علم الأسماء والعرفان

وهنا دقائق:

الدقيقة الأولى: حول ما يرتسم في الذهن عند مخاطبته إن العبد السالك: تارة يقرأ ويقول: (إياك نعبد وإياك نستعين) من غير نظر إلى المخاطبة، وأخرى يخاطب الله تبارك وتعالى بقوله. فعلى الأول: فلا شئ عليه ولا يحصل له منه شئ إلا سقوط الأمر والتأدب في القراءة. وعلى الثاني: فما يخطر بباله في خطابه ؟! وكيف يعقل أن يخاطب والخطاب متقوم بالمخاطب، ولا يرتسم في ذهنه ونفسه أو قلبه شئ ؟! أما عدم الارتسام فهو غير ممكن، وأما إذا ارتسم فهو غيره تعالى، فتكون العبادة باطلة ومحرمة، ويصير مشركا، وحاله من الأول أسوأ، فهل هذا يدل على عدم جواز المخاطبة، أو ينحصر الجواز بمن يتمكن من مخاطبة الله بالمشاهدة الحضورية، بحيث لا يتوسط بينه وبين مخاطبه شئ، أو الآية - بعد جواز المخاطبة - تدل على التوحيد الذاتي المستتبع للتوحيد الصفاتي والأفعالي، فيكون ما اشتهر: أن ليس في الدار غيره ديار، صادقا، فلا يقع الخطاب إلا عليه تعالى وتقدس برفض الحد والأخذ بالمحدود؟جلوه أي كرد كه بيند بجهان صورت خويش خيمه در آب وگل مزرعه ء آدم زد (1) (الله نور السماوات والأرض) (2)، (وهو معكم أينما كنتم) (3)، (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) (4). أم هنا وجه آخر سيأتي في بحث الفقه، وهو أن المخاطبة لا تعقل إلا بالترسيم، ولكن الرسم: تارة يلاحظ بمعناه الاسمي وينظر فيه، ويؤخذ للعبادة، وأخرى يلاحظ مشيرا إلى الخارج وبمعناه الحرفي والآلي وينظر إليه، فإن الأول هو الباطل، والثاني هو وجه الله، فيسري الخطاب منه إليه، ويكون هو المرآة، وعند ذلك يلزم جواز كل شئ اسما له تعالى ووجها، بل المعلول التكويني العيني أولى بذلك من الألفاظ الموضوعة، فاغتنم.

الدقيقة الثانية: حول تذكر النبي حال العبادة قد نسب إلى طائفة من الصوفية ترسيم الشيخ وعبادة صورته، وجعل صنمه في قلوبهم، وإحضار طلسمه حذاء نفوسهم، حال العبادة والقيام بالوظيفة، وربما تعد هذه الطائفة من الملاحدة والأرذلين أعمالا، لخروجهم عن ربقة التوحيد وحقيقة التجريد والتفريد، وانسلاكهم في زمرة عابدي الأوثان والأصنام وعاشقي الأقشار والأزلام، عليهم لعائن الله الملك العلام. وربما يتمسك لتوجيه مسلكهم وتنظيف مرامهم (5): بأن في بعض من الأخبار الرضوية قد ورد الأمر بذلك بقولهم: " اجعل أحد الأئمة نصب عينيك " (6)، وفي آخر: أن الصادق (عليه السلام) كان يتذكر رسول الله قبل صلاته (7). ويتوجه عليه: أن تذكره (عليه السلام) ما كان بمعنى الارتسام بصورة الشيخ، بل هو المذكور في الأدعية بعد الأذان، وهو أن المؤذن بعده وقبل الإقامة يقول: " اللهم اجعل قلبي بارا، وعيشي قارا، ورزقي دارا، واجعل لي عند قبر نبيك (صلى الله عليه وآله وسلم) قرارا ومستقرا " (8). وأما الخبر الأول، فهو غير مذكور في الجوامع المعتبرة، وما رأيته إلا في بعض تفاسير منسوبة إلى تلك الطائفة (9). نعم هنا توجيه لطيف أشير إليه وهو: أن عبادة كل أحد لا يمكن إلا بتصوير شئ حاك عنه ومرآة له، ويشير إليه، ويكون وجها من وجوهه، وهو إما يكون من المفاهيم الكلية الاختراعية التي لا موطن لها إلا الذهن، أو من قبيل الألفاظ الموضوعة لتلك الذات المقدسة، والذي هو الأوفق بالاعتبار إذا أمكن العبور عنه وإذا لم يسكن سفينة السالك لديه، أن يلاحظ ما هو أحسن الوجوه وأكشف الوجوه وأرسمها وأزينها وأحكي منها، ولا ريب أنه هو الحقيقة المحمدية والرقيقة العلوية، فلا يرجع ذلك إلى عبادة غيره تعالى، بل هذا في الحقيقة عبادة الله تعالى، كما لا يخفى على أهل البصائر والدرجات.

