التفسير والتأويل على اختلاف المسالك والمشارب

أما على مسلك الأخباري: (إهدنا الصراط المستقيم) وثبتنا، وأدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا، وأرشدنا للزوم الطريق المؤدي إلى صحبتك، والمبلغ إلى جنتك، والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، وأن نأخذ بآرائنا فنهلك (1). أي (إهدنا الصراط) والطريق إلى معرفة الله، وهما صراطان: صراط في الدنيا وصراط في الآخرة. فأما الصراط الذي في الدنيا فهو المفروض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه، مر على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه عن الصراط، فتردى في نار جهنم (2). وقريب من ذلك كله: (إهدنا الصراط المستقيم)، وهو أمير المؤمنين ومعرفته في أم الكتاب، (إنه في أم الكتاب لعلي حكيم) (3) أو إنه ليس بين الله وبين حجته حجاب، فلا لله دون حجته ستر، نحن أبواب الله، ونحن (الصراط المستقيم) (4). وقريب منه: (إهدنا الصراط المستقيم) أرشدنا حب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام)، وهو صراط محمد وآله (عليهم السلام) (5)، وهذا (الصراط المستقيم) قد وصف بنعوت في الأخبار والمآثير العامة والخاصة (6). وأنت بعد ما أحطت خبرا بما أسمعناك، تجد أن هذه العبائر شتى، وكل إلى ذلك الجمال والمعنى الواحد يشير من غير وجود الاختلاف بينها، ضرورة أن (الصراط المستقيم) في الآية صراط معنوي تكويني وتشريعي، والأخبار تعرضت لتعيين مصاديقها التكوينية والتشريعية، والهيئة في قولنا: " اهدنا " بعث إلى الهداية، وذلك يكون بدواع شتى من غير لزوم المجاز أو الاشتراك، واختلاف الدواعي باختلاف الداعين، فمنهم من يريد الخروج من الضلالة، ومنهم من يريد البقاء على الهداية.

وعلى مسلك الفقيه والعالم النبيه: (إهدنا) ووجهنا نحو الهداية إلى (الصراط المستقيم) وطريق النجاة وسبيل الجنة، وهو الإسلام والإيمان بالله وبرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبخلفائه المعصومين (عليهم السلام)، وأما سائر الأمور فهي خارجة عن المطلوب بهذه الآية الكريمة، فالمقصود على ما يظهر هي الهداية إلى الاعتقادات الصحيحة، التي هي أصل كل شئ، وأما الهداية إلى الأخلاق الحسنة أو الأفعال الصحيحة، فهو مطلب آخر، ضرورة أن الطريق المستقيم المنتهي إلى الجنة منحصر بذلك، ولا منافاة بين هذه الهداية - أي الهداية إلى التوحيد الذاتي والعبادي، والهداية إلى الأصول الاعتقادية الناجية - وبين الابتلاءات في الطريق وتحمل التبعات في السبيل. وقريب منه: أن المطلوب بهذه الآية الكريمة هو نفس الاهتداء إلى (الصراط المستقيم)، وأما الانتهاء بعد تلك الهداية إلى منتهى الصراط، وهو النجاة من النار والفوز بالجنة، حتى يكون المطلوب هي المقدمة الموصلة، فهو غير معلوم، بل المطلوب بها هي المقدمة المطلقة، لا الموصلة، ولا حال الإيصال، حسب ما تحرر في الأصول (7)، بل لو قلنا بامتناع إيجاب المقدمة الموصلة أو المقدمة حال الإيصال يلزم امتناع طلب ذلك، لأن سر امتناعها غير خفي على أهله، وهو مشترك بين كون البعث إلى الهداية بعثا من العالي إلى الداني أو كان من الداني إلى العالي، ولا بين كون البعث إيجابيا أو كان إرشاديا، فعليه يتوقف طلب القارئ الكريم بعد وصوله إلى (الصراط المستقيم)، ويكون من قبيل إراءة الطريق، لا الإيصال إلى المطلوب. وقريب منه: أن معنى (إهدنا الصراط المستقيم) ينحل إلى البعث إلى الهداية من الضلالة، وإلى إدامة الهداية، ولا يكون - حتى بالنسبة إلى الشخص الواحد - بعثا إلى الهداية من الضلالة، فعند ذلك بعث واحد بداعيين: أحدهما السوق إلى الهداية، والآخر الإبقاء عليها، وهذا ليس من استعمال الهيئة في المعنيين حتى يتوهم امتناعه، أو يتخيل استبعاده واستهجانه، كما مر تفصيله.

