البلاغة والمعاني

وهنا أمور:

الأمر الأول: في نكتة تأخير الثناء بإظهار العبودية، عن سائر الأثنية وقد أشرنا إليها سابقا وإجمالها هو: أن العبادة في المتعارف تقع لجهات:

الأولى: أن العابد يجد معبوده مستحقا ذاتيا لها، لما أنه موجود جامع لجميع أنحاء الكمالات، حتى يعد كله الكمال وكمالا كله، وكله الجمال وجمالا كله، فإذا يقوم بعبادته بعد ما يترنم بقوله: الحمد لله.

الثانية: أنه يجده موجودا كامل الأوصاف، رحمانا ورحيما بالخلائق، ومنعما متفضلا كريما جوادا بالنسبة إلى كافة الموجودات، من غير انتظار منهم لجزاء فإذا يقوم لعبادته بعد ما يبرز ويتفوه بقوله: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم) فلأجل تلك الذات الجامعة، وهذه الصفات الجمالية، تصح عبادته، وتجب طاعته والخضوع والخشوع له.

الثالثة: أنه يجده صاحب الأسماء الجلالية، وأنه الموجود الكامل والمنتقم المالك، أشد المعاقبين في موضع الانتقام والنقمة، وأرفع المتكبرين في محل الكبرياء والعظمة، يعذب من يشاء، فيجد في قلبه منه الخشية والرهب، ويتواضع له قهرا وطبعا لقهره وغضبه، ويترنم بقوله: (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين). ومن هنا يتوجه السالك إلى أن العبادة إما تكون لأجل الاستحقاق الذاتي، فتلك عبادة الأحرار، أو تكون لأجل النعم الظاهرية والباطنية، فتلك عبادة الاجراء، وإما تكون لأجل الخوف من النار والعقوبة، فتلك عبادة العبيد، وإلى هذه المراحل الثلاثة يشير ما عن أمير المؤمنين عليه صلوات المصلين (1).

وغير خفي: أن للعبادة أسبابا دقيقة أخرى، ربما تأتي الإشارة إليها في المقام المناسب، ولا تنحصر بهذه الجهات الثلاث، مثلا: ربما لا يكون العبد خائفا من عذابه ولا طامعا في نعمه ولا مدركا لاستحقاقه الذاتي، بل يعبد لطلبه منه العبادة وأمره استحياء منه جل وعلا، فلولا أمره وتوجيه الخطاب إليه وطلبه منه لما قام لعبادته. ثم إن معنى (مالك يوم الدين): إن كان أنه مالك العذاب والعقوبة، فهو يكون من الأسماء الجلالية، وإرعابا للخلق وإرهابا منه سبحانه، وأما إذا كان معناه الأعم من الجزاء بالجنة والنار، فلا يتم ما أفيد من النكتة المزبورة في نوع كتب التفسير، أخذا بعضهم من بعض، ولعل أول من أشار إليها الفخر (2).

وبعبارة أخرى: ربما يرجع مالكيته يوم الدين إلى نفي سلطة الأشرار على الأمور في الآخرة، قبال سلطتهم عليها في الدنيا، فتكون الآية الشريفة بصدد توجيه الناس إلى أنهم في الآخرة يستريحون من تلك الهموم والغموم، ومن هذه الاغتشاشات والهرج والمرج المترائي في بلاط السلاطين الجائرين، فتطمئن بذلك نفوس المسلمين والمؤمنين، فتكون الآية الشريفة من أسماء الجمال ومن تبعات الرحمات الرحمانية والرحيمية معنى، كما هي كذلك نزولا. فعلى هذا تسقط تلك النكتة المتوهمة في المقام، آخذين الخلف عن السلف عمياءا. والله يهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم.

الأمر الثاني: في وجه الالتفات من الغائب إلى الحاضر ومن الثناء بالجمل الغائبة إلى الجمل الحاضرة لا شبهة في أن الالتفات من المحسنات المعنوية، وفيه تطربة نشاط تحصل للمستمع من الافتنان، وقد تعارف في الأشعار والأنثار، ففي قوله تعالى: (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) (3) ثم قال: (إن هذا كان لكم جزاء) (4)، وقوله تعالى: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) (5). ولكن في المقام يستحسن الالتفات من الغيبة - بإظهار محاسن المحبوب والمقصود على نعت الكلي وذكر الاسم - إلى الحضور، بأن تلك الأثنية الكثيرة ليست لمن كان هو الغائب واقعا وغير حاضر ولا سامع، ففي هذا الالتفات بيان الكمال الآخر للمحبوب والمطلوب الحقيقي، وهو شهوده وحضوره الكلي على كل شئ.

