اللغة والصرف

الناحية السابعة: حول قوله تعالى ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾

وهنا مسائل:

المسألة الأولى: حول معنى الهداية هداه، يهديه، هدى وهديا وهداية وهدية - واوي - فهدى هو، أي أرشده فاسترشد، ضد الضلال - لازم ومتعد - أو هي الرشاد والدلالة بلطف إلى ما يوصل إلى المطلوب (1). وهي مؤنثة، وقد تذكر، كما في " الصحاح " (2). وعن ابن جني، قال اللحياني: الهدى مذكر، قال: وقال الكسائي: بعض بني أسد تؤنثه (3). وفي الكتاب تارة استعملت لازمة: (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) (4)، وأخرى جاءت متعدية بمفعول واحد: (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) (5)، وثالثة إلى مفعول ثان: (أولم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا) (6)، وربما يتعدى بالحرف إلى ثالث: (ويهديهم إليه صراطا مستقيما) (7). وعن الجوهري: هداه الطريق، لغة الحجاز (8). قال ابن بري: فيعدى إلى مفعولين (9). والذي يظهر لي هنا أمران: أحدهما: أن الهداية ليست في الاستعمالات إلا متعدية، ولا تجئ لازمة، خلافا لما في كتب اللغة، لأن تلك الكتب قاصرة عن الاستدلال، وما استدل به في " تاج العروس " من قوله تعالى: (ويزيد الله)، وفي موضع آخر: (والذين اهتدوا زادهم هدى) (10)، (11) غير مستقيم، لأن من الممكن أن يجئ المصدر بمعنى اسم المصدر، أي كثيرا ما يطلق المصدر ويراد منه المعنى الحاصل منه، المعروف باسم المصدر. وأما قوله تعالى: (أفمن يهدي إلى الحق) (12)، فالمفعول هناك محذوف، لأن النظر إلى المهدي إليه دون المهدي، وإلا فلا يعقل أن يهدي الرجل إلى الحق إلا مع وجود المهدي. وتوهم: أن المقصود معناه اللازم فاسد جدا، لما في ذيله: (أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى).

هذا، مع أن الالتزام بتعدد المعنى يستلزم تعدد الوضع، وهو خلاف الأصل، فعلى هذا الهداية متعدية إلى المفعول الأول بنفسها. ثانيهما: قد تقرر منا مرارا أن اللزوم والتعدية من طوارئ المعاني، وليست من عوارض الألفاظ، فمجرد الإتيان بالمفعول الثاني بدون وساطة الحروف، لا يكفي لكون اللفظ من المتعدي إلى المفعولين، ففي قولهم: " هداه الله الطريق " حذف الجار، كما هو كثير في الاستعمالات والأساليب (وجاؤوا أباهم عشاء يبكون) (13) والضرورة قاضية بأن المجئ لازم، فقوله تعالى: (يهديك صراطا مستقيما) (14) محمول على تعدية الهداية بغير اللام و " إلى "، لأن معناه: أنه تعالى يهديهم إلى فضله ورحمته، أو إلى نفسه وذاته بالصراط المستقيم. ومن الممكن أن يقال: إن قوله: (صراطا مستقيما) بدل أو عطف بيان، أي يهديهم إليه بهدايتهم إلى الصراط المستقيم، والله العالم. ثم إن المعروف تقسيم الهداية إلى الهداية بمعنى إراءة الطريق، والهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب، ولكنه ليس من قبيل المعنيين للفظ الواحد، بل هذا تقسيم للمعنى الواحد، ولذلك ينقسم الهداية إلى أكثر من هذا. قال الراغب: " هداية الله تعالى للإنسان على أربعة أوجه " (15)، ولكنك ستطلع في أثناء المباحث الآتية على أن هداية الله تعالى غير متناهية الأقسام، فليتدبر جيدا.

المسألة الثانية: حول الهداية إلى الخير الهداية هي الدلالة بلطف والتدليل بلين، وليس مطلق إراءة الطريق، بل الظاهر أن الهداية هي إراءة الطريق إلى الخير والنعم، دون الشر والنقم، فإذا قيل: (فاهدوهم إلى صراط الجحيم)، فيحمل على الاستهزاء والتهكم، كما في قوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم) (16)، وفي قوله: (وظل من يحموم) (17)، (18). أقول: وفي كليهما نظر: أما في الأول: فلخلو كتب اللغة عن القيد المزبور، ولا يوجد فيها إلا تفسير الهداية بالإرشاد والدلالة، وأما لزوم كونها مقرونة باللطف، ومشفوعة بالتدلي والتطول، فهو مسكوت عنه. نعم في " تاج العروس " (19) فسر كلام " القاموس " (20) بذلك، وعلى الباحث النظر والتأمل فيه، وكأنه خارج عن اللغة، ولا يساعد عليه التبادر، ولا موارد الاستعمال. وأما في الثاني: فلأن كتب اللغة مشحونة في تفسيرها بأنها الإرشاد إلى السبيل والطريق، ولا يستفاد منها كون حقيقة الهداية هي الإراءة إلى الخيرات والحسنات. نعم في الاستعمالات الشرعية وفي الأساليب يكثر ذلك إلا أنه لا يبلغ بعد إلى حد مهجورية المعنى الحقيقي واكتساء المعنى الآخر، ولذلك قيل: الهداية في الاستعمال الشرعي الدلالة إلى الحق والدعاء إليه وإراءة طريقه والإرشاد إليه والأمر به.

