الموعظة والأخلاق والنصيحة

اعلم يا أخا الحقيقة ويا قرة عيني العزيز: أنك إذا تأملت بعين الإنصاف وحسن البصيرة، أن الذي تصدى لتربيتك والذي خلقك وأحسن خلقك، وأرسل إليك الأسباب الباطنية والظاهرية، لإخراجك من الظلمات إلى النور ومن الأدناس التخلق بأخلاقه، إنه هو الرحمن الرحيم بجميع الخلائق والعوالم، وإنه رب العالمين، الغيب والشهود، وإنه مالك يوم الدين في الدنيا والآخرة، وإن بيده كل شئ، وإليه يرجع كل شئ، وإنه كل الكمال وكله الكمال، وكل الجمال وكله الجمال، ولا كمال ولا جمال إلا كماله وجماله. فعندما تيقنت بذلك، وبلغت إلى شهوده في تلك المراحل والمنازل، فهلا تقول: إياك نعبد كذبا وافتراء، ولتكن في حذر من ذلك، فعليك الاجتهاد والجد في الوصول إلى غاية المأمول لأصحاب العقول والإيقان، ولأرباب الشهود والعرفان، وهو أن تقول: إياك نعبد خالصا، ولا شئ وراءه في هذه العبادة والطاعة في جميع الحلقات المحيطة بها، ولا تخطر في قلبك من أحد شيئا، ولا تخاف من غير العزيز الجبار، المنطوي في جبروته مالكية غيره وقاهرية سواه، فبعد الإقرار والاعتراف بتلك الحقائق والرقائق، وبعد الإذعان بأن رب السماوات العلى والأرضين السفلى، هو الحميد الغني، وهو المالك وهو الرحمن الرحيم، فلا يجوز في شرع الحقيقة والعرفان اشتراك الغير في عبادته بأي وجه كانت الشركة، وهكذا الاستعانة بالغير، بل يرى في هذا الموقف أنه لا يتمكن الفقير من إعانة الفقير، والممكن من إعانة الممكن.

فإذا وصل القارئ السالك إلى هذا المقام، وهو مقام الجمع بين الغيب والشهود، ومقام الانس مع الرب الودود، فيترنم بقوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) حاصرا ذلك فيه، وإن لم يكن التقديم للحصر، ولكنه يجب عليه إرادة الحصر وقصد الانحصار، بل العبد السالك الفاني عن تعينات المادة وحدود الشهوات والمدة، لابد وأن يسعى في المقامات الاخر الخاصة بالعارفين بالله، والكاملين في ذات الله، والمخلصين في توحيد الله، وكل ذلك رشح من رشحات معرفته بالله في التوحيدات الثلاثة، التوحيد الذاتي والصفاتي والأفعالي، فإن التوحيد في العبادة ظل هذه التوحيدات وصورة تلك الوحدات، وعليك بالتجريد والتفريد أولا وبالشهود والعرفان ثانيا، حتى يتمكن العبد من توحيده في العبادة على الوجه اللائق به، وإن حكي عن سيد البشر (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنت كما أثنيت على نفسك، ما عبدناك حق عبوديتك، وما عرفناك حق معرفتك " (1).

فإذا وصلت إلى هذا المقام، يظهر لك أن للعبودية ظهورا في جميع العوالم وفي مختلف نشأت العبد، من نشأة العقل والروح إلى القلب والطبع، ومن رأسه إلى قدمه، وفي جميع حركاته وسكناته. ولعل إلى بعض هذه الدرجات أشير في حديث عنوان البصري وقال " وهو أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوله الله ملكا، لأن العبيد لا يكون لهم ملك، بل يرون المال مال الله يضعونه حيث أمر الله، وأن لا يدبر لنفسه تدبيرا، وأن يكون جملة اشتغاله بما أمره الله تعالى به ونهاه عنه، فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوله الله تعالى ملكا، هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه، وإذا فوض العبد تدبير نفسه إلى مدبره، هان عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد فيما أمره الله تعالى ونهاه، لا يتفرغ منهما إلى المراء والمباهاة مع الناس، فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاث هان عليه الدنيا والرئاسة والخلق، ولا يطلب الدنيا تفاخرا وتكاثرا، ولا يطلب ما عند الناس عزا وعلوا، ولا يدع أيامه باطلا، فهذا أول درجة المتقين " (2) الحديث. فبالجملة: أن يرى العبد نفسه وجميع العالمين من جميع الجهات، فقراء إلى الله الغني عن الكل من كل الجهات، فإذا يوجه خطابه إلى الذات، ويرى أن هذا الخطاب من الإمدادات الغيبية ومن التوفيقات الإلهية ومن الإعانات الربانية، فعند ذلك كيف يرتضي بالتشريك في العبادة وبالرياء والسمعة وغير ذلك من الأمراض النوعية القلبية ؟! أعاذنا الله تعالى من شرورها بمحمد وآله الطاهرين.


1- راجع مسند أحمد 1: 96 و 118 و 150، سنن ابن ماجة 2: 1263 / 3841، سنن الترمذي 5: 187 / 3562 و 3563، بحار الأنوار 68: 23 / 1، مرآة العقول 8: 146 / 1.

2- بحار الأنوار 1: 224 - 225.