هذا، مع أن المفاهيم الكلية الاسمية لا تخرج من الكلية بالتطبيق على مصاديقها، ولذلك لا يكون لها الأثر الجزئي والخاص، بخلاف المفاهيم الحرفية، فإذا قيل: نعبد الله ونستعينه، فإنه مفهوم كلي لا يقع عبادة حقيقة، بخلاف ما إذا قال: إياك نعبد، ونعبدك اللهم، فإن ذلك حقيقة العبادة. وبالجملة: الحضور والخطاب وإن كان لا يستحسن أحيانا لما فيه من سوء الأدب، ولكنه في مقام التذلل والتخشع والعبودية يستحسن، لتوغلها فيها بذلك، كما هو الظاهر. وبعبارة أخرى: إظهار العبودية بالخطاب عبادة عملية، وإظهارها بالغيبة عبادة قولية، والأول أرجح بالضرورة. وإن شئت قلت: بعد وصول السالك إلى قوله: (إياك نعبد) من غير تعرض لما هو المعبود، يريد أن يشعر بأن المعبود هو الذي وصفناه، ويظهر أنه في مقام إفادة أنه تعالى على كل شئ شهيد وحاضر، وعلى كل أمر محيط، فتقع هذه العبادة وهذا الخطاب له قهرا وطبعا.

الأمر الثالث: في وجه تقديم الضمير فعن جمع أنه يفيد الحصر، فيكون العبد في مقام اختصاص المتأخر بالمتقدم، فهو لا يقدم على العامل إلا للتخصيص. وفيه مناقشة وهو: أن الاهتمام يكفي للتقديم. وقيل: سب أعرابي آخر، فأعرض عنه، وقال: إياك أعني، فقال له: وعنك اعرض. فقدما الأهم والذي هو مورد اعتنائهما من غير نظر إلى الحصر (6). وربما يستدل على الحصر بما أفاده ابن عباس في معناه وهو: أنه لا نعبد غيرك (7)، وغير خفي ما في الاستدلال. وبناء على هذا يسقط البحث الآتي، وهو كيفية العلاج بين حصر الاستعانة فيه تعالى وجواز الاستعانة بغيره تعالى، كما لا يخفى. وهنا وجوه إبداعية ونكت اختراعية حول سبب التقديم وسر التأخير:

1 - تقديم ما هو مقدم في الوجود، فإنه تعالى مقدم على العابد والعبادة ذاتا، فقدم وضعا، ليوافق الوضع الطبع.

2 - تنبيه العابد من أول الأمر على أن المعبود هو الله تعالى الحق، فلا يتكاسل في التعظيم ولا يلتفت يمينا وشمالا.

3 - الاهتمام، فإن ذكره تعالى أهم للمؤمنين في كل حال، ولا سيما حال العبادة، لأنها محل وساوس الشيطان من الغفلة والكسل والبطالة.

4 - التصريح من أول وهلة، بأن العبادة له سبحانه فهو أبلغ في التوحيد، وأبعد عن احتمال الشرك، فإنه لو أخر فقبل أن يذكر المفعول يحتمل أن تكون العبادة لغيره تعالى.

5 - الإشارة إلى حال العارف، وأنه ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولا وبالذات، وإلى العبادة من حيث إنها وصلة إليه وراحلة يفد بها عليه، فيبقى مستغرقا في مشاهدة أنوار جلاله، مستقرا في فردوس أنوار جماله، وكم من فرق بين قوله تعالى للمحمديين: (أذكروني أذكركم) (8)، وبين قوله للإسرائيليين: (أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) (9) وغير ذلك مما توهموه، وقد جمع ذلك كله بعضهم آخذا نوعها من تفسير الفخر (10).

ومن الممكن دعوى: أن النظر إلى مراعاة السجع، وإلى اقتضاء البلاغة والفصاحة في الكلام ذلك، من غير نظر إلى المعاني، أو إلى دعوى الانحصار من غير كونه انحصارا واقعا، أي لا يدل الأسلوب حسب القواعد العربية على الانحصار، ولكن على السالك المترنم بتلك الأثنية البليغة، وهذه المحامد الكثيرة، أن يدعي حصر عبادته فيه تعالى، وهكذا حصر الاستعانة. نعم في الجملة الأولى هو هكذا واقعا، وفي الثانية هو الادعاء ولا واقعية له، لصحة الاستعانة بالغير، ولو قلنا: إن العبادة هي التذلل المطلق - كما مر تحقيقها - فيجوز ذلك لغيره أيضا، ولكن على العبد السالك يجب - بحسب عشقه له تعالى - انحصارهما فيه وإن لم يكن الأمر كذلك واقعا.