الدقيقة الثالثة: حول الاستعانة بالغير إذا ترنم السالك بقوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) فلابد من أن يكون صاحب التوحيد الذاتي، حتى لا يقع استعانته عن غيره - في الصورة والظاهر - استعانة عن غيره، بل تكون هي الاستعانة منه عز وجل. وبذلك ينقدح لديه: أن الأمر بالتعاون بعضهم مع بعض، والأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة، لا ينافي حصر الاستعانة فيه ومنع ذلك عن غيره، وذلك لأن المقرر في محله والمحرر عند أهله: أن الواجب الوجود ليس هو الوجود الخاص، كما زعم أبناء الحكمة، وله الوجود اللابشرط القسمي، بل هو الوجود اللابشرط المقسمي (10)، وهذا هو الظاهر من الكتاب العزيز من إثبات المعية القيومية لنفس الذات، دون ضيائه وأنواره (11). أي آنكه ترا بهر مقام نامى وى آنكه بهر گمشده أي پيغامى كس نيست كه نيست بهره مند از تو ولى اندر خور خود بجرعه أي يا جامى فعلى ما تقرر وتحرر واستبان وبان: لا يكون الاستعانة من الغير إلا عند ضعفاء العقول وعميان القلوب، وإذا ورد في الكتاب والسنة ما يكون ظاهرا في غير ما بسطناه، فهو لأجل أن نوع المخاطبين والقارئين من هذه الزمرة، وأما الثلة الثالثة وهم أصحاب اليمين، فلهم مشاهدات جلية من غير حاجة إلى الترسيم والتجسيم، ولنعم ما قيل: " لا يصلي أحد إلا وقد كفر بعد ما آمن وآمن بعد ما كفر "، وسر هذا الأمر المستتر: هو أنه عندما يصل إلى قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) يتزعم غيره ويعبد، وبزعمه يكفر، ولكنه ليس بكافر واقعا، ويخرج عن الكفر في الركوع والسجود شرعا وظاهرا، والله هو الولي، وبه نستعين، وعليه التوكل والتكلان.

