فذلكة الكلام في المقام

إن الصراط المستقيم لابد وأن ينتهي إلى موقف يتم سير السالك إليه، وينتهي حركته المعنوية لديه، لما عرفت أن المطلوب هو التطرق بتلك الطريق وبذلك الصراط المستقيم، وحيث إن أقصر الطرق هو الخط الحماري، وهو الأقرب إلى المقصود، فيكون هذا الصراط في نهاية القرب من سائر الصرط والطرق.

فبقي البحث حول أن منتهى هذه السفرة وهذا الصراط، هل هو الإسلام والإيمان، أو هما صراطان، أم هو الوصول إلى الأحكام القلبية بظهور نور الوحدة، وبالوصول إلى حقيقة الولاية، أم هو أيضا صراط وطريق، أو هو الجنة البرزخية والراحة في القيامة، أم هما أيضا صراطان، أم هو جنة الذات والأفعال، والصفات زائدة على الجنة الخارجية الإلهية، أم هي من الطرق والسبل؟ ولا يقف اشتهاء المرء المؤمن، ولا يسكن مقتضى الفطرة السليمة عنده، لأنها مفطورة على عشق الكمال المطلق والجمال الساري في الخلق من الحق، فما هو نهاية هذا الصراط الدقيق القاطع، وقد تبين أن مبدأه وابتداءه من هذه النشأة الناسوتية الملكية، ومن هذه الفطرة المخمورة السافلة التي رددناها أسفل سافلين، والتي كانت - حسب الظاهر في وجه - في أعلى عليين، ففي القوس النزولي بطي الصراط وصل إلى المادة السفلى، فلابد من طي هذا الطريق في القوس الصعودي، والطريقان مختلفان، حتى لا يلزم التكرار في التجلي، كما برهناه في محله، ويأتي في مقامه المناسب له. فهذا الجسر الممدود على الدنيا والبرزخ والآخرة، من سنخ هذه النشآت، أولها الدنيوي ووسطها البرزخي وآخرها الروحاني، وفي القيامة العظمى من سنخ تلك النشأة، وهكذا إلى أن ينتهي إلى الذات الأحدية الغيبية والواحدية الجمعية، فمن المتحرك السالك الواصل إلى المنتهى؟فسيأتي عند قوله: (الذين أنعمت عليهم) إن شاء الله تعالى. ثم إن هذا الصراط إذا انحفظت استقامته في الهداية التشريعية، فينهي سالكه إلى المقصود، وهو النجاة من النار والفوز بالجنة، وإذا انحفظت استقامته التكوينية في هذه النشأة، فربما يصل سالكه في أواسط السير أو أواخره إلى منتهاه، كالبرق اللامع، والمهم هو المحافظة على الاستقامة في هذه النشأة.

البحث الرابع: حول فعلية الصراط وإمام الزمان (عليه السلام) ظاهر الآية الشريفة: أن الصراط المستقيم إلى الحق موجود بالفعل، ومنعوت بالاستقامة الفعلية، فهو الآن موجود ومستقيم، كالصراط الموجود بين البلدين المستقيم، فيلزم علينا الفحص عن هذا الصراط الموجود بالفعل، فإن كان هو الشرائع والإسلام والإيمان بكلياتها، فيصح أن يقال: الإسلام طريق النجاة وصراط الهداية، وهو الآن موجود، وهكذا كل ما يكون من قبيله من الهدايات التشريعية المضبوطة من قبل الأنبياء والعلماء، والقرآن صراط مستقيم، أي هو بالفعل وفي الاعتبار، صراط مستقيم بالفعل وطريق مستقيم إلى الجنة، والانحراف عنه بالأديان الاخر ضد الهداية ومن الضلالة. ولكنك أحطت خبرا: بأن الصراط المستقيم تكويني وتشريعي، ويؤيد أن منه التكويني قوله تعالى: (إن ربي على صراط مستقيم) (1). اللهم إلا أن يقال: هو في ذيل الآية الشريفة: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم)، فإنه هو التكويني، وأما هذا الذي يخص به الإنسان - مثلا - فهو التشريعي، لعدم إمكان تصور الصراط التكويني الموجود بالفعل الموصوف بالاستقامة فيه، لأن الناس السالكين في السبل والصرط التكوينية، ليست الجادة بالنسبة لهم موجودة بالفعل، بل الجادة توجد تدريجيا وآنا فآنا، حسب الحركة الكمالية الطبيعية الثابتة لهم، فيكون الخط والصراط موهوما امتداديا، لا واقعيا وحقيقيا، وهذا خلاف الظاهر من الآية الكريمة. أقول: قد تقرر منا في " قواعدنا الحكمية "، وأشرنا إليه هنا في البحث الماضي: أن في كل عصر وزمان من الأزمنة المادية، وفي كل آن من الآنات في هذه النشآت، لابد من وجود الإنسان الأعظم الكامل الواصل إلى منتهى السير، المخرج للطبائع الظلمانية من الظلمات إلى النور، والمحرك للحقائق المشفوعة بالمواد من النقص إلى الكمال اللائق بها، وهذا هو الموجود المعروف في شريعتنا بإمام الزمان والمنتظر المهدي - عجل الله تعالى فرجه - فهو إمام الزمان، لا زمان خاص، وهو المهدي على الإطلاق، أي الواصل إلى منتهى السير، البالغ نهاية الكمال، الباقي ببقاء الله تعالى بعد الفناء في الله، وهو الصراط المستقيم الموجود بالفعل التكويني، وهو من الذين أنعم الله عليهم بمثل ذلك، أي بهدايتهم التكوينية الكلية المطلقة، ويجعلهم الصراط التكويني، الذي هو الجسر الممدود على الطبائع الدنيوية والبرزخية والعقبوية.

