المسائل الفقهية

المسألة الأولى: حكم العبادة غير الخالصة ربما يستشم من هذه الآية: أن عبادة غير الله باطلة، وعبادة الله للأغراض الاخر - كالجنة والنار - أيضا باطلة، لأنه لا ترجع إلى عبادته، بل هي العبادة المعللة، ويكون الغرض الأعلى هو المقصود بالأصالة، فكأنه يعبد تلك الأغراض والأمراض. وما قيل هنا: بأن الواجب العبادة الخالصة (1)، غير مرتبط بهذه الآية، فإنها لو كانت تدل على بطلان غير الخالص لله، فلابد من أن يستند إلى التقريب المزبور. وأسوأ حالا من ذلك استدلال هذا القائل - وهو الفاضل المعاصر - بقوله تعالى: (فاعبد الله مخلصا له الدين) (2)، قائلا بورود النهي عن تلك العبادات (3). ولست أدري ماذا يقول هذا المفسر المعروف في عصرنا ؟! فأي ارتباط بين الآية الشريفة والنهي ؟! وكيف تدل الآية على بطلان غير الخالص ؟! فإن العبادة إذا كانت ذات مراتب، فلا مانع من كون النظر في هذه الآية ونظائرها إلى الدرجة العليا منها.

فبالجملة: يتم القول ببطلان العبادة المزبورة مستندا إلى الكريمة الشريفة، بدعوى أن غيرها ليس عبادة حقيقة، والحصر يفيد البطلان. وأنت قد أحطت خبرا بأن تقديم ما حقه التأخير، لا يفيد الحصر، فضلا عن تقديم ما يمكن تأخيره. ثم إن مقتضى بعض النصوص والفتاوي صحة عبادة العبيد والاجراء (4)، فلو دلت الآية على البطلان فلا يقاومها غيره، إلا إذا كانت دلالتها عليه لأجل الإطلاق، فإنه عند ذلك لنا التمسك بالأحاديث لتصحيح مثل تلك العبادات. ثم إن عموم الناس يعبدون الله خوفا من النار وطمعا في دار القرار، فكيف يمكن الالتزام ببطلانها ؟! فيكفي لصحة العبادة كون النظر في الحلقة الأولى إلى الله، وأما الدواعي الاخر في سائر الحلقات من وجود تلك العبادات، فهي لا تضر بالصحة، لأن العبادة تقع في الحقيقة له تعالى، وتلك الأغراض علل ووسائط في الثبوت، من غير كون الواسطة مورد العبادة، ولذلك ورد التوبيخ والتثريب بالنسبة إلى عبدة الأصنام والأوثان، مع أنهم كانوا ناظرين في عباداتهم إلى التقرب من الله تعالى (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون) (5)، فلو كان الغرض مورد العبادة حقيقة، لما كان وجه لزجرهم عن تلك العبادة، فيعلم من هنا أن الأغراض والعلل ليست حقيقة مورد العبادة، نعم هي الدواعي الشيطانية والدنيوية الباعثة نحو العبادة ونحو الخضوع والخشوع لله تبارك وتعالى.

وبالجملة: عبادة غير الله لأجل التوصل به إلى الله تعالى ليس جائزا، بدعوى: أن هذا هو في الحقيقة عبادة الله تعالى، كما لا يخفى على أهله. ومما يشهد لذلك: أن الأمر بالمعروف واجب، ومن موارده الأمر بالصلاة، فلو كان تارك الصلاة لأجل الأمر بالمعروف والخوف من الأمر يصلي ويصوم، فيلزم كون ذلك من الأمر بالمنكر إذا كانت عبادته باطلة، مع أن الضرورة تنفيه، فيعلم أن المناط في صحة العبادة شرعا وفقها، كون إرادة العبد في عبادته متوجهة إلى الله تعالى، فيعبد الله، وإن كانت تلك الإرادة لا توجد في نفسه بداع من الدواعي الإلهية، وبغرض يرجع إليه تعالى وتقدس.

