القراءات وأنحاؤها

1 - اختلفوا في قراءة " عليهم " اختلافا ناشئا عن التشتت في اللغات، وأكثر الاختلافات في الكتاب الإلهي ربما يرجع إلى هذا الأصل، وليس هذا من الاختلاف في القراءة، لأنهم يقرؤون سائر الآثار والأشعار مختلفة، وما هو المخصوص بالذكر تحت هذا العنوان هو الاختلافات المخصوصة بالكتاب والقرآن، مثل قراءة " من أنعمت عليهم " في مقابل قراءة (الذين أنعمت عليهم).

وبالجملة: قد بلغت عادة العرب في قراءة هذه الكلمة - حسب الشعوب والقبائل - إلى عشرة، كما عن ابن حيان (1). والعجب من الآلوسي، حيث استفاد من كتب الغير، وحكاها بألفاظها، وسكت عن النسبة (2)، فإن في ذلك نوع استراق مذموم. وأعجب من ذلك: تصدي الطبرسي (قدس سره) للحجج المذكورة في كتب القراءة، وبسط الكلام حول هذه المسألة الرديئة جدا (3)، وقد امتلأت كتبهم من هذه المسائل، ذاهلين عن حقيقة الكتاب وسائر المسائل المستخرجة منه، وعن أساس مقصود صاحبه وهو إرشاد الخلق إلى الآخرة لكسب الحسنات والكمالات، ورفض السيئات والنواقص. وإجمال تلك الاختلافات، كما قيل: ضم الهاء مع سكون الميم، أو ضمها مع إشباع، أو دونه، أو كسرها بإشباع، أو دونه، وكسر الهاء مع سكون الميم، أو كسرها بإشباع، أو دونه، أو ضمها بإشباع، أو دونه (4). انتهى. ولا يخفى ما فيه من المناقشة.

2 - عن عمر، وابن مسعود، وعمرو بن عبد الله الزبيري، وزيد بن علي، وابن الزبير (5)، وفي رواية عن أهل البيت (عليهم السلام) قراءة " من أنعمت عليهم "، وهي ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره، قال: وحدثني أبي، عن حماد، عن حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " أنه قرأ: إهدنا الصراط المستقيم صراط من أنعمت عليهم وغير المغضوب عليهم ولا الضالين " (6)، وسنذكر ما يتعلق بها.

3 - وفي تلك الرواية، زيادة الواو، فهي قراءة أخرى مقابل الجمهور " صراط من أنعمت عليهم وغير... "، وما وجدت بعد الفحص رواية أخرى، تتضمن هذه القراءة، وفي بعض النسخ الحاكية عنه بدون الواو. والله العالم.

4 - عن ابن الخطاب وأبي بن كعب: " غير المغضوب عليهم وغير الضالين " (7) وفي كتب الأخبار ما عن أهل البيت (عليهم السلام) يشتمل عليها، وأصحها ما في تفسير ابن إبراهيم القمي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: " غير المغضوب عليهم وغير الضالين " (8) الحديث. وفي " تفسير العياشي " عن محمد بن مسلم، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام)... إلى أن قال: (إهدنا الصراط المستقيم) صراط الأنبياء وهم الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم (اليهود) وغير الضالين (النصارى) " (9). وفيه أيضا عن رجل، عن ابن أبي عمير رفعه، في قوله: " غير المغضوب عليهم وغير الضالين " (10) الحديث. وفي " المجمع " حكاية عن " تفسير العياشي "، ما يخالفه في المتن، فإن فيه: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) (11)، فراجع.

5 - قراءة الجمهور، وهي التي عليها التعويل، حسب ما تحرر منا في محله، وأشرنا إليه حول قراءة (ملك يوم الدين).