الأمر الرابع: في وجه الإتيان بضمير الجمع في قوله: " نعبد " فهل هو لأجل التأدب عن عد نفسه لائقا لمقام العبودية، أو لأجل أن العبودية صفة مشتركة في جميع ما سواه، فلا وجه للانفراد والاختصاص، أو لأجل التشرف بضم عبادته إلى عبادة غيره من الصالحين، واستعطافا بذكرهم مع نفسه، واحترازا عن الدعوى الكاذبة بطريق تغليب عبادات المخلصين على عبادته في دعوى الإخلاص، فيكون صادقا في تلك الدعوى، لأجل صدقهم؟وبعبارة أخرى: لأجل الإرشاد إلى ملاحظة القارئ دخول الحفظة، أو حضار صلاة الجماعة، أو جميع حواسه وقواه الظاهرة والباطنة، أو جميع أجزائه الملكية والمادية، أو جميع ما حواه الإمكان واتسم بسمة الكون والوجود (وإن من شئ إلا يسبح بحمده) (11).

وإن شئت قلت: إن من باع أمتعة مختلفة صفقة واحدة، فكان بعضها معيبا، فإن المشتري لا يصح له - على ما قيل - أن يقبل الصحيح ويرد المعيب، بل إما يقبل الجميع أو يرد الجميع. فكأن العابد أراد أن يحتال لقبول عبادته، ويتوسل إلى نجاح حاجته، فأدرج عبادته الناقصة في عبادة غيره من الأولياء والمقربين، وعرض الجميع - فضولة عرضة واحدة - على حضرة ذي الجود والإفضال، والحقيق بالعبودية والإجلال، وذلك لأن الفقيه يحتال حتى لا يعيد صلاته، ويظن ويعتقد أن الحضرة الأحدية عز وجل، أجل من أن يرد المعيب ويقبل الصحيح، وقد نهى - كما قيل - عباده عن تبعض الصفقة، ولا يليق بكرمه رد الجميع، فيقبل الكل - إن شاء الله تعالى -.

والذي يظهر من تاريخ النزول: أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام اجتماعا ويستعينون بها معا، فإذا توجهوا إلى التوحيد العبادي، ورجعوا إلى الخلوص في الدين والتعبد، وخضعوا له تعالى خاصا، نادوا بالنداء الاجتماعي وبصوت واحد جمعي: (إياك نعبد وإياك نستعين)، فلا يجوز في هذه الحالة إتيان الضمير المفرد، كما ترى الأمر في مشابهات هذا المقام ونظائره، فكأنهم بلسان واحد ندموا عما كانوا يصنعون، فاعتذروا بتوجيه عباداتهم واستعانتهم إلى خالقهم ومعبودهم، فترنموا بنداء واحد ظاهر غالب (إياك نعبد وإياك نستعين)، فنزلت السورة والآية الشريفة ملاحظة حال هؤلاء الأولين وتاركة خصوصيات أحوال الآخرين.

نعم يجوز للسالك الماهر أن يلاحظ - حال صلاته وقراءته - جميع ما مر من الخصوصيات والنكت، فيلاحظ صلاة العارفين، أو يردف عبادة الصامتين إلى عبادته، أو غير ذلك، بناء على جوازه شرعا حال القراءة كما مر تفصيله، فعند ذلك يبرز ويظهر ثناءه البليغ العبادي بقوله: إياك نعبد أنا وجميع أجزائي وأوصالي وأحوالي وآرائي أنا وجميع الناس، أنا وجميع الأشياء، أنا وجميع العقول والملائكة المقربين، وغير ذلك مما يخطر بقلبه، حال نشاطه الروحي وسروره القلبي وبهجته النفسانية، ولكن أنى ذلك بمعنى الآية الشريفة ؟!

الأمر الخامس: في سر تقديم العبادة على الاستعانة وقد ذكروا وجوها ربما تزداد على العشرة (12)، وتلك الوجوه تكشف عن اشتياق المفسرين إلى تزيين الكتاب السماوي بأنواع التزيين، وترمز إلى نهاية عشقهم بأن الكتاب الإلهي مشتمل على جميع المخترعات الوهمية الذوقية:

1 - فمنها: أن العبادة هي الأمانة المذكورة في الآية الشريفة: (إنا عرضنا الأمانة) (13)، فاهتم السالك بأدائها.

2 - ومنها: أن السالك لما نسب العبادة إلى نفسه، فكأنه توجه إلى أنانيته، فأراد كسر تلك الأنانية بذل السؤال عن العون والإعانة.

