اللغة والصرف

الناحية الثامنة: حول الآية الشريفة ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾

وهنا مسائل:

المسألة الأولى: حول كلمة " أنعمت " النعمة: المال، كما عن الصحاح، يقال: فلان واسع النعمة، أي واسع المال (1). قال الرازي: النعمة: المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير. قال: فخرج بالمنفعة المضرة المخفية والمنفعة المفعولة لا على جهة الإحسان إلى الغير، بأن قصد الفاعل نفسه، كمن أحسن إلى جارية ليربح فيها (2). انتهى. وقال الراغب: الإنعام: إيصال الإحسان إلى الغير، ولا يقال إلا إذا كان الموصل إليه من جنس الناطقين، فإنه لا يقال: أنعم فلان على فرسه (3). انتهى. وفي المنجد: أنعم الله النعمة عليه، وأنعمه بالنعمة، أوصلها إليه (4). انتهى. وفي الأقرب: أنعم، أفضل وزاد، والقوم: أتاهم متنعما على قدميه حافيا على غير دابة، وصديقه: شيعه حافيا، وفي الأمر: بالغ كأمعن (5). انتهى.

والذي يحصل من مجموع ما في كتب اللغة: أن النعمة: إما أعم من المال، ويشهد له الإنعام بمعنى التشييع حافيا أو هيئة باب الإفعال لا تدل على بذل النعمة، بمعنى المال، بل هي بمعنى التفضيل والازدياد، فإذا قيل: أنعم علي، أي بلا ذكر متعلقه، فهو ليس ظاهرا في طلب المال أو العلم أو شئ آخر، بل هي من هذه الجهة مبهمة تحتاج إلى مبين، وليس مفاد الهيئة لأجل كون المادة النعمة، وهي بمعنى المال، أي أعطني المال، كما عرفت في مطاوي كلماتهم المحكية بألفاظها. وقضية الموارد الواردة في الكتاب الإلهي بكثرتها، أنها كثيرا ما أطلقت على غير المال من الأمور الأخر الدنيوية والأخروية.

والذي يستظهر: أن النعمة أعم من المال، لما نجد صحة إطلاقها على العقل والعلم والعمل وغير ذلك، ويشهد له قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب) (6)، (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم) (7) وغير ذلك من الآيات الكثيرة، ولا سيما في مورد إطلاق النعمة مقابل الضر، كما في قوله تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون) (8)، والضر هو المشقة والحرج، ومثله النعماء والضراء. وأما توهم: أن الإنعام هو الإعطاء أو الازدياد والتفضيل، لقوله تعالى: (أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) (9) فإن تكرار المادة شاهد على أن " أنعمت " بمعنى أعطيت، فهو من الغفلة عن حسن الاستعمالات، ولقد ورد في الأدعية والاستعمالات الصحيحة: " كل ذنب أذنبته وكل خطيئة أخطأتها " (10) فإن التجريد من المحسنات في الأساليب المشهورة، ومن ذلك: " كل جرم أجرمته " وغيره، فقوله تعالى: (ذلك بأن الله لم يكن مغيرا نعمة أنعمها على قوم) (11)، من هذا القبيل. وأما ما في " مفردات الراغب " (12) فهو غير مبرهن، فإن النعمة إذا كانت من مصاديقها المال، فيمكن اختصاص المال بالحيوان، ويكون هو له نعمة بالضرورة، فلا يشترط كون المنعم عليه من الناطقين. نعم، النعمة وإن كانت معناها الأعم، ولكن الظاهر أنها الأموال أو غيرها مما يحصل مجانا، وبلا عوض مطلقا حتى العوض المعنوي، بل لا يبعد كونها مخصوصة بما إذا حصلت من غير سؤال واستيجاب، وحيث إن الكتاب محفوف باستعمالها مضافا إليه تعالى، يمكن استكشاف أنها بالنسبة إلى غيره تعالى غير ممكنة، لأن غيره يريد الجزاء أو يعطي بعدما يسأل، ولعل إلى ذلك يشير قوله تعالى: (وما لاحد عنده من نعمة تجزى) (13)، فليتأمل جيدا. ودعوى: أن النعمة هي المال فاستعيرت لغيرها (14)، غير مسموعة، لأنه خلاف الأصل، ولا يعول على قول لغوي مع قلة اطلاعهم على حقيقة المعنى وسعته وضيقه. وعلى كل تقدير: لا يتبادر من قولنا: اهدنا صراط من أنعمت عليه، أي صراط من بذلت لهم المال والنعمة قطعا.

