد المعنى خلاف الأصل الأولي، وإلا فربما يمكن أن يختلف معنى الآية الشريفة في المقام بناء على احتمال كونه للاستثناء هنا، لأن " المغضوب عليهم والضالين " جملة استثنيت من المنعم عليهم، فيكون المقصود طلب الهداية المستقرة الدائمة، فلا يغضب عليه ولا يضل بعد الاهتداء، فلا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة. وقد مر في المباحث السابقة (8): أن هذه الآيات تؤيد أن كلمة الله موضوعة للمعنى الكلي المنطبق على الواحد فقط، أي هل من خالق موصوف بغير الله، ولو كان موضوعا للجزئي الحقيقي لصح أن يقال: مررت برجل غير زيد توصيفا، مع أنه واضح البطلان، فتأمل. فعلى هذا " غير " اسم مفرد مذكر، ويوصف به المؤنث ولا يستثنى به، خلافا لصريح أبي حيان (9)، ولا يكون متوغلا في النكرة، خلافا لما اشتهر عنهم، لأنه إذا وقع بين ضدين لا ثالث لهما يوصف به المعرفة، بل يوصف به المعرفة مطلقا إذا كانت مخصصة بالإضافة، وهي دائمة الإضافة لفظا أو تقديرا، ويحذف المضاف إليه بعد كلمة " ليس " فقط، واشتهر في الاستعمالات حذفه بعد كلمة " لا "، ولكنه عند الخواص يعد غلطا، كما أن إدخال الألف واللام عليه من الغلط عندهم، ولكن الذوق يساعده، والمتبع هو الثاني دون ميول الجامدين، وله أحكام اخر محررة في محله. ومما حصلناه ظهر: أن (غير المغضوب عليهم) وإن كان ذا وجوه، ولكن الأقرب كونه وصفا للموصول. وقيل: هو بدل من ضمير الجمع من " عليهم " (10)، وقيل: هو بدل من " الذين " (11). وأنت خبير: بأن البدلية من الضمير تستلزم فقدان العائد للموصول فلا يتم. وأما البدلية عن الموصول فتستلزم فقد المعنى الرابط، ويحتاج إلى تكرار الموصول، أي صراط غير المغضوب عليهم ولا الضالين الذين أنعمت عليهم، فينقلب ويتكرر الموصول، وبدونه لا تتم الجملة، فيتعين كونها وصفا.

وأما ما حكي عن الزجاج والسراج وابن عيسى الرماني من التشبثات الباردة، متوهمين أن " غير " هنا معرفة، أو أن الموصول هنا في حكم النكرة، فهو من الساقط جدا، ولا ينبغي لاولي الفضل أن يحوموا حوله، مع أن ما أفادوه غير صحيح في حد نفسه، ولا يمكن إتمامه جدا، فراجع " مجمع البيان " وأمثاله وتفسير " المحيط " لأبي حيان وأنداده (12).

تذنيب

حول قراءة " غير " منصوبا قد سبق في أنحاء القراءات قراءة " غير " منصوبا، وهو بحسب الأدب وإن يمكن، لإمكان كونه حالا عن الضمير في " عليهم "، أو منصوبا على الاستثناء، أو على تقدير الفعل، ولكن الثاني لا يرجع إلى محصل، لأن مجرد الاستثناء المنقطع لا يقتضي ذلك، والتقدير خلاف الأصل، وإلا للزم تصحيح جميع الأغلاط الأدبية والنحوية، وأما الحال فلابد من كونها نكرة، وهي نكرة مخصصة، ومقتضى ما عرفت منا: أن من الممكن دعوى أن إعراب الغير اختياري، لأنه حرف، فيجوز فيه الحركات الثلاث، ولذلك لا يدخله التنوين، ولكن قد مضى عدولنا عن هذه المقالة، لظهور الأساليب في وصفيته في الجمل للأسماء المعارف والنكرات.

تنبيه

مرجع ضمير " عليهم " المغضوب عليهم حسب الأدب هو " المغضوبون عليهم "، واستغني بضمير الجمع عن جمع " المغضوب " هكذا في الصرف، ولكن الإشكال في مرجع هذا الضمير، فإنه مفرد، وهو إما نفس المغضوب، أو الألف واللام الموصول، وعلى كل لا يرجع ضمير الجمع إلى المفرد. والعجب أن الأصحاب وأرباب التفسير غفلوا عن كثير مما يخطر بالبال مع طول عهدهم بالكتب التفسيرية. وأما كون الألف واللام موصولا، فقد فرغنا عنه فيما سبق منا حول مباحث (الحمد لله رب العالمين) وأنكرنا ذلك جدا (13)، والذات المبهمة المأخوذة في المشتق يمكن أن تكون مرجعا لضمير الواحد دون الجمع، وكونها قابلة للصدق بدليا، غير كاف لإرجاع ضمير الجمع بنحو العام الاستغراقي إليها، كما أشير إليه فيما مر آنفا.