وهذا الموجود وهذا الصراط لا يعقل أن يتكثر، لأن المنتهى واحد شخصي، والمبدأ واحد شخصي، فالصراط واحد شخصي، أما شخصية منتهى السير - وهو الله تعالى - فهي ذاتية واحدة، وأما شخصية مبدئه - وهي الهيولي - فهو المبرهن في محله (2)، وأن تكثرها بصور حالة فيها، ولازم ذلك بعد التوصيف بالاستقامة كونه واحدا بالشخص. ولأجل ذلك لم يجمع " الصراط " على " الصرط " في الكتاب الإلهي، ولا يستفاد منه أن الصراط كثير وأما السبل فهي كثيرة حسب ما في الكتاب، كما سيظهر تحقيقه. وبعبارة أخرى: الجادة الأصلية الكلية واحدة، والسبل والطرق المتفرعة على تلك الجادة كثيرة، ولكنها تنتهي إليها، وإلى جميع هذه الدقائق والرقائق يشير الكتاب الإلهي في (سورة المائدة: آية 16) (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم).

فبالجملة: مقتضى إطلاق الكتاب، أن الصراط أعم من التكويني والتشريعي، ومقتضى ظهوره أن الصراط المستقيم موجود بالفعل، ونتيجة ذلك: وجود الصراط المستقيم التكويني بالفعل، ومقتضى أن الصراط لابد وأن ينتهي إلى أمر، أن المطلوب هو الصراط المستقيم المنتهي إلى شئ آخر وراءه، فيثبت بذلك وجود الموجود الكامل بالفعل، المقارن للمادة المشفوع بأحكامها، المخرج من النقص إلى الكمال ومن الظلمة إلى النور في جميع أطوار الوجود، وفي أنحاء الطرق الفرعية والسبل الجزئية، فكل شريعة اعترفت بمثله، فهي الشريعة الغراء والدين الكامل الإلهي الواصل من الغيب، وإلا فلا، وحيث قد عرفت وحدة الصراط تبين وحدة الإنسان الكامل الواصل، وإذ تبين أن هذه الجادة التكوينية واحدة، فالصراط التشريعي واحد أيضا.

وإذا تأملت فيما أسمعناك وأسلفنا لك، فمن كانت طبيعته المخمورة تحت نظارة الإنسان الكامل، المربي لجميع الطبائع، والمتصدي من قبل الحق لتربية جميع السلاك، والمتطريقين، وكان تحت عناية يد الله المبسوطة على كل شئ، مع المحافظة على جميع أنواع الزاد والراحلة المعتبرة في هذا التطرق والسلوك، من الأنظار والأفكار السليمة، ومن الأخلاق والصفات الحسنة ومن الأفعال والأقوال الشرعية الممدوحة، وعلى جميع شرائطه الكمالية بالرياضات النفسانية والمحاسبات العقلانية، في مأكله ومشربه ومشيه وملبسه ومعاشراته الانفرادية والاجتماعية، وأن يتعظ من الله تعالى: (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى) (3)، فإذا تحصلت في سفرته هذه اللوازم السفرية، وتلك الزادات الأخروية، وطلعت عليه شمس الحقيقة، ونبتت بذورها المزروعة وفطرته المخمورة تصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعز قدسه. فالصراط المستقيم الحقيقي هو الطريق المشفوع بالشرائع وشرائطه الكمالية، وهو التكوين المقارن مع الشرع والباطن المحافظ عليه الظاهر، فإنه إذا حافظ على الفعلين الباطني والظاهري، يتمكن من الالتذاذ بالخطاب الإلهي حتى يسمع أنه وصل، وعليه خلع جناحي العلم والعمل وخلع الوسائط، لأن البراق والرفرف غير لازمين في السفر بعد الوصول إلى المقصد ونيل المطلب. وأما طرح الظاهر والأخذ بالأحكام القلبية - كما عن طائفة من الصوفية - فهو خروج عن الحد الوسط والطريق المعتدل: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء) (4)، وتضييع لتلك الأحكام القلبية، فضلا عن الأحكام الشرعية القالبية. ومثله طرح الأحكام القلبية والأخذ بالأحكام القالبية والجمود عليها، كما عليه طائفة من المتشرعة، فإنه أيضا اعوجاج وانحراف عن الحق، وخروج عن هداية الله، وتضييع لروح الإسلام والشرائع، ولباطن الأحكام ورقائقها، وقد وردت في شريعتنا الآثار الكثيرة الدالة على الطرفين، وعلى لزوم الأخذ بالحد الوسط الذي فسر به الصراط المستقيم في سورة الفاتحة، كما يأتي من ذي قبل إن شاء الله تعالى.

