اللغة والصرف

الناحية السادسة: حول قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾

وهنا مسائل:

المسألة الأولى: حول كلمة " إياك " " إيا " - بالكسر مع التشديد، وعليه اقتصر الجوهري (1). والفتح رواه قطرب عن بعضهم (2)، ومنه قراءة الفضل الرقاشي، على ما يأتي في محله على ما نقله الصنعاني، وتبدل الهمزة هاء مفتوحة، فيقولون: " هياك " - اسم مبهم تتصل به جميع المضمرات المتصلة التي للنصب، تقول: إياك وإياه وإياي وإيانا، وجعلت الحروف بيانا عن المقصود ليعلم المخاطب من الغائب، ولا موضع لها من الإعراب، فهي كالكاف في ذلك، فتكون " إيا " الاسم وما بعدها للخطاب، وقد صارا كالشئ الواحد، لأن المعارف والمكنيات بها لا تضاف.

وقال بعض النحويين: إن " إيا " مضاف إلى ما بعده، واستدل على ذلك بقولهم: " إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب " فأضافوها إلى " الشواب " وخفضوها (3). انتهى ما هو المعروف والمشهور عن اللغويين والنحويين.

واختلفوا أيضا في أصل " إيا " ووزنه، فهل هو إفعل وأصله " إأوو " أو " إأوي "، أو فعيل فأصله " أويو " أو " أويي "، أو فعول، أو فعلى (4)، وأنت خبير بخبط تلك الأقاويل. وهنا شبهة عقلية وهو: أن لنا أن نسأل عن كلمة " إيا "، هل لها الوضع النوعي، أم لها الوضع الشخصي؟لا سبيل إلى الثاني، لأنه معناه هو جزء الكلمة، وتكون " إياك " موضوعة للخطاب أو المخاطب، وعلى الأول فتكون هي موضوعة مستقلة، وهذا محال، لأن الواضع لابد وأن يلاحظ الجامع بين أفراد الموضوع له، وبذلك يتمكن من جعل اللفظ مقابله، ولا يتصور هنا جامع بين الحاضر والغائب والمتكلم. هذا، مع أن تصوير الجامع بين المعاني الحرفية محل المناقشة، واستحاله جماعة من المحققين (5).

فعلى هذا يسقط ما توهمه جمهور النحاة واللغويين، فيدور الأمر بين أمرين: إما الالتزام بالوضع الشخصي، فتكون جزء الكلمة، وهذا يستلزم كون ضمير الهاء والكاف وغيرهما - أيضا - ذا وضع شخصي في هذه الكلمة، وهو خلاف الظاهر. فيتعين الأمر الثاني، وهو ما أفاده ابن كيسان، ولنعم ما قال وهو: أن الكاف والهاء والياء والنون هي الأسماء، و " إيا " عماد لها، لأنها لا تقوم بأنفسها، كالكاف والهاء والياء في التأخير في يضربك ويضربه ويضربني، فلما قدمت الكاف والهاء والياء عمدت ب? " إيا "، فصار كله كالشئ الواحد (6). انتهى ما أردنا نقله. وأيضا يظهر هذا من الراغب حيث قال: و " إيا " لفظ موضوع، ليتوصل به إلى الضمير المنصوب إذا انقطع عما يتصل به (7). انتهى. فبالجملة: هذا ما كان يخطر ببالي القاصر، ولنعم الوفاق. وهنا بعض نكات اخر لا خير في الغور فيها.

تذنيب

ربما يظهر: أن في " إياك " لغات اخر، بالتخفيف وبكسر الهمزة وفتحها وتبديلها هاء وواوا. وقيل: لا أدري أن هذا من اللغة، أو من القراء واختلاف القراءات (8). وهذا أمر قبيح من المفسر الماهر، حيث توهم: أن القراءة يمكن أن تكون خارجة عن اللغة، بل اختلاف القراءات يكشف عن أصل اللغة، وإن كانت كتب اللغة خالية عنه وغير مستوعبة إياها. ثم إن اختلاف هذه الحركات والحروف، من الشواهد على أن المقصود هو الاعتماد على كلمة " إيا " قبل تلك الحروف والضمائر، كما عرفت تحقيقه.

المسألة الثانية: حول كون " إياك " اسما أم حرفا ظاهر كلمات جماعة: أنها كلمة موضوعة للمخاطب وغيره (9)، وصريح آخرين: أنها ليست اسما ظاهرا (10) وإن كان مقصودهم من نفي الاسمية إثبات أنها ضمير ويقولون: إن الضمائر موضوعات لمراجعها، وتكون هي معرفة، ويبتدأ بها ويخبر عنها، وكل ذلك شواهد على أنهم يعتقدون أن الضمائر أسماء، خلافا لابن السراج، فإنه صرح بأن الكاف هنا حرف خطاب (11)، كما يأتي. والذي هو التحقيق: أن الضمائر حروف الخطاب والإشارة والإيماء إلى الغائب والحاضر والمتكلم، وليست أسماء أصلا، فما اختلفوا فيه لا يرجع إلى محصل، كما تحرر منا في الأصول (12).