3 - ومنها: أنه لما نسبها إلى نفسه أراد أن يشير إلى كذب النسبة، وأن القوة والحول من الرب القادر.

4 - أن نهاية شوقه إلى القرب أوقعه في ذلك، فإن العبادة سبب تقربه، والاستعانة ليست هكذا.

5 - أن في العبادة خلوصا صرفا، لما لا ينتظر الإجابة، بخلاف الاستعانة، فإنه ينتظر معها الاستجابة، فكأنه دعاه تعالى لأجل الأمر الآخر وراء ذاته تعالى وتقدس، فلابد وأن يتقدم هذا وأن يتأخر ذاك.

6 - وغير ذلك مما يطلبه الفاحص عن الكتب المفصلة. ولو كان التنزيل بعكس ذلك، كان لنا أن نخترع وجوها وأسرارا لتقديم الاستعانة على العبادة:

1 - فمنها: أن العروج من النقص إلى الكمال يقتضي تقديم الاستعانة على العبادة، لأنها الغاية القصوى.

2 - ومنها: أن الخوف من السقوط والوقوع في التهلكة يوجب ذلك، ضرورة أن بدون إعانته الواقعية لا يتمكن من العبادة.

3 - ومنها: أن الدنيا مزرعة الآخرة، فلابد من التوجه إلى جميع النشآت، وإلى الأمر الجامع، وهو طلب الاستعانة والإعانة.

4 - ومنها: أن في تأخير العبادة ذكرا للخاص بعد العام، دون عكسه، والأول صحيح، دون الثاني، كما لا يخفى. فبالجملة: للإنسان المكار الحيال اختراع الوجوه لجهات مختلفة من الكلام، فلا ينبغي الاقتصار على هذه الأمور في هذه المواقف. والذي هو الأظهر: أن المشركين كان من دأبهم أن يتشبثوا بالأصنام ويتخذونها وسائط ويعبدونها ويستمدون منها وكأنهم يقفون حذاءها ويقولون: إياك نعبد وإياك نستعين، فجاء الإسلام ومنعهم عن ذلك ونهاهم، وأمرهم بأن يعبدوا الله الواحد القهار، من غير حاجة إلى تلك الوسائط وهذه الوسائل الدنيوية الضعيفة في الوجود والكمال، وأدبهم بكيفية العبادة، فقالوا: (إياك نعبد وإياك نستعين). وبعبارة أخرى: يعلم من الفاتحة ومن هذه السور ما كانوا يصنعون في عهد الجاهلية من الأفعال السيئة، فهي نسخة دوائهم، ونموذج يشير إلى دائهم الذي ابتلوا به في تلك الأعصار. وعلى هذا لا نظر في التقديم والتأخير بعد ذلك، نعم اقتضاء أسلوب الكلام والسجع هو تقديم مادة العبادة على مادة الاستعانة، لأن الكتاب العزيز دقيق النظر في هذا الميدان، ويلاحظ المحسنات اللفظية أكثر من أن تحصى.

الأمر السادس: في سبب تكرار حرف الخطاب قيل: إنه تعليم لنا في تجديد ذكره تعالى عند كل حاجة. وقيل: إن التكرار للإشعار بأن حيثية تعلق العبادة به تعالى، غير حيثية تعلق طلب الاستعانة منه سبحانه، ولو قال: إياك نعبد ونستعين، لتوهم أن الحيثية واحدة، والشأن ليس كذلك، إذ لابد في طلب الإعانة من توسط صفة، وليس كذلك في العبادة (14). وقيل: للتنصيص على طلب العون منه تعالى (15). وقيل: لدفع توهم الإخبار (16). وقيل: للتأكيد (17). وأنت خبير: بأن الالتزام بالجمع ممكن، فلا تكون القضية منفصلة حقيقية. والذي يظهر: أن مع النظر إلى ما مر والتدبر فيما اسلف، يعلم أن التكرار لأجل رفع توهم أن المستعان هي الأصنام والأوثان فلابد حينئذ من تكرار الأسماء الخاصة والأوصاف المخصوصة والضمائر حتى يقع المطلوب الأصلي في القلب، وتسجل النفس إياه، ويصير ملكة في الأرواح وركيزة في الذهن، ودفعا لأوهام الباقين في الشرك والضلال. هذا، مع أن العاشق لا يتكاسل من ذكر المحبوب والمعشوق، بل كلما ازداد ذكرا ازداد شوقا وحبا حتى يتخلى عن جلبابه. أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع ومن الجائز توهم توقف ابتهاج الإصغاء ولطف الكلام على الإطالة والإطناب دون الإيجاز، والله العالم بأساليب كلامه ولطائفه.