من الممكن إرجاع تلك الدواعي إلى الدواعي الإلهية، لأنه تابع لأمر الشرع ونهيه، فإذا ورد في الشرع الأمر بتحصيل الجنة والفوز بها والنهي بالاستبعاد من النار فهو ينظر - في عبادته وتلك الدواعي - إلى الله تعالى وأوامره ونواهيه، فلا يكون غير الله في جميع الحلقات، كما ينظر المستأجر على العبادة إلى وجوب تحصيل العيش لأهله، فيعبد الله وفي ذلك امتثال أمره الآخر، وهو تحصيل المعيشة لأهله ونفسه، مع أنه ينظر إلى امتثال الأمر الإيجاري الذي يجب الوفاء به شرعا أيضا، فافهم واغتنم، وكن من الشاكرين. المسألة الثانية حكم الاستعانة بغير الله تعالى هل يجوز الاستعانة بغير الله تعالى مطلقا، أم لا يجوز مطلقا، أو يفصل، فيجوز في الأمور العادية والمادية والمعنوية الدنيوية، ولا يجوز في الأمور الأخروية، وفيما يرجع إلى اتخاذ المستعان مألوها.

وغير خفي: أن ذيل هذه المسألة ينجر إلى مسألة الشفاعة، وهي مسألة طويلة الأذيال، تأتي بحوثها الهامة في المقامات المناسبة. والذي هو مورد النظر هنا: هو أن قضية حصر الاستعانة بالله تعالى عدم جواز الاستعانة بغيره، من غير نظر إلى سائر العناوين، فيكون النظر هنا إلى مسألة الاستعانة وعنوانها الذاتي وحكمها الفقهي. فمن الممكن دعوى ممنوعية الاستعانة بالغير للحصر المستفاد من الآية الكريمة أولا، ولما روي عن ابن عباس " إذا استعنت فاستعن بالله " ثانيا، ولأن من استعان بغيره في المهمات بل وفي غيرها، فقد استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم، أفلا يستعان به وهو الغني الكبير! أم كيف يطلب من غيره والكل إليه فقير ؟! وإني لأرى أن طلب المحتاج من المحتاج سفه من رأيه وضلة من عقله، فكم قد رأينا من أناس طلبوا العزة من غيره فذلوا، وراموا الثروة من سواه فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتضعوا، فلا يستعان إلا به تعالى وتقدس، ولا عون إلا منه تبارك وتعالى (6).

وأما ما ورد من الأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة في سورة البقرة - آية 45، فهو ليس من الاستعانة بغير الله بعد ما كان هو بأمر الله تعالى أولا. وإن الاستعانة بالله ليس لها مصداق إلا الصبر والاشتغال بمناجاة الله وعبادته ثانيا. وأما ما ورد من الأمر بالتعاون في (السورة الخامسة آية 2) فهو لا يستلزم جواز الاستعانة بالغير، فإن المنحصر فيه تعالى هو الاستعانة، دون الإعانة والتعاون، فله أن يستعين به تعالى واستجابة دعائه بإعانة الغير إياه في أمره وحاجته، فلا تنافي بين الآيتين حتى نحتاج إلى الجمع. وأما ما ورد في السورة الثامنة عشر - آية 95: (قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة) فهو لا يدل على جواز الاستعانة بغيره، لما أنه حكاية عن قول ذي القرنين، ولا برهان على أن جميع أقوالها وأفعاله كانت صحيحة، مع أن ممنوعية الاستعانة بغيره تعالى من خصائص هذه الأمة المرحومة إمكانا. ومن العجيب توهم بعض المعاصرين: أن المقصود هي الاستعانة فيما يرتبط بالعبادة، فإنها مقصورة عليه تعالى، لا في سائر الأمور والأفعال (7)، وقد فرغنا عن عموم المسألة سابقا، مع أن جواز الاستعانة بالغير للاقتدار على العبادة وللاهتداء إلى كيفيتها من الضروريات عندنا، بل ربما يجب ذلك إذا كان جاهلا بكيفية العبادة، فإنه يجوز له أن يستعين بغيره في الاطلاع على تلك الكيفية وفي الاقتدار عليها.