البحث الخامس: حول عمومية الدعاء ربما يمكن أن يستظهر من قوله تعالى: (إهدنا) بصيغة الجمع، أنه ظاهر في العام المجموعي، وأنه شامل لجميع عائلة البشر، فمن كونه بنحو العام المجموعي يستكشف - أيضا - وحدة الطريق والصراط المستقيم، وأن المطلوب هي هداية البشر إلى الصراط المستقيم، ومن كونه طلبا - إما على سبيل العام الاستغراقي، أو على سبيل العام المجموعي - للهداية إلى الصراط المستقيم، الممدود من مبدأ المادة والهيولي إلى المبدأ الأعلى والوجود، يستكشف أن جميع أفراد هذا النوع، قابل للسير وللاستكمال وللوصول إلى الغاية القصوى، فيعلم منه وجود تلك القابلية في كل واحد منهم، وأن الاستعداد لا يموت، وإلا يلزم طلب المحال والمستحيل، وهو غير صحيح ولو كان محاله بالغير. فعلى هذا كل إنسان وإن احتجب بالحجب الطبيعية والإرادية، وكل فرد منه إذا خرج من الفطرة السليمة والمخمورة، ودخل في الظلمة والفطرة المحجوبة، لا يمتنع عليه الوصول امتناعا بالغير أيضا، بل فيه أيضا استعداد الوصول إلى نهاية المأمول موجود (فطرة الله التي فطر الناس عليها) (5)، فإنه معناه ثبوت هذه القابلية فيهم كلا. وأما قوله: " كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه، يهودانه أو ينصرانه " (6) فهو إما ناظر إلى أن البطلان يجئ من قبل الغير الفاسد، أو أن حجاب الفطرة من قبل الأبوين، ولكنها محفوظة الذات تحت ذلك الحجاب.

البحث السادس: حول الآية والقول بالتفويض قيل: هذه الآية رد على القدرية والمعتزلة والإمامية، لأنهم يعتقدون أن إرادة الإنسان كافية في صدور أفعاله منه، إطاعة كانت أو معصية، لأن الإنسان خالق لأفعاله، فهو غير محتاج في صدورها عنه إلى ربه، وقد أكذبهم الله تعالى في هذه الآية، إذ سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم، فلو كان الأمر إليهم والاختيار بيدهم - دون ربهم - لما سألوه ذلك، ولا كرروا السؤال في كل يوم مرات (7). انتهى. أقول: أمثال هذه الأقاويل كثيرة في كتب التفاسير، ولا سيما تفاسير إخواننا الإسلامية. وأنت خبير - من غير حاجة إلى أن تكون فيلسوفا - بما في هذه الأساطير من: عدم التهافت بين القول بالتفويض، وأن الله خالق الخلق، والخلق خالق أفعالهم، وا لقول بأن الله تعالى لا يمتنع عليه التصرف في الأمور، والتدخل في أسباب السعادة بإيصال وسائل الخيرات والمبرات. هذا، والإمامية - وأنا منهم بحمد الله وله الشكر - بريؤون من القول بالقدر والتفويض، لأن أئمتهم هدوهم - بعون الله - إلى الصراط المستقيم والاعتقادات الواقعية الصحيحة، التي توافق أدق البراهين العقلية والمشاهدات العرفانية، ولقد أقر بأن الأمر بين الأمرين صاحب " تفسير روح المعاني " (8)، وأن إرادة المخلوق ليست مستقلة في الفاعلية، وذلك لما كان يلاحظ كتب الإمامية فيما أتى به، ولا سيما كتاب صدر المتألهين (قدس سره) وقد أخذ منه كثيرا من الحقائق، فراجع. نعم هذه الآية تشهد على أن الإنسان، يحتاج إلى الإمداد الغيبي والإعداد الإلهي والاستعانة والإعانة الربانية.


1- هود (11): 56.

2- راجع الشفاء (قسم الإلهيات): 331، وشرح الإشارات 2: 147 - 252، والأسفار 5: 70 - 77.

3- سبأ (34): 46.

4- البقرة (2): 143.

5- الروم (30): 30.

6- الدر المنثور 5: 155 - 156، عوالي اللآلي 1: 35، مسند أحمد 2: 233 - 275 و 282 و 393 و 410 و 481، صحيح البخاري 6: 480 / 1199.

7- راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 149.

8- روح المعاني 1: 82.