الحكمة والفلسفة

وهنا بحوث:

البحث الأول: حول الهداية والدعاء إن الأمر بطلب الهداية واستدامتها، والأمر باستدعاء الرشاد والإرشاد، يومي إلى أن تلك الهداية لا تحصل إلا به، وهذا يوجب كون المطلوب منه: إما جاهلا بذلك، أو عاجزا عنه، ويصير قادرا بنفس الطلب منه، أو بخيلا محتاجا إلى هداية الناس إلى طلبهم، وهكذا. وهذا كله مما تفر منه العقول، وتكذبه القواعد المحررة في العلوم الإلهية، وحمل ذلك على المزاح وعدم الجد أسوأ حالا من ذلك، مع أنه خلاف الظاهر. وبالجملة: من أول الفاتحة إلى هنا كان العبد يتذاكر محامد الله بالجمل الإخبارية، وكان يوجه إليه خطاباته التخضعية والتخشعية، ولكنه بقوله: " إهدنا " مع علمه بحاله ويكفي علمه عن سؤله، ابتلي بتلك البلايا، واعترف ضمنا بالنواقص العجيبة بالنسبة إلى من يخاطبه، ولذلك قيل: إذا قال أمين الوحي لإبراهيم (عليه السلام): ما حاجتك؟فقال: أما إليك فلا. قال: فاسأل ربك. قال: علمه بحالي كاف عن سؤالي (1). من گروهى ميشناسم ز أولياء كه دهانشان بسته بأشد از دعاء وما ذلك إلا لتلك التبعات المدهشة واللوازم الفاسدة.

أقول: هذه المسألة ومعضلة الدعاء، تأتيان بتفصيل في ذيل الآية الآمرة بالدعاء، ولا ينبغي لنا أن نخرج عما وضعنا عليه كتابنا، من البحث حول الآية حسب الدلالات، من غير الغور في المباحث الأجنبية أو المباحث الغريبة، القابلة للارتباط بأي شئ من الكتاب العزيز، ومن القصيدة لابن فلان. وهذا مما لا يكاد ينقضي تعجبي من أرباب التفسير - ولا سيما مثل الفخر وغيره - من ذكر ما هو غير مرتبط بالآية، إلا نحو ارتباط يمكن إحداثه بينه وبين القصائد الشعرية، من مثل ابن فارض وأمثاله.

وإجمال البحث: أن الدعاء هو الاستعجال عند العوام، والإعداد عند الحكماء، والعبادة عند العرفاء، وبذلك الأخير وردت مآثيرنا (2). ثم من العجيب: أن الداعي لابد وأن يكون مهتديا حتى يسأل ربه الهداية، فذلك الدعاء كان مستجابا من غير حاجة إلى السؤال، ولكنه بعدما يدرك الحاجة إلى ذلك، ويدرك أن من الدعاء والتضرع يحصل اشتداد في الهداية، يدعو ربه ويبعثه نحوها. وبعبارة أخرى: الهداية التكوينية كانت حاصلة، وبعد ذلك يقول: " اهدنا "، وليس هذا إلا لأجل أن هذا هو المعد إلى اشتداد هدايته وتقويتها، وتزداد كلما دعا، لأن في ذلك تذكر الهداية والتوجه إلى مبدئها. وبالجملة: لا شبهة في رجحان الدعاء، وفي ورود الأمر به في الكتاب والسنة، ولابد من الدفاع عنه وحل معضلاته: ومن أهم تلك المعاضل: أن الدعاء الواقعي يستتبع حدوث الداعي في المدعو منه، ويستلزم حدوث الإرادة وتغييرا في تلك الصفة المستتبعة للتغيير في الذات، وهذا من الواضحات مفاسده ومن المستبين أمره وبطلانه.

وإن شئت قلت: الدعاء يورث انقلاب الحال، وهو يلازم الإمكان الاستعدادي الملازم للمادة، فيلزم شر التراكيب في حق المسؤول والمدعو منه، وكل ذلك سيئة من سيئات النفس والعلم، لابد من حلها وبيانها في المقام المناسب لها إن شاء الله تعالى. ومن العجيب: أن صدر المتألهين وصاحب " الحكمة المتعالية " التزم: بأن هناك ملكا تصدى لذلك، والالتزام بالبداء في حقه وبالتغير في حاله من الممكن (3)، ضرورة أن الملك الروحاني غير حامل للمادة الحاملة للإمكان، القابل للانقلاب والاستحالة. وكان ينبغي أن يشير إلى أن من يستجيب الدعوات هي القدرة الإلهية، الملازمة مع المادة الدائمة، وهو الولي المطلق، المحتاج إليه في جميع الخروجات من القوة إلى الفعلية، وبه تنحل هذه المعضلات، وهذا وأمثاله أسرار وجوده، أي لابد في التكوين من قدرة كلية وعلوم كلية إلهية، مصاحبة مع المادة قابلة للانفعال والفعل، مؤثرة في هذه العوالم المسانخة معها مادة ومدة، فانتظر واغتنم.