وعلى مسلك الحكيم: (إهدنا): أي مجموع عائلة البشر إلى (الصراط) الوحيد، وهو السبيل (المستقيم) الإنساني، أي اهدنا إلى الصراط الكامل الواحد المنتهي إلى فناء الله بالفناء في الله. وقريب منه: (إهدنا) إلى (الصراط) الموجود بالفعل (المستقيم)، الممدود من مبدأ الطبيعة إلى منتهى السير التكاملي في الحركات التكميلية الطبيعية الجوهرية والكيفية والكمية والبرزخية والتجردية العقلية إلى آخر مراتبها، وهذا الصراط الموجود بالفعل الممدود من مبدأ الهيولي إلى مبدأ الوجود، مورد الطلب في الآية، وهو مطلوب المجموع، وبذلك ينكشف وجود الاستعداد الذاتي لجميع عائلة البشر للسير في هذا الصراط إلى تلك الحقيقة النورية، وإلى ذلك الأصل الكامل والخير التام، وإلا فلا معنى لطلب المحال والمستحيل، كما عرفت تحريره وتقريره. أو هو مطلوب بنحو العموم الاستغراقي، أي إهدني واهد غيري وكل فرد، سواء كان أخي في ديني، أو نظيري في خلقي، فإذا انحل هذا الطلب إلى الكثير، فيكون المعنى: إهد الضال إلى الهداية واهد الهادي إلى الدرجة العليا منها، واهد الواقف على الدرجة العليا بأن لا يرجع إلى الضلالة، ويكون بداعي الإبقاء عليها. وعلى مسلك العارف (إهدنا الصراط المستقيم) الثابت لكل أحد إلى مبدئه، فاهد كل أحد إلى صراطه المستقيم المخصوص به، فإن كل مسمى سائر في اسمه من الظاهر إلى الباطن، كما أنه في قوس النزول تنزل تحت ذلك الاسم.

وبعبارة أخرى: إن اقتضاء اسم " الهادي " هو إسراء كل موجود إلى معراجه المحرر له والمقرر بفيضه الأقدس، وهذا هو حقيقة هداية الله تعالى إلى (الصراط المستقيم). وقريب منه: (إهدنا الصراط المستقيم) المنتهي إلى الاسم الجامع، وهو الله، فيكون المقصود هي الهداية من الصراط الخاص - حسب الاسم المخصوص به في الذات - إلى الأسماء الرئيسة والمحيطة، ومن تلك الأسماء إلى الاسم الأعظم وإلى المسمى في بعض اعتباراته، وإلا فبعض منها غير مرسوم برسم ولا موسوم باسم، لا تناله يد الأنبياء والرسل، ولا تدركه عقول الملائكة ولا الروح الأعظم، وهو مقام اللااسمي واللارسمي، كما قيل بالفارسية: عنقا شكار كس نشود دام بازگير كانجا هزار باد بدست است دام را (8)

وغير خفي: أن الناس مختلفون في التكوين وفي الإدراك من التشريع والإسلام والإيمان والدين، وحسب اختلاف ذلك يختلفون في (الصراط) وسلوكه، ويختلفون في ما يريدون منه، وكل - بحسب نشأته العينية - موافق لما هو مقصوده من الآية ومن طلب الهداية ومسانخ معه، فيجوز أن يقرأ تارة ويريد شيئا، ويقرأ أخرى ويدعوه لأمر آخر... وهكذا (هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) (9)، وإن به يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فلا وجه لحصر الآية في أحد المسالك، بل الكل صحيح حسب اختلاف مظاهر الوجود، وتشتت مظاهر الكتاب والخطاب، فلأحد يتوهم أن الآية تشير إلى طلب الهداية إلى (الصراط المستقيم)، وأنه هو المطلوب النفسي، وليس (الصراط المستقيم) مطلوبا غيريا، وهو مثال الشيخ وصورة الإنسان الكامل الظاهرة على السالك في حال سلوكه، فإن بعضا من الناس لا يريد الله منه إلا لقاء الإنسان الكامل، فيكون غاية سيره ذلك، ومطلوبه الأعلى هو الوصول إلى (الصراط المستقيم). نعم إن ارتقى وتجاوز عن حد النفس والروح والقلب، واضمحلت صورة الشيخ عنده، فله طلب الهداية بالوجه الآخر، فتدبر.