الأمر السابع: في ذكر وجه الإتيان بالجمع في " نستعين " اعلم أن أرباب التعرض للوجوه، لم يأتوا بشئ في المقام ولا يوجد في كلماتهم ما يفي بالمرام، وحيث قد عرفت منا الوجه الواحد الحق في الإتيان بالجمع في " نعبد "، فهو الوجه في هذا المقام أيضا، ومن هنا يعلم أن الوجه المزبور حقيق بالتصديق. وغير خفي: أن صنعة الابتكار وقدرة الاختراع والإبداع، ليست قاصرة في المقام عن تعديد وجوه الكلام لقوله تعالى: (نستعين): فمنها: أن العبد أدرج نفسه في زمرة الآخرين، استحياء من المخاطبة المستقلة. ومنها: أنه لطمع الاستجابة وعدم وقوع القبيح من الله العزيز، شفع دعاء الآخرين بدعائه، حتى لا يلزم التفكيك ولا يرد الكل، فتجاب دعوته. ومنها: أنه قد ورد الأمر أن ندعو للغير، لأنه بلسان لم يعص به (18)، فهو أقرب إلى الاستجابة، فيلزم إجابة الدعاء بالنسبة إليه أيضا. ومنها: أن السالك يعلم أن كل ممكن محفوف بالوجوبين، فكيف يستغني عن إعانة الواجب الحقيقي، فيرى حاجته وحاجة غيره من أجزائه العنصرية ومراتبه المادية والمعنوية وسائر الآحاد والأفراد الملكية والملكوتية إلى إعانته، فطلبها منه تعالى وتقدس. وغير ذلك مما يقف عليه أهل الذوق والفكر، وللمتقرب السالك سبيل ربه أن ينوي جميع هذه النكت والخصائص، رجاء الوصول والبلوغ إلى الغاية المقصودة، وله أن يخطر بقلبه بعين الشهود والعيان جميع الحقائق المرتكزة في الآيات، بأمل أن ينسلك في زمرة الأولياء.

الأمر الثامن: في أن حذف المستعان فيه دليل العموم وربما يقال: إن الحذف دليل العموم، إذا لم يكن الكلام شاملا للقيد السابق، وهو هنا العبادة، ولا خفاء في هذا التقييد، ويجوز ويصح الاتكال عليه. ومن العجب توهم " الكشاف " الاختصاص، وقال: " الأحسن أن يراد منه الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة " (19). انتهى. ولعله حذرا عن الإشكال الآتي في محله من: أن الحصر يستلزم ممنوعية الاستعانة بالغير، وهو غير صحيح، وقع في هذه المهلكة، غفلة عن إمكان الفرار منه من طريق آخر وهو إنكار إفادتها الحصر، مع أنك سترى كيفية حل المعضلة في المقام المناسب له - إن شاء الله تعالى -. والذي علمت منا: أن المشركين كانوا يعبدون آلهتهم والأصنام ويستمدون منها من غير اختصاص، وكانوا في مشاكلهم ومعضلاتهم يراجعون أوثانهم، ولا يخصون ذلك بالعبادة أو بحالها. نزلت السورة الشريفة في هذا الموقف، فيقيد العموم، كما سيأتي في مقام آخر، أن جملة (إياك نعبد) ربما تدل على حصر حقيقة العبادة بما إذا كان المعبود هو الله تعالى، دون العناوين الأخر، كالفرار من النار والفوز بالجنة، فإنه في هذه الحالات ليس هو تعالى معبودا حقيقة. فبالجملة: دعوى ظهور الجملة - مع قطع النظر عن اللوازم والملزومات - في العموم، قريبة جدا، حتى على القول بأن الواو حالية، فإنه لا يستلزم اختصاص المستعان فيه بالعبادة، كما لا يخفى.


1- نهج البلاغة، صبحي صالح: 702، حكمة 237.

2- التفسير الكبير 1: 236.

3- الدهر (76): 21.

4- الدهر (76): 22.

5- يونس (10): 22.

6- الجامع لأحكام القرآن 1: 145، البحر المحيط 1: 24.

7- أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 9، روح المعاني 1: 82.

8- البقرة (2): 152.

9- البقرة (2): 40.

10- التفسير الكبير 1: 246 - 247، تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 82 - 83، روح المعاني 1: 82.

11- الإسراء (17): 44.

12- انظر روح المعاني 1: 83.

13- الأحزاب (33): 72.

14- راجع روح المعاني 1: 85.

15- راجع البحر المحيط 1: 25.

16- نفس المصدر.

17- تفسير التبيان 1: 39.

18- عدة الداعي: 183.

19- الكشاف 1: 15.