أصول الفقه

قد اشتهر: أن هيئات الأمر تأتي لمعان كثيرة: الطلب، والطلب الوجوبي، أو الندبي، والاستهزاء، والتعجيز، والاستدعاء، والإلحاح، ونحو ذلك مما فصلناه في موسوعتنا الأصولية (1). ومما يشهد عليه: أن الهيئة الداعية نحو الصلاة في قوله تعالى: (أقم الصلاة) (2) مثلا، لا يعقل أن تكون كالهيئة الداعية نحو الهداية إلى الصراط المستقيم، فإن الأول أمر من العالي المستعلي، والثاني استدعاء وإلحاح من الفقير العاجز الداني، فكيف يمكن إرجاع تلك المعاني المختلفة إلى المعنى الواحد ؟! وكيف يمكن تصوير الجامع الواحد بين تلك الهيئات المتشتتة في المعاني ؟! ولعل لأجل ذلك أمرنا بقراءة الفاتحة في الصلاة من غير إنشاء المعنى فيها، للزوم الخروج عن مأدبة الأدب والاستدعاء. أقول: أما اعتبار العلو والاستعلاء في الأمر فهو غير صحيح، لا في مادته ولا في هيئته، لا هما مجموعا، ولا الاستعلاء أو العلو، ولا على سبيل الخلو، وقد تحرر منا إنكار ذلك، ولا سيما في الهيئة، وقد كشفنا نقاب الشبهة عن هذه المشكلة بذكر الشواهد والقرائن (3).

وأما المعاني التي ذكرناها وذكروها لهيئة الأمر، فهي ليست معانيها الموضوع لها الهيئة، بل الهيئة في عالم الاعتبار، أقيمت مقام التحريك التكويني في الخارج نحو الشئ، مع سكوتها عن سائر الخصوصيات الموجودة في نفس المحرك حال التحريك، فكما إذا أراد الإنسان شيئا من الأصم، يأخذه فيحركه نحو مريدا بذلك إغراءه وبعثه، كذلك بالهيئة يصنع ذلك في الاعتبار وعالم الوضع والألفاظ. وأما سائر المعاني الاخر الموجودة في النفس، فهي الدواعي المختلفة المستدعية لذلك التحريك ومن العلل السابقة عليه، من غير كون الهيئة موضوعة لها، مثلا: إذا كان يريد تعجيز المخاطب، يبعثه ويحركه نحو الإتيان بسورة من مثله، قاصدا بذلك التحريك تعجيزه، لا أن الهيئة موضوعة للتعجيز، وهكذا، فقولنا: " إهدنا "، أمر وتحريك، ولكنه من الفقير العاجز بداعي توجيه المخاطب وتلطيفه، فافهم واغتنم.

إيقاظ علمي

حول طلب الهداية اعلم أن المحرر في الأصول لدينا: أن الهيئة موضوعة للتحريك الاعتباري (4)، فليس التحريك والبعث من الدواعي، بل الدواعي تكون خارجة عن الموضوع له، فإذا قال: (إهدنا الصراط المستقيم) فهو بالنسبة إلى حدوث الهداية وإحداثها بعث، وأما بالنسبة إلى إدامة الهداية وإبقائها فلا يكون بعثا، بل هو من الدواعي، كداعي التعجيز إذا بعث بقوله: (فأتوا بسورة من مثله) (5) إلى الإتيان بها، فإنه بعث إلى المادة بداعي التعجيز، ولا يكون هذا البعث واقعيا، أي موافقا للجد، وإلا فهو موافق للاستعمال، أي للإرادة الاستعمالية، ولا يلزم المجازية. فعلى هذا لا يلزم أن يكتفي القارئ - في طلب الهداية - أن يبعث مولاه إلى إحداثها أو إدامتها، فإذا كان من الضالين والمضلين فطلب الهداية حقيقي، وإذا كان من المهتدين فطلبها بالنسبة إلى المرتبة الموجودة له غير حقيقي، ويكون بداعي إبقائها. بل له أن يلاحظ الأمرين: أصل الهداية وكمالها، فيطلب ويبعث مولاه نحو أصل الهداية من الضلالة ونحو إبقائها، من غير لزوم كون الهيئة مستعملة في الأكثر من واحد. وربما يمكن توهم امتناع ذلك، لأنه لا معنى لاعتبار البقاء والدوام إلا بعد حدوثها، فلابد وأن تحدث الهداية أولا ولو إنشاء، ثم يعتبر بقائها. ولكنه مغبون عند التحقيق، لأن الاعتبار خفيف المؤونة، فلاحظ وتدبر جيدا.


1- راجع تحريرات في الأصول 2: 77.

2- هود (11): 114، الإسراء (17): 78، لقمان (31): 17.

3- راجع تحريرات في الأصول 2: 11.

4- راجع تحريرات في الأصول 2: 77 وما بعدها.

5- البقرة (2): 23.