والذي تقرر منا: أن الضرورة قاضية بجواز الاستعانة بالغير، وعليها معاش العباد في البلاد، وعليها السيرة القطعية من المسلمين وغيرهم، فعلى هذا: إما أن يراد من الآية الشريفة معنى غير الحصر، كما هو غير بعيد جدا، وقد مضى أن أبا حيان صرح بذلك (8). أو يقال: بأن التمسك بالغير في طائفة من الأمور غير جائز، والاستعانة فيما يرتبط بشؤون الألوهية وبالمسائل الأخروية والمعنوية غير صحيحة. أو ينحصر فيما كانوا يستعينون بالأوثان قبل الإسلام وفي عهد الشرك والظلام، كطلب ازدياد الأرزاق، وكمسألة الأولاد، والسعادة والشقاوة، وغير ذلك. أو ينحصر جواز الاستعانة بالغير في المسائل الراجعة إلى المشافهة والمخاطبة مع المستعان والمقابلة معه في الخارج، كما إذا استعان زيد بعمرو في عمل، وأما إذا انقطع من عمرو ويرى أنه لا يتمكن من مأموله ومقصوده، فلا يجوز أن يرفع يده إلى غير الله من الأموات أو الأحياء الغائبين، عند المعتقد استماعه لدعائه، أو غير ذلك من الوجوه العرفانية والعقلية التي شرحناها في محلها، من أنه لا تقع الاستعانة - حسب التكوين - بغير الله تعالى وغير ذلك، فافهم وتدبر جيدا. المسألة الثالثة حكم أخذ الواسطة في العبادة قد عرفت منا فيما سبق جواز الإنشاء بالقراءة وفي الصلاة، وأن السالك له أن يحمد الله ويمدحه، ويخاطبه ويبرز ما في ضميره، ويظهر ما في قلبه ودركه بتلك الجمل الشريفة الإلهية القرآنية.

وأيضا قد سبق أن أشرنا: إلى أن المخاطبة بمعناها الحرفي، وهو إيجاد الخطاب إلى الغير يستتبع تصوير المخاطب، ولا يعقل خلاف ذلك، لا في الشعر ولا في النثر، لا في النوم ولا في اليقظة، فجميع الخطابات تستعقب المخاطبات المرسومة في النفوس. فعند ذلك فهل تتعلق العبادة والاستعانة بذلك، أم تكون تلك الصورة فانية في الخارج، ويؤخذ اسما وحاكيا ومرآة لما فيه، ومسلكا وسبيلا وطريقا إليه من غير كونها منظورا فيه؟فإذا صح أن نرسل عبادتنا بالواسطة إلى الخارج، ويقع الخارج موردها حقيقة ومعبودنا واقعا، فتلك الواسطة كما يمكن أن تكون الصور الوهمية والمفاهيم الذهنية الحاكية الفانية، فهل يصح أن تكون غيرها، فيجوز رسمها في النفس حكاية من الخارج ومن المعبود الحقيقي، أم لا يصح؟وجهان. والحق أن النفوس الضعيفة لا تتمكن من إمرار عملها إلى خارجها وإلى محاكاتها في العين، أي تقصر عن الأخذ بها وسيلة وواسطة وفانية، فلابد من منعها عنها. نعم إذا تمكنت نفس من هذه الرقيقة، بحيث يكون عنده كلمة " الله " وصورة موجود خارجي واحدة في الاسمية، أو تكون الصورة العينية أقوى من تلك الكلمة، فلا دليل شرعا على منعها، ولعل الأمر بجعل أحد الأئمة نصب العين - كما قيل (9) - محمول على هذه المواقف، وناظر إلى تلك الآحاد والأفراد، والمسألة مع ذلك كله عندي مشكلة جدا، لاستيحاش الناس من مثله، والله هو المحيط.


1- تفسير الميزان 1: 26.

2- الزمر (39): 2.

3- تفسير الميزان 1: 26.

4- راجع وسائل الشيعة 1: 45 - 46 و 59 - 61 كتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات، الباب 9 و 18.

5- الزمر (39): 3.

6- روح المعاني 1: 85.

7- تفسير الميزان 1: 26.

8- البحر المحيط 1: 24.

9- انظر الفقه المنسوب إلى الرضا (عليه السلام): 105.