اللهم إلا على الوجه الذي ذكرناه وأبدعناه حول قراءة " من أنعمت ". ويمكن أن يقال في المقام: إن هذا الضمير لا مرجع له، بل جئ به لتكثير ما سبقه، وهو المغضوب، أي هو من قبيل الواو والنون، ومعنى المغضوب عليهم هو المغضوبون، بل هو عينه، إلا أن كيفية جمع أسماء المفعول المصوغة من الأفعال اللازمة، تكون هكذا، فإن من الفعل المتعدي يصاغ على وزن المفعول، ومن الفعل اللازم يصاغ على وزنه مع الإتيان بحرف التعدية، فيقال: ميسور به ومذهوب به، وكان الضمير من قبيل ضمير الاعتماد جئ به لأن يعتمد عليه الحرف مع الإشارة إلى التثنية والجمع، فلاحظ وتدبر جيدا. وهنا وجه آخر وهو: أن الآية بحسب الواقع هكذا: صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم، وهذا النحو من الحذف جائز لقيام الدليل عليه، ولكنه غير محتاج إليه، فكونه وصف " الذين " أولى من كونه وصف الصراط، بل متعين.

المسألة الثالثة: حول إعراب " لا " اختلفوا في " لا " فقيل: هي زائدة، وهو عن الطبري (14)، توهما أنها زائدة في قوله تعالى: (ما منعك ألا تسجد) (15). والحق: أنها هناك غير زائدة، لأن معنى الآية هكذا: " ما منعك عن السجدة فلا سجدت إذ أمرتك "، فلا تكون كلمة " لا " زائدة، بل هذه الجملة في حكم الجواب لقوله: " إذ أمرتك "، وقرينة على حذف كلمة السجدة التي هي الممنوعة في الجملة الاستفهامية، فالالتزام بالزيادة من الأغلاط التي لا يليق بلغة، فضلا عن لغة العرب، ولا سيما في المقام. وقيل: هي تأكيد دخلت لئلا يتوهم: أن " الضالين " معطوف على " الذين "، حكاه المهدوي والمكي (16).

ولا يخفى ما في تعليله، لعدم وجه للاحتمال المزبور، بعد مراعاة سياق الآيات. وربما يشكل عطف " لا " على " غير " إلا أن يكون بمعنى " غير "، لأن معنى " غير " هو النفي ومعني " لا " هو الجحد. وفيه مالا يخفى من البرودة، فإن عطف الجحد على النفي في الأفعال غير جائز، مع أنه أيضا ممنوع. والحق: أنها جئ بها لدفع التوهم أو في مورد الوهم، بأن يريد المتكلم نفي المجموع، أي صراط الذين أنعم عليهم، المنعوت بنعت عدم كونهم مورد الغضب والضلالة معا، مع أنه ما يريد إلا نفي كل واحد ونفي المجموع، فإذا قيل: ما جاء زيد ولا عمرو، فليس " لا " تأكيدا، ولا زائدة، بل هو لإفادة معنى لولاها لما أمكن استفادته من الجملة، بداهة أن مع حذف " لا " يحتمل أن يكون المخبر عنه، عدم مجيئهما معا، وهو خلاف الفرض. والعجب من الكوفيين مع توجههم إلى هذه النكتة، توهموا: أن " لا " جئ بها للتأكيد (17)، مع أن معنى التأكيد ما لا يترتب عليه فائدة إلا التأكيد وتقوية ما سلف. فتحصل: أن " لا " بمعناها، ولا تكون زائدة، ولا تأكيدا، وغير خفي أن جملة (ولا الضالين) ليست وصفا، بل هي معطوفة، أو تكون في حكم الوصف معنى ومعطوفة ظاهرا، ويمكن اعتبار كونه من المعدولة محمولا، كما يقال: زيد لا قائم، فتدبر.


1- راجع البحر المحيط 1: 27، وروح المعاني 1: 88.

2- الزخرف (43): 18.

3- الأعراف (7): 59.

4- فاطر (35): 3.

5- النساء (4): 56.

6- الأنعام (6): 93.

7- الأنعام (6): 164.

8- راجع الفاتحة: الآية 1، اللغة والصرف، المسألة الخامسة.

9- البحر المحيط 1: 28.

10- مجمع البيان 1: 29، الجامع لأحكام القرآن 1: 151.

11- الكشاف 1: 16، مجمع البيان 1: 29، أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 10.

12- راجع مجمع البيان 1: 29، والبحر المحيط 1: 29، وروح المعاني 1: 89.

13- راجع الفاتحة: الآية 2، اللغة والصرف، الفائدة الأولى.

14- راجع جامع البيان عن تأويل آي القرآن 1: 81.

15- الأعراف (7): 12.

16- الجامع لأحكام القرآن 1: 151.

17- راجع مجمع البيان 1: 30، وروح المعاني 1: 90.