المسألة الثانية: حول مفعول " أنعمت " حسب استعمالات الكتاب، وحسب ما في كتب اللغة: أن الإنعام متعد إلى المفعول الأول بلا واسطة، وإلى الثاني معها، قال الله تعالى: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم) (15)، فالقوم منعم عليهم، وهو تعالى المنعم، وبناء على هذا تلزم الشبهة، وهي: أن القوم مفعول أول، والنعمة هي نفس الفعل الصادر من الفاعل، فكيف يعقل أن تكون مفعولا به، فلا يكون الإنعام متعديا، وهو خلاف ظاهر الكتاب واللغة، بل وصريح ابن حيان في التفسير. فبالجملة: حيث قال: النعمة لين العيش وخفضه، ولذلك قيل للجنوب: النعامى للين هبوبها... إلى أن قال: وأنعم عليه بالغ في التفضل عليه، أي الهمزة في أنعم يجعل الشئ صاحب ما صيغ منه، إلا أنه ضمن معنى التفضل فعدي بعلى، وأصله التعدية بنفسه، أنعمته، أي جعلته صاحب نعمة، وهذا أحد المعاني التي لأفعل، وهي أربعة وعشرون معنى (16). انتهى.

وأنت خبير: بما في تفسيره لمعنى النعمة، حيث عرفت فيما سبق معناها، ولكن ينبغي الشكر حيث توجه هو إلى مشكلة المسألة لغة، ولكنه لم يأت في حلها بشئ. والذي هو التحقيق: أن هيئة باب الإفعال: تارة تؤخذ من الجوامد، كما في الأمثلة التي مرت في المسألة الأولى، كقولهم: " كل جرم أجرمته، أو كل ذنب أذنبته " وإن كان بينهما الفرق في جهة كما لا يخفى، وحيث إن النعمة هي المال أو أعم منه ويكون من الأسماء الموضوعة للذوات، وهي غير النعمة التي هي المصدر من نعم، كما توهمه أبو حيان وغيره، فلا بأس بأن يؤخذ منها الفعل والمشتق، كقوله تعالى: (والقناطير المقنطرة) (17)، ومثل " الجنود المجندة " (18)، فمعنى " أنعمت النعمة عليهم " بوجه: أعطيتهم النعمة أو جعلتهم صاحب النعمة أو بذلتم وغير ذلك. وبعبارة أخرى: لا يمكن ترجمته على الوجه المطابق له، ولكن المقصود معلوم، فإذا قيل: أنعمت عليكم، ليس هنا شئ محذوف، كما أن النعمة في قولنا: أنعمت النعمة، ليس مفعولا به، بل هو نفس الفعل جئ به للتأكيد أو لغرض آخر، فليتدبر.

المسألة الثالثة: حول كلمة " غضب " غضب عليه - الغضبة - للانتقام منه مع حبه، ويقال: غضب لفلان وعلى فلان، أي على غيره من أجله إذا كان حيا وبه إذا كان ميتا، والغضب ثوران دم القلب إرادة الانتقام، هكذا في " المفردات " (19). وأنت خبير: بأن من الحيوانات من لا دم له ويغضب. وفي " القاموس ": هو ضد الرضا (20)، وهو غير مرضي، لأن ضد الرضا في حديث جنود العقل والجهل هو الرحمة (21)، وحسب ما يتبادر منه استعمالا هي الكراهة. ويؤيد الأول قوله تعالى: (والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون) (22)، فإن المغفرة نوع من الرحمة الكلية العامة. ويؤيد الثاني قوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض) (23)، فإنه مقابل التجارة عن كراهة وإكراه. هكذا تحرر. وقيل: الألم على كل شئ يمكن فيه غضب، وعلى ما لا يمكن فيه أسف. وقيل: هو يجمع الشر كله، لأنه ينشأ عن الكبر. وقيل: الغضب معه طمع في الوصول إلى الانتقام والغم معه يأس من ذلك (24). انتهى.

وقال ابن حيان: الغضب تغير الطبع لمكروه، وقد يطلق على الإعراض لأنه من ثمرته (25). انتهى. والسخط هو الغضب الشديد المقتضي للعقوبة. هكذا في " المفردات " (26). والذي يظهر لي بعد التدبر في سائر أنحاء اشتقاقاته: أن الغضب والغضب هي شدة الحمرة، وأن أصل اللغة موضوع للحمرة التي تظهر على الوجه، ثم اطلق على سبب هذه الحمرة نوعا، فاستعمل في الحالة التي تنتهي إلى الحمرة، من غير كونها مقيدة بالانتهاء إليها في الموضوع له، وتلك الحالة في الحق بوجه آخر، وحمرته تعالى هي النار التي وعد الكافرين. ثم إن " غضب " لازم، ويتعدى ب? " على " نوعا وباللام بعضا، وسيظهر في الآيات الآتية - إن شاء الله تعالى - البحث حول صحة استناد هذه الأوصاف إليه تعالى، وقد مضى شطر من البحث حول كيفية انتساب الرحمة إليه تعالى. المسألة الرابعة حول كلمة " الضلال " الضلال والضلل - محركة - ضد الهدى والرشاد قاله " القاموس " (27).