فعلى هذا كلمة " إياك " موضوعة للخطاب وآلة يخاطب بها، وليست موضوعة لنفس المخاطب جدا، فتكون هي حرف الخطاب كسائر الحروف. ومما يؤيد ما سلكناه في المسألة السابقة: أن هذه الكلمة لا يؤتى بها إلا في موضع لا يمكن الإتيان بالمتصل - مثلا - يقال: (إياك نعبد) ولا يقال: نعبد إياك، لإمكان قولهم: نعبدك، فمنه يعلم أن ما هو الضمير هو الكاف، وكلمة " إيا " ليست إلا للعماد والاعتماد، فليتدبر جيدا.

المسألة الثالثة: معنى " نعبد " العبدية والعبودية والعبودة - بضمها - والعبادة - بالكسر -: الطاعة. وقال بعض أئمة الاشتقاق: أصل العبودية الذل والخضوع، وقال آخرون: العبودة: الرضا بما يفعل الرب، والعبادة فعل ما يرضى به الرب. وقيل: الأول أقوى، فلهذا قيل: تسقط العبادة في الآخرة، لا العبودة، لأن العبودة أن لا يرى متصرفا في الدارين - في الحقيقة - إلا الله. قال بعض المشايخ: هذا ملحظ صوفي لا دخل للأوضاع اللغوية فيه. انتهى ما أردنا نقله من " تاج العروس " (13). وعن " اللسان ": عبد عبادة ومعبدا ومعبدة: تأله له (14). انتهى. وفي الأخر: عبادة وعبودة وعبودية: طاع له وخضع وذل وخدمه والتزم شرائع دينه ووحده (15). انتهى. وقد اشتهر بين أبناء العصر: أن العبادة مرادف كلمة " پرستش " في الفارسية، وهذا - حسب مراجعة اللغة وموارد الاستعمال - غلط، فإن في الأخبار الواردة عن طرق أهل البيت - عليهم الصلاة والسلام - استعمال هذه الكلمة فيما لا يناسب ذلك، مثل أن التفكر عبادة (16)، أو أن الله تعالى ما عبد بشئ أكثر من البداء (17)، حسب النقل بالمعنى وغير ذلك.

فيعلم: أن العبادة معناها الأعم من التذلل في القوى الباطنية والروحية والفكرية، ومن التخضع والتذلل البدني وفي القوى الظاهرة، وكلما كانت الذلة والتخشع أكثر وأشد كانت العبودية كذلك. فبحسب اللغة وإطلاق العابد على عبدة الأوثان والأصنام وعلى عبدة الإنسان، نستكشف أن حقيقة المعنى اللغوي كان نفس الخضوع، وإن صارت اللغة منصرفة إلى الخضوع الخاص والخشوع المعين، ولا يقال لكل خضوع وذل: عبادة عندنا، فليتأمل.

نقل مقال وتوضيح حال

زعم بعض المفسرين تبعا لآخر: أن العبادة - بحسب اللغة والاستعمال - موضوعة للخضوع الخاص، وقال: إن العبادة ما يرونه مشعرا بالخضوع لمن يتخذه الخاضع إلها، ليوفيه بذلك ما يراه له من حق الامتياز بالإلهية (18). انتهى. ويقرب منه قول الآخر: تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربي الصراح، أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية، ناشئ عن استشعار القلب عظمة المعبود، لا يعرف منشأ لها، واعتقاد بسلطة لا يدرك كنهها وماهيتها، وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به، ولكنها فوق إدراكه (19). انتهى. أقول: - مضافا إلى ما عرفت من صريح كلمات اللغويين، مثل ما يقال: طريق معبد، أي مذلل، وفرس معبد، أي مذلل للركوب -: إن الكتاب العزيز قد استوعب استعمال هذه الكلمة في الموارد المختلفة، فمنها: قوله تعالى: (فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) (20)، وقوله تعالى: (وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت) (21)، وحملهما على المجازية خلاف الأصل. نعم لا ننكر كثرة استعمالاتها في التذلل الخاص والخضوع والخشوع بعنوان مخصوص، من غير تمامية القيود المزبورة في كلماتهما، فإنه لا يعتبر في تحقق ماهية العبادة، إلا الخضوع بعنوان إظهار المبدئية أو المدخلية في الأمور الخارجة عن اختيار البشر عادة ومتعارفا، كالاستشفاع ونحوه، ولكن لا يرجع ذلك إلى أنه من أصل اللغة، بل هذا من كثرة الاستعمال، فاغتنم. وبالجملة: ما عن الجمهور من: أنها بمعنى مطلق الخضوع، يمكن أن يجتمع مع ما عن بعضهم من: أنها الخضوع الخاص وحصة من الذلة والخشوع، فإن الأول ناظر إلى أصل اللغة والوضع التعييني، والثاني ناظر إلى الوضع التعيني الحاصل من كثرة الاستعمال، وبذلك نجمع بين المقالتين.