الدقيقة الرابعة: حول مسألة " وحدة الوجود " ربما تكون الآية الشريفة رادعة عن مقالة نسبت إلى ظواهر كلمات جمع من الصوفية، وطائفة من القائلين بوحدة الوجود والموجود، فلو كانت تلك المقالة حقا لما كان وجه للأمر بالعبادة، ولقوله: (إياك نعبد وإياك نستعين)، للزوم اتحاد العابد والمعبود، وللزوم استكمال الذات الأحدية بالعباد. ولهذا وأمثاله قيل: إن القائلين بوحدة الوجود لو التزموا بلوازم مقالاتهم يندرجون في الفرق الضالة، ويجب الاجتناب عنهم، وينسلكون في أهل الضلال، فلا يجوز معاشرتهم، وهكذا (12). وإني لست في موقف تحرير تلك الوحدة، وأن الالتزام بوحدة الوجود يلازم الالتزام بوحدة الموجود، وأن ذلك لا يستلزم تلك اللوازم، ولكن نؤمي إلى المسألة بالمثال - تو خود حديث مفصل بخوان از أين مجمل -: اعلم: أن الماء في عالم الأرض متكثر حسب الظروف المختلفة، من البحار والأنهار إلى مياه الظروف، وتلك الكثرة تضمحل وتفنى بزوال تلك الظروف والأواني، وبفناء تلك الحوائل والحواجز، ولا شبهة في أن كل واحد من المياه المحدودة ناقص، ويكون النقص من قبل الأواني والظروف، وإلا فلا نقص حقيقة في نفس المياه، كما لا كثرة فيها كذلك، فإذا يجب رفض هذه القشور والجلابيب عن كل واحد من تلك المياه بالجد والاجتهاد، حتى يحصل لهم الوحدة الكاملة، ويرجعون إلى أصلهم، بطرح الثياب السود وطرد الحدود والقيود، فمن يتوهم الوحدة الذاتية للوجود يعتبر العناوين أسباب الكثرة، ويلزم على المحدود مع حفظ الحدود للعبادة والثناء، حتى يتخلص من تلك القشور والثياب السيئة المحدودة، فيكون الأمر من الأصل محمولا على ذلك. وغير خفي: أن المثال مقرب من جهة مبعد من جهات، ولا ينال قلب الأوحدي من هذه التنظيرات إلا لبها ومخها، وقلب الفاسق يتوجه من هذه التمثيلات إلى قشرها ومواضع المناقشة فيها، والله يهدي إلى دار الثواب ومحل الرشاد. فعبادته تعالى والاستعانة منه تبارك وتقدس، لا تنافي تلك المقالة. عصمنا الله من الزلل، وآمننا من الفتن، وطهرنا من الدنس. اللهم أذهب عنا الرجس وطهرنا تطهيرا. وأيضا غير خفي: أن الكثرة السارية إلى طبيعة الماء، حصلت من الحواجز والظروف التي تكون طبيعة الماء فيها، ككون الشئ في المحل، وأما الكثرة الجارية في طبيعة الوجود وحقيقته، فهي ليست مستندة إلى ما يعد محلا لها بحسب الأعيان والخارج، بل هي تستند إلى ما يعرضها - من وتو عارض ذات وجوديم - فكيف يعقل حصول الكثرة الحقيقية لها بتلك المكثرات العارضة ؟! نعم هذه الكثرة وهمية غير فكية - كما تقرر في العلم الطبيعي - مثل اللون المختلط الوارد على الجسم الواحد، فإنه يورث انقسام الجسم إلى الكثير، ولكنه ليس بانقسام حقيقي وبكثرة واقعية بل هي وهمية غير فكية، ومثل الظل والفئ فلا تغتر بما في صحف الآخرين. ثم اعلم: أن في رواياتنا ما نسب إلى صادق آل محمد - صلوات الله تعالى عليهم -: " أنه (عليه السلام) كان يصلي في بعض الأيام فخر مغشيا عليه في أثناء الصلاة، فسئل بعدها عن غشيته؟فقال (عليه السلام): ما زلت أردد هذه الآية حتى سمعتها من قائلها " (13). وتوهم بعض العارفين: أنه يشير إلى أن لسان الصادق (عليه السلام) صار كشجرة الطور عند قول: (إني أنا الله) (14). ويمكن أن يتوهم متوهم آخر: أنه يريد أن يدعي المكاشفة، فسمع من الله العزيز، أو من جبرئيل. وهنا دقيقة أخرى ربما ينتقل إليها أفكار القارئين، بعدما سمعوا منا هذه الأساطير، قلم اينجا رسيد وسر بشكست. من گنگ خواب ديده وعالم تمام كر من عاجزم ز گفتن وخلق از شنيدنش ولتلميذه الكبير: هم دعا از تو أجابت هم ز تو ايمنى از تو اهابت هم ز تو (15)