البحث الثاني: حول الهداية التكوينية والتشريعية إن الهداية: إما تكوينية أو تشريعية، وعلى التقدير الأول: إما إلى أصل الوجود أو إلى كمال الوجود وجماله، وعلى كل تقدير يكون الكل من الهداية والخروج عن الضلالة، ويشترك الكل في هذا المفهوم الواسع، وإنما الاختلاف في مصاديقها وكيفياتها: أما الهداية التشريعية: فهي الهداية التي تجئ من قبل إنزال الكتب وإرسال الرسل والأنبياء، وتبليغ المبلغين والعلماء في كل عصر ومصر. وأما الهداية التكوينية إلى أصل الوجود: فهي الهداية المطلوبة بلسان الذات، فإن الأعيان الثابتة والماهيات، يطلبون بلسان ذواتهم الهداية من ضلالة العدم - التي هي أشد الضلالات - إلى دار الوجود والنور، ويريدون منه تعالى الخروج من الظلمات الذاتية إلى النور. وأما الهداية التكوينية إلى كمال الوجود وجماله: فهي في نظر حاصلة لكل أحد، وفي نظر حاصلة لطائفة خاصة:

وأما النظر الأول: فهو أن كل موجود في النظام الأتم الإلهي - بالقياس إلى ذلك النظام - مهتد إلى ما هو لازم النظام الكلي، فلا ضلالة في هذه المرحلة وهذه النظرة.

وأما النظر الثاني: فهو أن الأشياء - بحسب الحالات الفردية والشخصية - مختلفة الأفق ومتفاوتة الدرجات والسبل، ومتشتتة المسالك والطرق، فمنها ما يصل إلى الغاية المقصودة، فهو المهتدي إليها، ومنها مالا يصل إليها، فهو الضال عنها. وهذا أمر عمومي كلي داخل في عمومه جميع الحقائق الوجودية من قذها إلى قذيذها مما يترقب له الكمال بعد النقص، دون الموجودات الأمرية التي لا ترقب لها ولا ترقي فيها، ولا خروج لها من الظلمات إلى النور. فعلى هذا فهل المطلوب في قولنا: (إهدنا الصراط المستقيم) هي الهداية التشريعية إلى الإسلام والإيمان بالإقرار باللسان مثلا، أو هي الهداية التكوينية بالوصول إلى غاية المأمول ونهاية المسؤول، والدخول في دار الله الموجب للبقاء ببقاء الله، المورث للالتذاذات الروحانية وللتكيفات المعنوية التي لا تدركه العقول البشرية، أم هي جميع أنحاء الهدايات، حتى يكون الصراط المستقيم بناء على ذلك - أيضا - مختلفا بحسب المصاديق، ضرورة أن الصراط المستقيم في الهداية التشريعية غيره في الهداية التكوينية.

إذا عرفت وأحطت إجمالا بما في هذه السطور تأتي الشبهة: وهي أن من الواجب الدعاء بالنسبة إلى ما يمكن تحققه ويصح ترقبه، ومن البديهي أن الضلالة التكوينية، وعدم الوصول إلى الغايات الطبيعية في هذه النشأة الملكية الناسوتية، من الأمر الواضح اللازم لتلك الطبيعة، ولا يعقل التفكيك، لأن دار الطبيعة ومنزل المادة، دار الاصطدام والمزاحمة، ولو كان يمكن عقلا هذا التفكيك لكانت هذه النشأة من النشآت الإلهية المجردة، فأخيرة التجليات - وهي التجلي الفعلي في المواد والماديات - تستتبع هذه التبعات طبعا وقهرا، فكيف يعقل طلب الهداية بمعناها الواقعي والحقيقي؟فلابد وأن ينحصر الطلب بالهداية التشريعية.

