الحكمة والفلسفة

وهنا مباحث:

المبحث الأول: حول حصر العبادة فيه تعالى ربما تدل الآية الكريمة الشريفة على أن العبادة لا تقع - بحسب التكوين وفي الأعيان والخارج - إلا لله تعالى، وذلك إما لأجل أن الظاهر إرادة حصر العبادة فيه أينما تحققت، فنعبده ولا نعبد غيره، لا على وجه الاختيار، بل سواء كان بالاختيار أو كان لا بالاختيار، وسواء كان بحسب الظاهر معبوده غيره، أو كان هو تعالى اسمه، أو لأجل أن السالك كلما تميز شيئا للعبادة فهو غيره تعالى، ومع ذلك تكون العبادة له تعالى، فيعلم من ذلك أن جميع العبادات تقع له تعالى، أي أن السالك يتصور حال الخطاب ما ليس هو هو، ومع ذلك يعد فعله عبادته تعالى، أو لأجل أن ضمير الجمع للاستيعاب، أي إياك نعبد أنا وجميع العابدين، فتكون الآية الشريفة دليلا على أنه تعالى كل الخيرات، وأن بسيط الحقيقة كل الأشياء وإن كان ليس بشئ من حدودها الناقصة الراجعة إلى أنفسها، وإلى ذلك يشير ما عن ابن عباس: أن القضاء في قوله تعالى: (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) تكويني (1). اگر مؤمن بدانستى كه بت چيست يقين كردى كه دين در بت پرستى است والله العالم. وإن شئت قلت: كأن الآية الشريفة توجه الناس إلى أن يعلموا أن ما كانوا يعبدون - من الأصنام والأوثان، ومن الأشجار والطلسمات، ومن الأحجار والممثلات - لا يرجع إلى غير الله تبارك وتعالى، فكأن كفرهم كان في التحديد والتقييد، ولو كان النظر إلى كل شئ بالعبرة وبجعله اسما من أسمائه، لما كان يلزم منه الكفر، إلا الكفر المشترك فيه جميع الناس، مؤمنا كان أو مشركا، وسيجئ زيادة توضيح في مقامه الأنسب، فإلى ربك فارغب.

المبحث الثاني: حول حصر الاستعانة فيه تعالى ربما تدل الآية الكريمة الشريفة على أن الاستعانة لا يمكن إلا من الله تعالى، وذلك لأن حصر الاستعانة فيه لا معنى له إلا برجوعه إلى حصر الإعانة واقعا وتكوينا فيه تبارك وتعالى. وبعبارة أخرى: قد أمر الكتاب العزيز بالتعاون، فقال: (وتعاونوا على البر والتقوى) (2)، وهذا لا يناسب حصر الاستعانة فيه، إلا برجوع الحصر إلى أن حقيقة المعاونة من الله والإعانة من الله وإرادة العبد من الخلق المتوسطة وبهذا يثبت التوحيد الأفعالي، ويستكشف نفوذ إرادته تعالى في جميع الأشياء، وأن كل فعل صادر من العباد وغيرهم، أنه تعالى ذو مدخلية فيه، على الوجه المقرر في الكتب العقلية (3) وفي قواعدنا الحكمية، فإن درك كيفية الدخالة صعب جدا. وبهذا التقريب تنحل معضلة المعارضة بين الآيتين، فإن الآية الأولى تدل على أن فيض الإعانة من ناحية المقدسة، والآية الثانية تدل على أن إرادة العبد ممر ذلك الفيض، وأنها رشح من تلك الإرادة الأزلية. ولو قيل: الآية ليست بصدد المسائل التكوينية، بل هي بصدد تفهيم كيفية عبادته تعالى، وكيفية التكلم معه في مقام المخاطبة، فلا تنافي بين أن يقول العبد في مقام إبراز الذلة والخضوع وفي موقف إظهار عظمة الرب: (إياك نعبد وإياك نستعين)، ومع ذلك يستعين بالآخرين. قلنا: كلا، لأنه في مقام تعليمه، وأنه لابد وأن ينسلك في هذه السلسلة من الداعين الصادقين في دعواهم، وليس ما يترنم به مجرد لقلقة اللسان، كما هو المتعارف الآن بين الخواص والعوام.

المبحث الثالث: حول رد القول بالجبر والتفويض قد استدل بها: على أن مقالة الأشعريين بالجبر فاسدة وباطلة (4)، ضرورة أن قيام العباد بالعبادة وإسناد الفعل إليهم وقيامهم بالاستعانة بالله، لا معنى له إلا كون الأفعال أفعالهم، وأنه تعالى يعينهم على الأفعال الصادرة عنهم، ففعل العبادة التي استعان فيها به تعالى، يصدر عنه بإرادته وبإعانته تعالى. فيبطل المذهب الآخر، وهو التفويض، ويعلم أن العابد يتصدى بنفسه للعبادة، وهو تعالى يعينه عليها، فلا يكون يتمكن من غير إعانته عليها، فلا يستقل في الإرادة وغيرها. وهذا هو الأمر بين الأمرين والمذهب الفحل واللبن السائغ للشاربين، فلا جبر ولا تفويض ولست أشعريا ولا معتزليا، بل حنيفا مسلما متوسطا على صراط مستقيم لا إعوجاج فيه ولا انحراف، والله المستعان. وإن شئت قلت: نفس طلب الاستعانة يكفي لرفع غائلة الجبر والتفويض. اللهم إلا أن يقال: بأن ترخيص المولى بالطلب وإسناد الفعل إلى النفس ليس إلا في الأفق الأدنى ومطابق لذوق العرف والعقلاء، وهذه المسائل عقلية نظرية لا تستكشف بالآيات، وتلك الانتسابات والنسب المجازية كثيرة، فلا يبطل بذلك الجبر.