وأما توهم: أن بعضا منها فسر بالإرشاد والاسترشاد، قائلا: إنها ضد الضلال، وهو ظاهر في أنها موضوعة للمعنى الأخص، فهو في غير محله، لأن الإرشاد أيضا ليس معناه إلا الدلالة، وضدية الضلال ليست تستلزم كونها موضوعة للإرشاد إلى الخير الواقعي والحسنات، فلو سأل السارق عن البيت الذي يريد أن يسرق منه، فأشير إليه، يقال: هداه، وهي ضد الضلال، وضلاله هنا أن يشير إلى غير ذلك البيت، ولذلك ورد تقييد الهداية في الأدعية والكتاب الإلهي - عند السؤال عنها - بالصراط المستقيم، فعلى هذا لا وجه لما قيل: إن قوله تعالى: (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) (21) تهكم واستهزاء، لأنه خلاف الأصل.

تذنيب

حول باقي المعاني المذكورة للهداية ربما يتخيل: أن الهداية من معانيها اللزوم والتوفيق، توهما أن ذلك مفاد بعض الأخبار (22)، غافلين عن أن تلك الأخبار ليست بصدد توضيح المعاني الكنائية، كما يأتي تحقيقه. وأيضا أن الهداية هي الميل والتمايل (إنا هدنا إليك) (23)، أي ملنا، وفي الحديث: " خرج (عليه السلام) في مرضه يتهادى بين اثنين " (24)، أي يتمايل، ومنه " الهدية "، أي تمال من ملك إلى ملك، ومنه " الهدي " للحيوان الذي يساق إلى الحرم. وعلى هذا إن قلنا: إن هذا المعنى الدلالة والرشاد واحد وله في الهداية تمايل إلى المهدي إليه فهو، وإلا فربما يمكن اختلاف الآيات من تلك الجهة، أي كما يمكن أن يكون (إهدنا الصراط المستقيم) طلب الرشاد والدلالة، يمكن أن يراد منه طلب الإمالة إلى الصراط المستقيم. وغير خفي: إن " هدى " الثلاثي ليست بمعنى الإمالة، وما هو بمعنى الإمالة والتمايل هي " هادي " على وزن فاعل. نعم، ربما يمكن أن يستخرج هذا المعنى من الثلاثي، بدعوى: أن هيئات المزيد عليه ليست تغير معاني المادة، للزوم كون الوضع مشخصا لتلك الهيئة والمادة، مع أن وزنها نوعي، كما تحرر في الأصول (25).

وأما " هدى هداء العروس إلى بعلها " بمعنى زفها، فهو أيضا بمعنى الرشاد والدلالة، ولكنه يكنى بها عن الزفاف، قضاء لحق رجوع كثير من معاني اللغات إلى معنى واحد ومفهوم فارد. المسألة الثالثة حول معنى " الصراط " الصراط: هو السبيل والطريق. وحكى النقاش: أنه بمعنى الطريق بلغة الروم (26). ويمكن أن يقال: إن " السراط " عربي، لأنه من " سرط "، و " الصراط " غير عربي، لأنه لا يوجد منه فعل، فلاحظ. وقد اشتهر: أن كل كلمة اشتملت على الراء والطاء والظاء إلى سبعة أحرف، يجوز فيه الصاد والسين، أي إذا كان أصله الصاد، فيصح أن يقرأ بالسين، وفي كون ذلك قانونا كليا إشكال، بل لابد وأن يكون متخذا عن موارد الاستعمال، وإذا كان السراط بمعنى الصراط فيجوز، وإلا فلا، ولقد صرح في كتب اللغة بذلك، وأن السراط هو الصراط، وهكذا بالنسبة إلى الزراط والزراد، وهذه الكلمات كثيرة، ومنها الازدراد، فإنها - حسب الحروف المختلفة المتقاربة في المخارج - جاءت بمعنى واحد، وهو الابتلاع، كالاضطراد والازدراط... وهكذا، ومثل البزاق والبذاق والبصاق والبساق، ومثل الملاذ والملاز، وكان جماعة - كبني القين - يقولون: أصدق وازدق، والأزد والأسد، ولسق به ولصق به... وهكذا. وأما جواز تبديل الحرف كلا، فهو محل المنع، ومن الممكن أن تقارب المخارج أوقع اللغويين في هذا الاشتباه.