وعلى مسلك الخبير البصير: (إهدنا) وأخرجنا من ظلمات الضلالة إلى (الصراط المستقيم) ونور الهداية، وهذا مختلف بحسب النشآت المادية والمعنوية الظاهرية والباطنية، وحذف متعلق (الصراط المستقيم) دليل العموم، ف? (إهدنا الصراط المستقيم) في أسفارنا المتعارفة في البلاد وضواحيها ونواحيها، وفي أسفارنا المعنوية، وفي مداركنا العقلية، وفي المتخيلات والمتوهمات والمحسوسات، وفي الغرائز والغضب والشهوة، وفي جميع السكنات والحركات، و (إهدنا الصراط المستقيم) المنتهي إلى ما هو السبيل والصراط المستقيم، فإن الوصول إلى (الصراط المستقيم) - أيضا - يحتاج إلى الهداية والدلالة والإراءة والإرشاد بالضرورة. وتوهم: أن الاختلاف في معنى (الصراط) بلا وجه، لما فسر في نفس السورة الشريفة وفي الآية الأخرى: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) (10)، فإن (الصراط المستقيم) صراط هؤلاء الناس من الأماجد والعظماء والأفاخم والشرفاء (11)، غير صحيح، فإنك تعلم أن الكلي في سورة الفاتحة لا ينحصر بما في الآية الشريفة، ومجرد الاشتراك في الإنعام لا يورث الحصر، بل النظر إلى المعنى الكلي الموافق لجميع النشآت، فيكون المطلوب عاما، ويريد الإنسان (الصراط المستقيم) إلى دار صديقه، وإلى البلد والمحلة، وإلى كل شئ هو مطلوبه القاصي ومأموله العالي، من البلاد والمدن في البرازخ، إلى الممالك والعواصم في الجبروت الأعلى، حتى يصل إلى مملكة الوجود وعاصمة الذات بالشهود الرباني والمعاينة العرفانية، ثم الهداية إلى الصراط والجادة المستقيمة، معناه الهداية إلى تلك النشأة الفاني وجوده فيها، والرجوع عنها وعن ذلك (الصراط المستقيم) أيضا، لئلا يكون من المغضوب عليهم المفرطين، ولا من الضالين المفرطين، فيحذو حذو المنعم عليهم من الصديقين والشهداء الصالحين إن شاء الله تعالى. ولعل إلى جميع هذه التفاصيل يشير قوله تعالى: (ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور) (12).

تذنيب

حول عدم تعارض الأقوال عند تعيين المصاديق وبعد التدبر فيما أسلفناه، وأن ما ورد عن أئمتنا محمول على التأويلات وذكر المصاديق بالخصوصيات، من غير إفادة الانحصار أو تعيين حدود المراد، يظهر: أن اختلاف الأمة الإسلامية في غير محله، وقد بلغت أقوالهم وآراؤهم إلى ما يقرب من العشرة، بل هم يزيدون، ولا سيما مع ملاحظة اختلاف نظرياتهم في مفاد (إهدنا) من أنه بمعنى: أرشدنا، أو وفقنا، أو قدمنا، أو ألهمنا، أو بين لنا، أو ثبتنا (13). وقيل: الأول من ابن عباس، وقد مضى حكم الأخير المأثور عن الأمير - عليه الصلاة والسلام - فإنه يصير أكثر، فعن ابن عباس: أن (الصراط) هو القرآن، وعن المهدوي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه كتاب الله أو الإيمان وتوابعه، أو الإسلام وشرائعه، أو السبيل المعتدل، أو طريق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعض آخر قاله أبو العالية والحسن، أو طريق الحج قاله فضيل ابن عياض، أو السنن قاله عثمان، أو طريق الجنة قاله ابن جبير، أو طريق السنة قاله القشيري، أو طريق الخوف والرجاء قاله الترمذي، أو جسر جهنم قاله عمرو بن عبيد، أو غير ذلك (14)، فإن الكل صحيح أخذا بالمحدود، وباطل أخذا بالحد. وعن جماعة من المتصوفة في معنى (إهدنا الصراط المستقيم): الغيبوبة عن الصراط، لئلا يكون مربوطا به. وعن الجنيد: أن سؤال الهداية عند الحيرة من شهود الصفات الأزلية، فاسألوا الهداية إلى أوصاف العبودية، لئلا يستغرقوا في تلك الصفات (15). وفي تفسير ابن العربي: ما يقرب من المسلك، أي ثبتنا على الهداية، ومكنا بالاستقامة في طريق الوحدة، التي هي صراط المنعم عليهم بأنعم الخاصة الرحيمية التي هي المعرفة والمحبة (16). انتهى.


1- معاني الأخبار: 33 / 4 وراجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 21.

2- معاني الأخبار: 32 / 1.

3- معاني الأخبار: 33 / 3.

4- معاني الأخبار: 35 / 5.

5- مناقب آل أبي طالب 3: 73.

6- راجع معاني الأخبار: 32، وأمالي، الصدوق: المجلس الثالث والثلاثون، وعلم اليقين، الفيض الكاشاني: 2: 965 - 975، والدر المنثور 1: 14 - 15.

7- تحريرات في الأصول 3: 206.

8- ديوان حافظ شيرازي، مطلعه: صوفي بيا كه آينه صافيست جام را تا بنگرى صفاى مى لعل فأم را.

9- الإسراء (17): 9.

10- النساء (4): 69.

11- راجع التفسير الكبير 1: 256 - 257، والجامع لأحكام القرآن 1: 149.

12- الشورى (42): 52 - 53.

13- راجع البحر المحيط 1: 27.

14- انظر البحر المحيط 1: 27.

15- البحر المحيط 1: 27.

16- تفسير القرآن الكريم، المنسوب إلى محيي الدين العربي 1: 11.