الدقيقة الخامسة: تقدم الاستجابة على الدعاء للسالك بعين البصيرة أن يتنبه ويتوجه - من هذه الآيات الشاملة لأنواع الأثنية - إلى إن الاستجابة قبل الدعاء، وأن الإفاضة القديرية القديمية قبل الاستفاضة الحادثة الواقعة عن الاستعمال، كيف لا، وقد دعوا الله مخلصين بالاستعانة وطلب الإعانة، وأجيبوا قبل ذلك بالاقتدار على تلك التضرعات والاهتداء إلى تلك العبادات والثناءات، فهل يعقل أن يتمكن الممكن من إصدار فعل من غير إعانته تعالى ؟! فإذا لابد من الإقرار بأن الإجابة قبل الاستجابة، لا معه ولا بعده. تحت هر الله تو لبيك ما است أين همه گفت وشنودت پيك ماست وإلى مثله يرجع سر التقديم والتأخير. وإن شئت قلت: إن شرط الاستجابة هو الدعاء، ولكن الشروط ثلاثة، منها الشرط المتأخر، وقد فرغنا عن تصويره وتصحيحه في الأصول (16). أو قلت: إن الطلب على أقسام، ومنها الطلب الذاتي، كما في طلب الماهيات وقافلتها للوجود والظهور ولكمال الوجود، فيكون الاستجابة في الرتبة المتأخرة جوابا عن السؤال في الرتبة المتقدمة، أي الأعيان الثابتة اللازمة للذات، طلبت منه كل شئ تستحقه في تلك المنزلة الرفيعة، فأنعم الله عليهم، وحيث تكون تلك الأعيان أيضا من الحق الأول ورد في الدعاء: " يا مبتدئا بالنعم قبل استحقاقها " (17).

الدقيقة السادسة: حول الأسفار الأربعة المعنوية اعلم أن للإنسان غير هذه السفرة المادية، سفرة معنوية، وهذه السفرة في لحاظ واعتبار تنقسم إلى أربعة:

الأولى: من الخلق إلى الحق، وبدايته من النفس إلى الوصول إلى الأفق المبين، وهو نهاية مقام القلب ومبدأ التجليات الأسمائية.

الثانية: هو السير في الله - بالاتصاف بصفاته والتحقق بأسمائه - إلى الأفق الأعلى ونهاية الحضرة الواحدية.

الثالثة: هو الترقي والسير إلى عالم الجمع والحضرة الأحدية، وهو مقام " قاب قوسين "، فلا تبقى الاثنينية، فإذا يطلع مقام " أو أدنى "، وهي نهاية الولاية.

الرابعة: هو السير بالله من الله إلى الخلق للتكميل، وهو مقام البقاء بعد الفناء والفرق بعد الجمع. إنتهى ما قيل. ولنا تفصيل في هذه الأسفار، مسطورة في كتابنا " القواعد الحكمية "، ربما تأتي المناسبة الأقوى فنذكرها، وهو غير هذا. وبالجملة: الغرض بيان: أن السالك - بعد السفرات الثلاث، تحت الأسماء الإلهية، وهي " الرب والرحمن والرحيم ومالك يوم الدين " - شرع في السفرة الأخيرة، وهو الحضور والإشعار به، والرجوع إلى الكثرة بعد اضمحلالها، والعدول إلى الخلق بعد الفناء في الحق، وهي السفرة الرابعة، وفي تلك السفرة يدعو الله مخلصا، ويريد منه أن يبقيه على حاله، وهو الصراط المستقيم وصراط المنعمين.

ثم ينفي سائر الطرق الثلاثة: المغضوب عليهم والضالين والفانين الغير الراجعين إلى الصحو بعد المحو، وسنزيد بيان ذلك بعونه وقدرته في أخيرة هذه السورة، حتى يعلم أن هذه السورة نموذج تلك السفرات، وسير الكاملين والصديقين.


1- لاحظ ديوان حافظ شيرازي، مطلعه: در أزل پرتو حسنت ز تجلى دم زد عشق پيدا شد وآتش به همه عالم زد.

2- النور (24): 35.

3- الحديد (57): 4.

4- المجادلة (58): 7.

5- بيان السعادة 1: 33.

6- انظر الفقه المنسوب إلى الرضا (عليه السلام): 105، وبحار الأنوار 81: 207 / 3.

7- انظر المصدر السابق.

8- الكافي 3: 308 / 32، وسائل الشيعة 4: 634 كتاب الصلاة، أبواب الأذان والإقامة، الباب 12.

9- يريد به تفسير بيان السعادة 1: 33.

10- مصباح الأنس: 52.

11- الحديد (57) 4 (وهو معكم).

12- العروة الوثقى، الطهارة، في النجاسات، الكافر، المسألة 2.

13- فلاح السائل: 365، المحجة البيضاء 1: 352.

14- المحجة البيضاء 1: 352.

15- مثنوى معنوي، دفتر دوم، بيت 692.

16- تحريرات في الأصول 3: 43 وما بعدها.

17- راجع جمال الأسبوع، السيد: 275.