ثم إن تفسير الصراط في كتب الأحاديث والأخبار بغير السبيل والطريق، فهو على التأويل والادعاء، أو على أن الموضوع له عام كما أفاده أرباب العرفان، ولقد فرغنا عن عدم تمامية ذلك في أفق اللغة والأدب من غير حاجة إليه، لما تحرر منا في محله من: عدم لزوم المجازية في تفسير الصراط بغير معناه اللغوي، لأن الادعاء والملاعبة في المعاني، لا تورث استعمال اللفظ في غير ما وضع له، كما يأتي تفصيله. فإذا ورد في الروايات: أن الصراط هو دين الله، أو الولاية، أو الأئمة المعصومين - عليهم صلوات الله المصلين - أو هو علي (عليه السلام)، أو هو القائم منهم - عجل الله تعالى فرجه الشريف وسهل مخرجه المنيف (27) - فهو من التأويل الذي لا يعرفه إلا من خوطب به، وليس مفادها قصر المعنى في ذلك، بل مفادها أن ما هو بالحمل الشائع صراط إلى الله هو كذا وكذا. وأما تفسيره بالجسر الممدود على الجحيم - كما في " القاموس " (28) وغيره - فهو غلط، لأنه ليس معنى آخر وراء السبيل والطريق، فلا يكون الصراط ذا وضعين: معنوي وشرعي، كما توهم. ثم إن المعروف والمشهور عنهم: أن أصل الصراط هو السراط، وهو بمعنى اللقم والبلع، وكأنه يبتلع صاحبه أو كأن صاحبه يبلعه (29). انتهى. وهل هذا إلا الجزاف ؟! وما الداعي إلى هذا الانحراف عن الجادة السوية والصراط المستقيم ؟! بل كل واحد - لغة - بمعنى واحد، من غير كون أحدهما الأصل والآخر فرعا، وكأنهم غفلوا عما تقرر منا في الأصول في كيفية حصول اللغات المترادفة (30)، مع أن التوجه إليها يعطي أن اختلاف تلك الحروف والكلمات لاختلاف القرى والقصبات، وبعد التمدن والاجتماع والتعايش المدني والاختلاط، تبادلت اللغات، فتوهم: أن في لغات كثيرة بمعنى واحد، مع أن الأمر ليس كما تخيلوه بالضرورة والوجدان.

تذنيب

اختلفوا في أن الهداية هي إراءة الطريق، أو هي الإيصال إلى المطلوب أو هي الإراءة الموصلة، أو ما كانت تتعدى بنفسها إلى المفعول الثاني فهي الإيصال، وإن تعدت إليه باللام أو ب? " إلى " كانت بمعنى الإراءة، وقد أشير فيما سبق، أن حقيقة الهداية ليست إلا الدلالة والإرشاد، وإن كان بينهما فرق يخرجهما من الترادف، ولكن المقصود هو الإيماء إلى أن الأقوال المذكورة ساقطة والاختلاف المزبور غير صحيح، لأن كل ذلك من الإرشاد، إلا أن مصاديق الإرشاد مختلفة لا مفهومه، ومصاديق الهداية متفاوتة لا مفهومها، فهذا التشتت ليس في أمر لغوي، بل هو لابد وأن يكون في معنى آخر وجهة أخرى خارجة عن مبحوثنا الفعلي، فما ترى في بعض كتب التفسير من توهم الأصالة لهذا النزاع والتشاح، محمول على الغفلة عن حقيقة الحال. وما يؤيد بل يدل على ما سلكناه في هذا المضمار من أعمية معنى الهداية، قوله تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) (31). ومما يشهد على أن الهداية بمعنى واحد - سواء تعدت باللام أو بغيره أو بنفسها - لزوم تعدد الوضع، وهو خلاف الارتكاز والوجدان، مع أنك أحطت خبرا فيما سلف بأن التعدية بنفسها إلى الثاني لا معنى لها، فليتدبر جيدا.


1- أقرب الموارد 2: 1380.

2- الصحاح 4: 2533.

3- لسان العرب 15: 353.

4- مريم (19): 76.

5- الصافات (37): 34.

6- الأعراف (7): 148.

7- النساء (4): 175.

8- الصحاح 4: 2533.

9- لسان العرب 15: 355.

10- محمد (47): 17.

11- تاج العروس 10: 406 - 407.

12- يونس (10): 35.

13- يوسف (12): 16.

14- الفتح (48): 2.

15- المفردات في غريب القرآن: 538.

16- لقمان (31): 7.

17- الواقعة (56): 43.

18- أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 9، تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 98، روح المعاني 1: 86، المفردات في غريب القرآن: 538.

19- تاج العروس 10: 406.

20- القاموس المحيط 4: 405.

21- الصافات (37): 24.

22- هذا التخيل مذكور في مجمع البيان وآلاء الرحمن في ذيل الآية.

23- الأعراف (7): 156.

24- الجامع لأحكام القرآن 1: 147.

25- راجع تحريرات في الأصول 1: 110 - 361.

26- الجامع لأحكام القرآن 1: 147.

27- راجع معاني الأخبار: 32 - 36، وتفسير البرهان 1: 50 - 52.

28- القاموس المحيط: 871.

29- روح المعاني 1: 86.

30- تحريرات في الأصول 1: 357.

31- فصلت (41): 17.