التفسير على اختلاف المسالك والمشارب

فعلى المشرب الأخباري: (إياك نعبد) رغبة وتقرب إلى الله تعالى ذكره، وإخلاص له بالعمل دون غيره، (وإياك نستعين) استزادة من توفيقه وعبادته واستدامة لما أنعم عليه ونصره، هكذا عن " الفقيه " من " العلل " (1). وعن بعضهم: " قال الله تعالى: قولوا أيها الخلق المنعم عليهم، إياك نعبد أيها المنعم علينا، نطيعك مخلصين مع التذلل والخضوع بلا رياء ولا سمعة، وإياك نستعين، منك نسأل المعونة على طاعتك لنؤديها كما أمرت، ونتقي من دنيانا ما عنه نهيت " (2). الحديث. وروي عن الحسن بن علي عن أبيه أمير المؤمنين (عليهما السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قال الله عز وجل: قولوا: إياك نستعين على طاعتك وعبادتك، وعلى دفع شرور أعدائك ورد مكائدهم، والمقام على ما أمرت به " (3).

وعن العياشي: " إياك نعبد إخلاص العبادة، وإياك نستعين أفضل ما طلب به العباد حوائجهم " (4). وعن الصادق (عليه السلام): " يعني لا نريد منك غيرك، ولا نعبدك بالعوض والبدل، كما يعبدك الجاهلون " (5). وعن " العيون " مسندا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث: " إذا قال العبد: (إياك نعبد)، قال الله عز وجل: صدق عبدي إياي يعبد، أشهدكم لأثيبنه على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي، فإذا قال: (وإياك نستعين)، قال الله عز وجل: بي استعان عبدي وإلي التجأ، أشهدكم لأعيننه على أمره ولأغيثنه يوم شدائده ولآخذن بيده يوم نوائبه " (6). وعن الكسائي تقديره: قالوا: (إياك نعبد)، أو قل يا محمد هذا (7). انتهى. وقريب منه: أنه تعالى قد أمرنا في هذه الآية ألا نعبد أحدا سواه، لأنه المنفرد بالسلطان، فلا ينبغي أن يشاركه في العبادة سواه، ولا أن يعظم تعظيم المعبود غيره، كما أمرنا أن لا نستعين بمن دونه، ولا نطلب المعونة - المتممة للعمل والموصلة إلى الثمرة المرجوة - إلا منه فيما وراء الأسباب التي يمكننا كسبها وتحصيلها، وأما فيها فنحن نحضر - مثلا - الدواء لشفاء المرضى، ونجلب السلاح والكراع ونكثر الجند لغلب العدو، ونضع في الأرض السماد ونرويها، ونقتلع منها الحشائش الضارة بالخصب وتكثير الغلة، وفيما وراء ذلك مما حجبه الله عنا من الأسباب يجب أن نفوض أمره إلى الله تعالى، فنستعين - حينئذ - به وحده، ونفزع إليه في شفاء مريضنا، ونصرنا على عدونا، ودفع الموانع السماوية والأرضية عن مزارعنا.

وعلى مسلك الفقيه: قولوا: (إياك نعبد)، ونريد عبادتك ولا نريد عبادة غيرك، وإن تكن الإرادة لأجل الغير من الأمور الأخروية أو الدنيوية الراجحة، وفي تلك العبادة نستعين بك، ولا نستعين بغيرك. وقريب منه: (إياك نعبد) خالصا، ولا نريد غيرك، ولا داعي إلا أنت، وأنت المستعان في كل الأمور، (وإياك نستعين) في جميع الأقوال والأفعال، إلا ما أجاز ورخص (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون والذين هم يراؤون ويمنعون الماعون) (8)، فإن تعقيب الصلاة بالتحذير عن الرياء ومنع المعاونة، شاهد على عدم اختصاص في البين، وبطلان الصلاة إذا كانت بسائر الدواعي غير الإلهية، ولا يكون مفادهما الحصر الاصطلاحي ولا الإضافي، بل التقديم للأهمية والاهتمام. وقريب منه: أنه غير مصدر بالأمر بل ينشأ العبادة والتضرع وغيرها ويبرزها له تعالى، ولا يكتفي بمجرد لقلقة اللسان الخالي عن المعاني والأحوال. وليس من قبيل قوله تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا) (9) أي يقولون: ربنا أبصرنا وغير ذلك مما يكثر في الكتاب العزيز. ففي الخبر المذكور عن " العيون " مسندا: " يقول الله بعد ما قرأ الحمد: قد حمدني عبدي وذكرني " (10)، ولو كان يقرأ السورة حكاية وقراءة كقراءة العوام الجاهلين بالمعنى كلا، فلا معنى لذلك التوصيف البليغ، ولذلك اختار بعض فقهائنا أن الاحتياط في ترك الاقتصار على مجرد الحكاية والقراءة.