وقال ابن الكمال: الضلال: فقد ما يوصل إلى المطلوب، وقيل: سلوك طريق لا يوصل إلى المطلوب (28). وفي الراغب: هو العدول عن الطريق المستقيم وتضاده الهداية، قال الله تعالى: (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها)، ويقال " الضلال " لكل عدول عن الحق، ولذا صح أن يستعمل لفظه فيمن يكون فيه خطأ ما، ولذلك نسب إلى الأنبياء وإلى الكفار، وإن كان بين الضلالين بون بعيد: (ووجدك ضالا فهدى) (إنك لفي ضلالك القديم) وغير ذلك (29). انتهى، مع تصرف يسير. وعلى هذا المنوال نسج الآخرون في هذه الورطة. والذي يظهر لكاتب هذا الرقيم ولمحرر هذه الحروف: أن معنى هذه المادة أوسع من ذلك، وهو الغيبوبة والاختفاء، ومنه الضياع إذا اطلق وأريد منه، لأن الضياع اختفاء اللقطة، وإذا اطلق الضالة على الحيوان فهو أيضا لأجل ذلك، فراجع أنواع الاشتقاقات المذكورة في المفصلات (30).

قال ابن حيان: والضلال الهلاك والخفاء وضل اللبن في الماء. وقيل: أصله الغيبوبة (في كتاب لا يضل ربي)، وضللت الشئ، جعلت مكانه، وأضللت الشئ، ضيعته، (وأضل أعمالهم)، وضل غفل نسي (31). انتهى موضع من كلامه، مع ما فيه من الخلل الكثير. وفي الأقرب: ضل اللبن في الماء، خفي وغاب. ضل الناسي: غاب عنه حفظ الشئ. وفلان فلانا: نسيه. أضله، دفنه وغيبه، كقوله: أضلت بنو قيس بن سعد عميدها أي دفنته (32). انتهى. وبالجملة: الضلال ليس - بحسب اللغة - من الأوصاف الرذيلة ومن النواقص البشرية، وإن كانت الصفة الرذيلة إحدى مصاديقه، لاشتراكها في الغيبوبة والاختفاء، وإلا فإن الخارج عن الطريق المستقيم اختفى وغاب عنه، فيحتاج إلى الهداية، أي إلى أن يظهر على الطريق المذكور، والضالة هي المختفية والغائبة، والضال هو الغائب، إلا أنه تارة يراد منه النوع الخاص للقرينة، فتأمل جيدا.


1- الصحاح 5: 2041.

2- التفسير الكبير 1: 258.

3- المفردات في غريب القرآن: 499.

4- المنجد: 820.

5- أقرب الموارد 2: 1321.

6- البقرة (2): 231.

7- آل عمران (3): 103.

8- النحل (16): 53.

9- البقرة (2): 40 و 47 و 122.

10- راجع دعاء كميل بن زياد عن أمير المؤمنين (عليه السلام).

11- الأنفال (8): 53.

12- المفردات في غريب القرآن: 499.

13- الليل (92): 19.

14- انظر لسان العرب 12: 579، والقاموس المحيط: 1500.

15- الأنفال (8): 53.

16- راجع البحر المحيط 1: 26.

17- آل عمران (3): 14.

18- راجع بحار الأنوار 58: 63 / 50.

19- المفردات في غريب القرآن: 361 - 362.

20- القاموس المحيط: 154.

21- الكافي 1: 16 / 14.

22- الشورى (42): 37.

23- النساء (4): 29.

24- تاج العروس 1: 412.

25- البحر المحيط 1: 28.

26- المفردات في غريب القرآن: 227.

27- القاموس المحيط: 1324.

28- تاج العروس 7: 410.

29- المفردات في غريب القرآن: 297 - 298.

30- راجع الصحاح 3: 1748، ولسان العرب 11: 390، والقاموس المحيط: 1324، وأقرب الموارد 1: 688 - 689.

31- البحر المحيط 1: 28.

32- أقرب الموارد 1: 688 - 689.