أقول: الهداية التشريعية في نظر تشريعي، ولكن الاهتداء بتلك الهداية تكويني، لأنه ليس مجرد الاعتبار والتخيل كالأمور الاعتبارية، فعلى هذا يلزم سقوط الدعاء بالنسبة إليها. وغير خفي أن هذا الدعاء غير الدعاء بالنسبة إلى حاجة من الحوائج الاخر، كإعطاء درهم لسد الجوع، ضرورة أن النظر من الهداية هو استطراق طريق الوصول إلى غاية الطبيعة ومقتضياتها، أي استدعاء الشجرة هو البلوغ إلى أن تثمر ثمراتها الممكنة لها طبعا، واستدعاء الحيوان هو الوصول إلى الكمال المترقب الحيواني، وهكذا الإنسان، وحيث إن فطرة الإنسان فطرة التوحيد وفطرة العشق للكمال المطلق، فهدايته هو إبلاغه إلى ذلك العشق، وهذا غير ممكن بالإمكان الاستعدادي لا الذاتي والوقوعي، بل وغير ممكن بالإمكان الوقوعي، للزوم الخلف، وهو كون هذه النشأة مادية غير مزاحمة، فتدبر. فعلى ما تقرر وتحرر: يشكل طلب الهداية بمعناها الواسع التكويني المطلق، فلابد من أن يقال: إن النظر في هذا الطلب إلى الهداية التكوينية النسبية، بتحصيل المعدات والمقدمات الإعدادية اللازمة، حتى ينال الحقائق ويصل إلى المرتبة الأخرى، لما فيه من كمال الوجود، ضرورة أن الوصول إلى أصل الوجود ومنبع الغيب والشهود، يحتاج إلى الأمهات الشامخة والأصلاب المطهرة، وأما الوصول إلى غاية طبيعة الإنسان وسيره العلمي والعملي، البالغ إليه النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والولي المعظم، فهو من الآمال، ولا يخرج منها. دست ما كوتاه وخرما بر نخيل پاى ما لنگ است منزل بس دراز

وغير خفي: أن الترنم بهذا الدعاء، واستدعاء ذلك لكل أحد - مع قطع النظر عن الآخر - بإظهار الاشتياق الشديد إلى تلك المنزلة، وإبراز الحب الأكيد للوصول إلى تلك الغاية، يستلزم انفتاح أبواب الخيرات، وربما يتفق - لحصول نار العشق في وجوده - الإعداد والاستعداد للخيرات الإلهية الإطلاقية، وللحركة الطبيعية الشوقية إلى دار الجنة والمنزل الأرفع. فما ذكرناه فهو بالقياس إلى كلي ما في النظام الكياني التابع للنظام الرباني والإلهي، وقد أشرنا إلى أن ذلك لا يستتبع امتناع الوصول ذاتا، وإن كنا نعلم إجمالا بأن الطريق مسدود، والأبواب بالنظر إلى حالات الأشخاص مسدودة بالانسداد الجائي من قبلهم. وإن شئت قلت: الهداية التشريعية أمر يحصل من إنزال الكتب وإرسال الأنبياء والرسل، وبالإقرار بذلك اهتدى الرجل. ولكن الهداية التكوينية ليست من الأمور الجائية من الغيب دفعة وفي مائدة حتى نبتلعها، بل هي تحصل من الجد والاجتهاد ومن سلوك الطرق الصعبة جدا، المعضلة والمشكلة واقعا، وهذا مما لا يحصل بدوا وابتداعا، بل لابد وأن يكون من قبل المعشوق على الإطلاق نظر واستدعاء. تا كه از جانب معشوق نباشد كششى كوشش عاشق بيچاره بجايى نرسد

البحث الثالث: حول منتهى الصراط اعلم أن اعتبار الصراط تقوم باعتبارين: أحدهما المبدأ، والآخر هو المنتهى، مثلا: إذا قيل: هذه الجادة صراط الشام، أي تنتهي إلى الشام ولها مبدأ، وهو الكوفة، فعليه يبدو سؤال وهو: أن الصراط المستقيم المطلوب في هذه الآية، وإن لم يكن من الصرط الخارجية والجواد المادية، ويكون من الصرط المعنوية أو الاعتبارية، ولكنها مثلها في الحاجة إلى المبدأ والمنتهى، فما هو مبدأ هذا الصراط؟فإذا قيل: الإسلام هو الصراط المستقيم، أي من الضلالة إلى الهداية، وهكذا الإيمان أو غير ذلك من الشرائع، وإذا قيل: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الصراط، أو الأمير (عليه السلام) هو الصراط المستقيم، أي إن الإنسان الكامل هو الطريق من النقص إلى الكمال، فهنا نقص وكمال، وهذا هو قوس الصعود المتحرك فيه الأشياء من الدرجة السفلى إلى الدرجة العليا، والسائر فيه الصور الكمالية من النازلة إلى العالية، ومن المادة والنطفة إلى الصور والصورة الكلية الإنسانية، الجامعة لجميع الشتات والكمالات. فمن اعتبار الصراط يثبت التدرج من النقص إلى الكمال ومن الضلالة إلى الهداية. نعم إذا كانت الهداية تشريعية، فيكون المراد التدرج والخروج من اللاديني واللامسلكي إلى الديانة، وهي الإقرار بالشرائع والعمل بالأركان، وإذا كانت هي التكوينية، فيكون السير تكوينيا والصراط خارجيا من الأعيان، كسائر الصرط الخارجية، ولكنها خارجية مادية، وهذا الصراط والطريق مختلف الأحوال، لأنه طريق مستقيم ممتد من الهيولي إلى الوجود المطلق، ففي ابتداء السير يكون ماديا، ثم يصير برزخيا، ثم يصير معنويا صرفا... وهكذا.