وعلى مسلك الحكيم: (إياك نعبد) ولا يمكن أن نعبد ونخضع ونخشع لغيره، (وإياك نستعين) ولا تقع الاستعانة من غيره إلا به عز وجل. وهذا من متفرعات الاعتراف والإقرار بأن الحمد كله لله، فإذا كان هكذا فكيف تقع العبادة لغير الله مع أن العابد يعبد على ثنائه وكماله ؟! وإذا اعترف وأقر بأن جميع المحامد والكمالات له تعالى، فكيف يتمكن من الغفلة عن التوحيد الأفعالي حتى تكون استعانته بغيره، فإذا كانت إعانة الغير بإمداد إلهي وغيبي وإفاضة ربانية دائمية، فلا تقع الاستعانة من الغير إلا برجوعها إلى الاستعانة بالله تبارك وتعالى.

وعلى مشرب العرفان: (إياك نعبد) مخاطبا إياه بكل جلوة وجاعلا كل شئ وجهة نظره، فانيا فيه، بل لو استجلى قلبه بجلوة التوحيد الذاتي، وأن ليس في الدار غيره ديار، فلا يتوسط بين المعبود الصوري والمعبود الحقيقي شئ حتى نتوسل إلى وسيلة الإرجاع. والأمر هنا صعب مستصعب لا يتمكن العارف من الصحو به، ولا من السهو عنه، (وإياك نستعين) ولا تكون الاستعانة في كل موقف إلا به جل وعلا، من غير حاجة إلى التوسيط وجعل الفيض وسطا، ولا إلى التوحيد الأفعالي. والله العالم بحقائق الأمور.

وعلى مسلك المنصف الخبير البصير: أن كل آية قابلة لأن يشاهد السالك محبوبه فيها، ويعاين القارئ العزيز مطلوبه عليها، فإذا كان من العوام ومن حولهم من سائر العقلاء فيخاطب الله حسب ما يدرك ويفهم، وإذا بلغ إلى مرتبة العالمين بالله بالعلوم الكلية القشرية، فيتجاوز عن حد الظلام، ويكسر جبل الأوهام، فيخاطب الله على ما يدركه من الإحاطة القيومية، ومن السلطنة الحقيقية، ومن الحضور بحضور فيضان ذاته، وإذا خلع جلباب البشرية وأدرك الآية الشريفة (هو الظاهر)، وتوجه إلى مقامات العارفين توجها خاصا لا يشار إليه ولا يرمز، فيحصل له أن الخطاب والمخاطب والمخاطب تختلف ولا تتخلف، وأيضا يناجي ربه ويقول: (إياك نعبد) بأنحاء العبادات القلبية والقالبية المعنوية والصورية، الباطنية والظاهرية، السرية والخفية والإخفائية، فيراعي جانبها في جميع نشأت وجوده، ويلاحظ أحكامها في شراشر مراتب حقيقته، فيضع جبهته على التراب، وهذه عبادة الأبدان، ويجعل عليه صورته، وهذه عبادة الأعيان البرزخية، ويخضع في قلبه بالتوجه التام، فهي عبادة رقيقة، ويخشع في مقامه الروحاني بروحه التجردي، فهي عبادة العقل الجزئي، وهكذا إلى أن لا يرى في عبادته العبادة ولا العابد، وهي عبادة الصديقين، الذين إذا يؤخذ من رجلهم الشوكة، لا يحس ولا يدرك الوجع ولا الألم، وهو أمير المؤمنين - عليه أفضل صلوات المصلين - فإذا قال: (إياك نعبد) مخلصا وخالصا ومخلصا لا غيرك في سلسلة العلل الطولية، ولو كان فيهم الواجب الوجود الآخر، الكامل في جميع الجهات، والجميل من كل الحيثيات، فإنه لا يعبد إلا أنت وحدك، ولا يعبد من كان في سلسلة المعاليل ولا ما كان فيها، ولو انتهى إلى نار الجحيم الشديد الأليم، فلا يعبد في السلسلتين الفاعلية والغائية إلا أنت وحدك، وهذا هو مولى المتقين الذي روي عنه: " ومنهم من يعبدك لما يجدك أهلا للعبادة، لا خوفا من النار، ولا طمعا في الجنة " (11)، فإنه معناه: أن العبد يصل إلى مقام يعبدك ولو كان يخلد في النار لأجل العبادة ولا يخاف عقابها، ولا يترك عبادتك ولو كان فيه خلود الجنة، فلا يتبع هواها، بل يتبع هواك أفيضل ويشقى ؟! كلا، إنها تسعى إلى سدرة المنتهى، وتموت وتحيى وتعبد وتخشع وتذلل، حتى إلى ربها الرجعي، فتخلد وتبقى بإذن الله الملك العلام العزيز ذي الانتقام. وأيضا (إياك نعبد) بالعبادات الشرعية والعرفية والحقيقية، وبالعبادات التنزيلية، ففي الخبر: " ما عبد الله عز وجل بشئ مثل البداء " (12) ونحوه كثير.


1- الفقيه 1: 203 - 204 / 12.

2- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 39.

3- المصدر السابق: 41 / 18.

4- راجع تفسير العياشي 1: 22 / 17.

5- تفسير الصافي 1: 20.

6- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 301 / 59.

7- مجمع البيان 1: 103.

8- الماعون (106): 4 - 7.

9- السجدة (32): 12.

10- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 300 / 59.

11- نهج البلاغة، صبحي صالح: 702، حكمة 237، تحف العقول: 279 / 5.

12- الكافي 1: 113 / 1، التوحيد: 332 / 1.