وغير خفي: أن جميع مشتقات العبادة لا يستعمل في الخضوع الخاص، بل الثلاثي المجرد منه يكون ظاهرا فيه، كما أن ابن السكيت قال: العبادة معناها التجريد (22)، وهو غير راجع إلى محصل. وأيضا غير خفي: أن تعديه بالتشديد مغاير لتعديه بالتخفيف نحو عبدت الرجل: ذللته، وعبدت الله: ذللت له. ومما يخطر بالبال: أن العبادة تتعدى بنفسها، كقوله تعالى: (إياك نعبد) وغير ذلك من الاستعمالات الكثيرة، فلو كانت - بحسب المعنى - هي الذلة والخضوع والخشوع، فلا معنى لأن تتعدى هذه المواد بالحروف، لأن اللزوم والتعدي من طوارئ المعاني، لا الألفاظ بالضرورة، فيعلم من ذلك عدم الترادف بينهما رأسا. اللهم إلا أن يقال: إن العبادة ليست متعدية، لجواز أن يقال: عبدت لك. هذا، مع أن العبودية ليست فعلا صادرا من الفاعل، ومتجاوزا عنه، وقائما بالغير وبالمعبود، فتفسير اللغويين في غير محله، فليتدبر جيدا.

المسألة الرابعة: معنى " نستعين " العون: الظهير على الأمر، واستعنته واستعنت به، فأعانني إعانة، أي طلب منه الاستعانة وأجابه. والاستعانة لا تتعدى بنفسها، وما في كتب اللغة من إتيانها متعدية بنفسها، غفلة عن حقيقة المعنى، وكأن نظرهم إلى جواز حذف حرف التعدية، كما في قولهم: جاءني زيد (وجاؤوا أباهم عشاء يبكون) (23)، فإن حرف الجر محذوف في الجملتين بالضرورة، فقوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين)، في قوة معنى نستعين بك، أو بك أستعين، فيكون حرف الجر محذوفا، ويشهد لذلك قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة) (24)، (استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) (25)، (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا) (26).

وغير خفي: أن الاستفعال يجئ على معان ربما تبلغ أربعة عشر، ومنها ما ليس فيه الطلب، كالاستعظام والاستحسان، وبناء على هذا لا يتعين أن يطلب العبد هنا إعانة الرب، بل ربما يكون في مقام عد الرب عونا وعده ظهيرا، فإذا قال: إياك أستعظم وأستحسن، فلا يريد إلا أنه يعده عظيما، ويحسبه حسنا في الذات والصفات والأفعال، وإذا قال: إياك نستعين يريد أنه يحسبه عونا في الأمور، ولا يطلب منه الإعانة، ولعل ذلك أبلغ، كما لا يخفى. ثم إن الأصل في " نستعين " نستعون، لأنه من العون والمعونة، فقلبت الواو ياء، لثقل الكسرة عليها، فنقلت كسرتها إلى العين قبلها، فصارت الياء ساكنة، لأنه من الإعلال الذي يتبع بعضه بعضا، وفي المقام بعض تفاصيل خارج عن الفن. والأمر سهل.


1- الصحاح 6: 2545.

2- راجع لسان العرب 1: 284.

3- راجع الصحاح 6: 2545، ولسان العرب 1: 284.

4- البحر المحيط 1: 23.

5- راجع تحريرات في الأصول 1: 98 وما بعدها.

6- الصحاح 6: 2546.

7- المفردات في غريب القرآن: 34.

8- راجع روح المعاني 1: 81.

9- الصحاح 6: 2545، لسان العرب 1: 284، أقرب الموارد 1: 26.

10- لسان العرب 1: 284.

11- راجع تفسير التبيان 1: 37.

12- راجع تحريرات في الأصول 1: 130.

13- تاج العروس 2: 410.

14- لسان العرب 9: 11.

15- راجع أقرب الموارد 2: 736.

16- انظر الكافي 2: 45 / 3 و 4، وفيه " أفضل العبادة ادمان التفكر في أمر الله عز وجل " و " إنما العبادة التفكر في أمر الله "، وغرر الحكم ودرر الكلم: 56 / 531، فيه " الفكر عبادة ".

17- الكافي 1: 113 / 1، التوحيد: 332 / 1.

18- آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 57.

19- تفسير المنار 1: 56 - 57.

20- المؤمنون (23): 47.

21- المائدة (5): 60.

22- البحر المحيط 1: 23.

23- يوسف (12): 16.

24- البقرة (2): 45.

25- البقرة (2): 153.

26- الأعراف (7): 113.