كشف ملكوتي وشهود سرمدي الهداية إلى الصراط والوصول إلى الغاية ومعرفة الإمام

لا شبهة في أن الظاهر من الآية الشريفة: أن المطلوب هي الهداية إلى الصراط المستقيم، وأن نفس هذه الهداية هي المطلوب في هذه الآية، وأما كون المطلوب الأعلى هي الهداية إلى الصراط المستقيم المنتهي إلى الحق الأول وإلى النور الأبدي والأزلي، فهو خروج عن المنساق من الآية الكريمة، ولا منع من ذلك، إلا أنها تفيد أن ما هو المطلوب ليس إلا الهداية إلى الصراط المستقيم، وكأنه إذا كانت الهداية إلى الصراط المستقيم متحققة، كان الوصول إلى غاية المأمول ونهاية المسؤول أمرا قهريا ومطلبا طبيعيا، بل اللازم هو الجد والاجتهاد للوصول إلى ذلك الطريق وتلك الجادة. فعلى هذا ربما يمكن توهم: أن الناس مختلفو الاستعداد، فمنهم - وهم الأكثر - غاية حركتهم الفطرية وسلوكهم الطبيعي الغريزي هو الوصول إلى هذا الصراط السوي، والاهتداء إلى هذا الصراط المستقيم. ومنهم - وهم الأقلون الكمل جدا - غاية حركتهم الذاتية وتقلباتهم الجوهرية نيل الحق والوصول إلى دار الانس، والعبور على هذا الصراط إلى المطلوب الأعلى والمحبوب الأحلى، والفناء فيه والبقاء ببقائه، والرجوع إلى الخلق في حجاب الحق، ومع المحافظة على مقامه الشامخ وهي البرزخية الكبرى والوسطية العليا، فيكون في القوسين - الصعودي والنزولي - على الصراط المستقيم، وفي الحقيقة لهؤلاء ثلاث طرق مستقيمة:

الطريق الأول وهو: التنزل إلى مقام أسفل سافلين من أعلى عليين، وكونهم من تلك الدار العليا أورث أن يرد فيهم (ثم رددناه أسفل سافلين) (1).

الطريق الثاني: هو السير إلى الله على الصراط المستقيم.

والطريق الثالث: هو الرجوع من الله، وهو السفر الرابع المخصوص به الرسل وأرباب الكتب على الصراط المستقيم أيضا، فجميع حركاتهم مستقيمة، وحقيقتهم القويمة نفس الاستقامة. فإذا تبين: أن الناس متوجهون نوعا إلى هذه الآحاد الخاصة والأناسي الكاملة ويطلبونهم، وهذه الآية الشريفة كأنها منساقة لحال النوع والعرف، لظهورها في أن المطلوب هي الهداية إلى الصراط المستقيم، المفسر في الأخبار بالأئمة الهداة وبأمير المؤمنين (عليه السلام) (2)، ولأجل مثله توهم أرباب الانحرافات: أن المعبود في الآية الشريفة (فاعبدوا ربكم) (3) هو هؤلاء المعصومون (عليهم السلام) الكمل، لا يجوز لمتوطن في دار الوحشة والظلمة أن يتوجه إلا مع الواسطة، فلابد وأن يعرف الإمام والإمامة، والصراط المستقيم الذي به يتمكن بعد ذلك أن يصل إلى دار الحقيقة، كما فسر في بعض الأخبار بأنه الإمام ومعرفته (4).

فعلى هذا إذا كان يستدعي السالك العابد من الله تعالى الهداية إلى معرفة الإمام وإلى الصراط المستقيم الذي هو الإمام بوجوده الواقعي، فيتمثل في نفسه في الابتداء صورته، ويحصل في قلب السالك دقيقته، وقد مر منا سابقا (5): أن أشرنا إلى أن المخاطب في قوله: (إياك نعبد)، لا يكون إلا العناوين الفانية في الذات والمفاهيم المشيرة إلى الخارج، وتلك الحقائق أولى بجعلها فانية ورسما، لأنهم في الإعراب عن تلك الحقيقة البيضاء أقوى وأتم بالبداهية والضرورة، فيكون قوله بعد ذلك: (إهدنا الصراط المستقيم) بداعي البعث إلى البقاء على تلك الحالة الثابتة له، التي هي الصراط المستقيم حسب ظرفية وجوده واقتضاء استعداده، ولعل ما ورد في بعض الكتب بعنوان الرواية: " واجعل واحدا من المعصومين (عليهم السلام) نصب عينيك " (6) يشير إلى هذه الومضة. وهذا غير ما تخيله أرباب الصوفية الباطلون من تمثيل صورة الشيخ الفاسد العاطل. فما في بعض الكتب: بأن المراد أن السالك ينبغي أن يجلو مرآة قلبه بالذكر والأعمال المأخوذة من شيخه، فإذا اجتلى الذهن وقوي الذكر، وخلا القلب من الأعيان، ظهر الشيخ بمثاله على السالك، فإن الذكر المأخوذ منه نازلة وجوده، فإذا قوي تمثل بصورته، وإذا ظهر الشيخ بمثاله رفع كلفة التكليف عنه، والتذ بحضوره عند محبوبه (7). انتهى، انحراف عن الصراط المستقيم وتضييع للعائلة البشرية.


1- التين (95): 5.

2- راجع معاني الأخبار: 32 / 2 و 3 و 7 و 8.

3- البقرة (2): 21، الحج (22): 77.

4- معاني الأخبار: 33 / 3.

5- راجع الفاتحة: الآية 5، المسائل الفقهية، المسألة الثالثة.

6- الفقه المنسوب إلى الرضا (عليه السلام): 105، تفسير بيان السعادة 1: 23.

7- راجع تفسير بيان السعادة 1: 33.