وهذا الطريق الممتد من المادة إلى السعادة المطلقة، وإلى القيامة العظمى وإلى الحشر الكلي التام وإلى لقاء الله والباقي ببقاء الله، هو الطريق المستقيم إلى الكمالات المتوسطة غير الخارجة عن حدي الإفراط والتفريط، ويكون واحدا حقيقيا ممتدا إلى الملكوت الأعلى والسماوات العلى، وعلى كل موجود الحفاظ على هذا الخط الممدود المستقيم، بأن لا يخرج عن حدوده، ولا يتجاوز عن تطرقه وتسلكه بالانحرافات الممكنة الحصول له في أثناء الطريق في كل آن ولحظة، بالمواظبة على الحدود الإلهية والشرائع الحقة وباتباع الإنسان الكامل، الذي يكون مطلعا على تلك الحدود، وسالكا ذلك السبيل، وعارفا بجميع أسواقه وأزقته وخصوصياته وانحرافاته، حتى لا يقع في الضلال، ولا يتجاوز عن الصراط واستقامته، وبمثله كلف العباد، ولأجله ارسل الرسل والكتب.

وأما سائر الصرط التي يمشي عليها الموجودات، ليس شئ منها هذا الصراط المختص بأهل الله، لأن كلا منها ينتهي إلى غاية أخرى غير لقاء الله، والى منزل آخر غير جوار الله وغير دار الجنان ومنزل الرضوان، كطبقات الجحيم ودركات النيران، فالقوس الصعودية لا تصل إليه تعالى إلا بسلوك الإنسان الكامل عليها (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) (4)، والانحراف عنه يوجب السقوط عن الفطرة والهوي في درك الجحيم والهبوط في جهنم التي قيل لها: هل امتلئت، وتقول: هل من مزيد (5). ومن هنا يعلم سر توصيفه في بعض الأخبار: بأنه أدق من الشعر وأحد من السيف (6)، لأن كمال الإنسان منوط باستعمال قوتيه: أما القوة النظرية: فلإصابة الحق ونور اليقين في سلوك الأنظار الدقيقة التي هي في الدقة واللطافة أدق من الشعر. وأما القوة العملية: فبتعديل القوى الثلاث - التي هي الشهوية، والغضبية، والشيطانية الفكرية الوهمية - في أعمالها لتحصل للنفس حالة اعتدالية، متوسطة بين الإفراط والتفريط غاية التوسط ونهاية التعديل، ضرورة أن الأطراف كلها مذمومة توجب السقوط في الجحيم، وهي منزل الأشقياء المردودين. وقد تحرر: أن المنزل المتوسط الحقيقي بين الأطراف المتضادة بمنزلة الخلو عنها، والخلو عن هذه الأطراف - المسمى بالعدالة - منشأ الخلاص عن الجحيم، وهي أحد من السيف، فإذن الصراط أدق من الشعر، والوقوف عليه يوجب القطع والانحراف، فهو أحد من السيف. فلا تتوهم: أن كمال الإنسان هو البلوغ إلى هذا الصراط، فإنه لو بلغ ووقف شق وقطع وسقط منه في النار، والله يعصمنا منه إن شاء الله.


1- التفسير الكبير 1: 254 وراجع تفسير القمي 2: 73، والدر المنثور 4: 323، وعلل الشرائع 1: 36 / 6.

2- راجع الكافي 2: 238 / 1 و 2 و 5 - 8، وعدة الداعي: 39 - 43.

3- راجع الأسفار 6: 397 - 398.

4- فاطر (35): 10.

5- راجع السورة ق (50): 30.

6- راجع تفسير القمي 1: 29، والأمالي، الصدوق: 177 / 4.