وأما طلب الإعانة، فهو من قبيل استعانة العبيد بالموالي العرفية في أمور تلك الموالي وفيما يرتبط بهم وبنظامهم، أو يكون لصفاء النفس هذا النحو من الخطاب والتكلم مفيدا، فأمره تعالى بذلك، فشقاوة العبد وسعادته بيده تعالى، ولا مدخلية لإرادته ولا قدرته في ذلك، أو لا إرادة له ولا قدرة له رأسا حتى تكون ذات مدخلية في حاله من الشقاوة والسعادة، فاستنتاج نفي الجبر والتفويض - كما أفاده كثير من المفسرين - محل المناقشة والخداش، بل محل المنع والنقاش، لما أشير إليه، ولأن من الممكن أن يقال: إذا قال السالك: إياك نعبد، فهو دال على استقلاله في إرادة العبادة، وإذا قال: إياك نستعين، فهو يطلب منه أن لا يحدث مانع عن البقاء على تلك الحالة، فإن إعانته تعالى عليها برفع الموانع وسدها، لا بإيجاد المقتضيات، فتدل على استقلال العبد، فتأمل. ثم إن هنا رواية عن الصادق (عليه السلام) في رده على القدري: أنه أمره بقراءة الحمد فقرأها حتى بلغ (إياك نعبد وإياك نستعين) قال له: " وما حاجتك إلى المعونة، إن الأمر إليك، فبهت الذي كفر " (5) الخبر. وهو - مضافا إلى عدم ثبوت صدوره - قابل لأن يحمل على الجدال بالتي هي أحسن، ضرورة أن مقالة القدرية ليس معناها: أنه لا يجوز لهم الاستعانة بالغير أفلا يستعين الإنسان بغيره في أموره، مع أنه لا يكون معتقدا بنفوذ إرادته في أموره ولا باستيلائه على شؤونه. فلا مانع - مثلا - من كون إله العالم الخالق لكل شئ، مفوض الأمور إلى الخلائق، ويستعين الخلائق في أمورهم به، لدفع المضادات الوجودية والممانعات الممكنة، بل بوجه آخر، ولكنه ليس دائم التصرف، خلافا للحق الذي انجلى لك في محله فلا تغفل. فعلى هذا - كما هو الكثير في استدلالات المعصومين عليهم صلوات المصلين - يحمل الحديث على الاحتجاج وإرادة الاهتداء.

المبحث الرابع: حول مسألة سبق القدرة على الفعل ربما يمكن للمستدل أن يتوهم: أن هذه الآية الكريمة تدل على مقالة الأشعريين في بحث حقيقة القدرة، وأنها ليست قوة سابقة على الفعل، بل لها المعية (6)، خلافا للحق الذي لا ريب فيه، وهو تقدمها عليه، وذلك لأنه لا معنى لطلب المعونة منه تعالى، لأنه قد خلقها فيهم قبله. وبعبارة أخرى وكلمة وضحى: أن هذا الطلب بعد صدور العبادة منه لغو، ونفس هذا الطلب كاشف عن سبق إعانته عليه بإعطائه القدرة، فيكون الدعاء مستجابا قبله، وهذا ضروري الفساد، فإن الاستجابة بعد الدعاء. أقول: أولا: إن القواعد العقلية الواضحة لا تفسد ولا تبطل بالظواهر ولا بالنصوص. وثانيا: إنه يكون طالبا للمعونة بالنسبة إلى غير هذا الفعل، أو غير ما صدر منه بالضرورة، لأنه بعد وقوع الفعل لا معنى لطلب الإعانة، فيكون على هذا طلبه متوجها إلى ما يصدر منه، أو متوجها إلى إبقاء القدرة السابقة حتى يتمكن من الأفعال والأقوال. وثالثا: إن إعطاء القدرة من العلل الواقعة في سلسلة المقتضيات الأصلية، وأما طلب الإعانة فهو يرجع إلى دفع المضادات الوجودية، أو الإعانة على إيجاد المقتضيات غير الأصلية، مثل إعطاء العصا لضرب العدو. وأما مسألة استجابة الدعوات قبل الدعاء، فهي صحيحة لا مانع من الالتزام بها، لأن الأدعية تقع على الألسنة المختلفة، ومنها دعاء الذات، مع أن الكريم كل الكريم أن يسبق إلى الإجابة إذا كان يعلم بالدعاء المتأخر.


1- انظر التفسير الكبير 20: 184 والدر المنثور 4: 170.

2- المائدة (5): 2.

3- الأسفار 6: 369 - 379، شرح المنظومة: 178 - 181.

4- التفسير الكبير 1: 253، كشف المراد: 313، شرح المواقف 8: 158، نقد المحصل: 331، المطالب العالية 9: 294.

5- تفسير العياشي 1: 23 - 24 / 24، تفسير البرهان 1: 52 / 33.

6- تفسير البيان 1: 38.