6 - عن ابن الخطاب: " غير المغضوب عليهم " منصوبا (12)، وعن أيوب السختياني: " ولا الضألين " بالهمزة، فرارا من التقاء الساكنين، وهو بمثابة ما روي عن عمرو بن عبيد، أنه كان يقرأ: (لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) بالهمزة (13). وفساد ذلك واضح، ومن ضرب بعض هذه القراءات في بعض تحصل القراءات الاخر، ولست في مقام إحصائها، لعدم الاطلاع على خصوصيات القراءات، كما لا يخفى. أقول: هذه المسألة من صغريات بحوث تحريف الكتاب، وتكون خارجة عن حد الاختلاف في القراءة، فإن اختلاف القراءات يخص بما إذا لا تتغير الكلمات كلا، بل يكون الخلاف في الحركات والسكنات وبعض الصيغ والهيئات، وحيث قد تحرر منا في محله: أن دعوى الاطمئنان إلى عدم التحريف زيادة ونقيصة، من الدعاوي الممكنة، وقريبة جدا، فهذا النحو من الاختلاف المزبور ممنوع جدا، وغير صحيح حسب ما يؤدي إليه النظر اجتهادا، ثم إنه في خصوص هذه المسألة تكون روايات تشعر بقراءة الجمهور، وهي كثيرة: 1 - منها: ما رواه في " الفقيه " عن الرضا (عليه السلام)، في حديث طويل، وفيه: " (صراط الذين أنعمت عليهم)، تأكيد في السؤال والرغبة... - إلى أن قال -: (غير المغضوب عليهم)، استعاذة من أن يكون من المعاندين الكافرين...

1- إلى أن قال -: (ولا الضالين)، اعتصام " (14) الحديث.

2 - ومنها: عنه قال: حدثنا حنان بن سدير، عن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: " قول الله عز وجل في الحمد: (صراط الذين أنعمت عليهم) " (15) الحديث.

3 - ومنها: عنه بسند طويل - يشكل الاعتماد عليه - عن محمد بن الحسين، عن جده (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قول الله عز وجل: (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) " (16) الحديث.

4 - ومنها: ما في " العياشي " عن معاوية بن وهب، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) " (17) الحديث.

5 - ومنها: ما سمعت من " العياشي " عن محمد بن مسلم، الظاهر في أنه صراط الذين، لا صراط من أنعمت (18).

6 - ومنها: ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في " تفسير البرهان ": مثل ما مر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (19).

7 - ومنها: ما في " التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام) " (20).

8 - وعن " معاني الأخبار ": مثل ما عن " العياشي " عن ابن وهب (21).

9 - وعن " المعاني ": مسندا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قول الله عز وجل: (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) (22) الحديث. وغير ذلك مما يطلع عليه المتضلع الخبير والمتتبع البصير، وعلى هذا تسقط تلك الأخبار، ونرجع إلى الشهرة، مع أن الشهرة المعرضة كاسرة، وتصبح تلك الأخبار قاصرة سندا، مع أن من المحتمل كون النظر إلى ذكر القرآن بالمعنى لا بألفاظه، مع اضطراب في متنه، كما أشير إليه. هذا، وقد تحرر: أن دواعي نسبة التحريف بأنحائه إلى أئمة الحق كانت متوفرة، وقد دسوا في أخبارهم دسائس كثيرة. والله المستعان.


1- البحر المحيط 1: 26.

2- راجع روح المعاني 1: 88.

3- راجع مجمع البيان 1: 28 - 29.

4- روح المعاني 1: 88 وراجع البحر المحيط 1: 27.

5- راجع البحر المحيط 1: 28.

6- تفسير القمي 1: 29.

7- انظر الجامع لأحكام القرآن 1: 150، والبحر المحيط 1: 29، وروح المعاني 1: 90.

8- تفسير القمي 1: 29.

9- تفسير العياشي 1: 22 / 17.

10- تفسير العياشي 1: 24 / 28.

11- مجمع البيان 1: 31.

12- الجامع لأحكام القرآن 1: 150، البحر المحيط 1: 29.

13- راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 151، والبحر المحيط 1: 30، وروح المعاني 1: 90.

14- الفقيه 1: 204 / 12.

15- معاني الأخبار: 36 / 7.

16- معاني الأخبار: 36 / 8.

17- تفسير العياشي 1: 24 / 27.

18- تفسير العياشي 1: 27 / 17.

19- تفسير البرهان 1: 51 / 27.

20- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 47 - 50.

21- انظر تفسير البرهان 1: 52 / 36.

22- معاني الأخبار: 36 / 8.