الموعظة الحسنة والنصيحة

إذا بلغت القراءة إلى ﴿مالك يوم الدين﴾، فإن كان القلب مذعنا لتلك المواقف والعقبات، ومعتقدا بتلك الأيام والساعات، ومتوجها إلى تبعات الأقوال والأعمال، فترتعد منها عظامه، وترتعش منها أفئدة القارئين، وإذا كان عالما بأنه تعالى لا يقول لغوا ولا شططا ولا غلطا، ولا يكون مستهزئا ولا ممازحا، بل كلماته كلها صادقة تطابق الواقعيات، وهو برئ من الأباطيل والأكاذيب، فيتحرك نحو الفرار عن المعاصي والعمل بالطاعات، ويتحلى بحلية الأخلاق الحسنة، ويتجلي بجلباب السعادة، ويخلع ألبسة الشقاق والشقاوة، ويرتقي بأسباب العزة والإسلام إلى الملكوت الأعلى ومقام ﴿أَوْ أَدْنَى﴾. فإياك يا أخي الأعز ويا حبيبي وعزيزي أن تكتفي بالقراءات وآدابها الأدبية والتجويدية، وعليك بالجد والاجتهاد والسعي إلى التخلق بأخلاق الله، حتى تكون تسمع الآية من قائلها وتصدر من حقيقتك ورقيقتك، فتكون - بإذن الله تعالى - مماثلا للملكوتيين في الناسوت السفلى، ومشابها للعلويين في هذه الطبيعة الظلماء، وليكن تمام السعي والجد في أن تكون أنت مظهر هذا الاسم في ناحية من نواحي تلك النشأة الكبرى، وفي ذلك اليوم الذي تخشى فيه القلوب وتبلغ لديه الحناجر. ولا يتمكن من هذا المقام المنيع والمحل الرفيع، إلا بعد رفض الشيطان الرجيم حقيقة وواقعا، لا تخيلا وتقولا، فإن هذا من الأطباق الشديدة الفخمة، لا يقتدر على هدمها إلا الأوحدي. فقد روي عن " الكافي " بإسناده عن سيد العابدين (عليه السلام)، فقال: " حدثني أبي: أنه سمع أباه علي بن أبي طالب (عليه السلام) يحدث الناس، قال: إذا كان يوم القيامة، بعث الله تبارك وتعالى الناس من حفرهم جردا مردا في صعيد واحد، يسوقهم النور وتجمعهم الظلمة، حتى يقفوا على عقبة المحشر، فيركب بعضهم بعضا، ويزدحمون عليها دونها فيمنعون من المضي، فيشتد أنفاسهم ويكثر عرقهم وتضيق بهم أمورهم ويشتد ضجيجهم وترتفع أصواتهم، فقال: هو أول هول من أهوال القيامة، قال: فيشرف الجبار تبارك وتعالى عليهم من فوق عرشه في ظلال من الملائكة، فيأمر ملكا من الملائكة، فينادي فيهم: يا معشر الخلائق، أنصتوا واستمعوا منادي الجبار، قال: فيسمع آخرهم كما يسمع أولهم، قال: فتنكسر أصواتهم عند ذلك، وتخشع أبصارهم، وتضطرب فرائصهم، وتفزع قلوبهم، ويرفعون رؤوسهم إلى ناحية الصوت، ﴿مهطعين إلى الداعي﴾، قال: فعند ذلك يقول الكافر: هذا يوم عسير. قال: فيشرف الجبار - تعالى ذكره - الحكم العدل عليهم، فيقول: أنا الله الذي لا إله إلا أنا الحكم العدل الذي لا يجور، اليوم أحكم بينكم بعدلي وقسطي، لا يظلم اليوم عندي أحد اليوم، آخذ للضعيف من القوي بحقه، ولصاحب المظلمة بالمظلمة، بالقصاص من الحسنات والسيئات واثيب على الهبات، ولا يجوز هذه العقبة اليوم عندي ظالم ولأحد عنده مظلمة، إلا مظلمة وهبها صاحبها وأثيبه عليها، وآخذ له بها عند الحساب... " إلى آخر الحديث الشريف الطويل (1). أقول: في أهوال القيامة وأحولها وشدائدها وكيفية العذاب والعقاب، أخبار كثيرة (2) لا يناسبها المقام، وإنما المقصود بالأصالة الإيماء والإشارة إلى بعض الجهات الواردة على بعض أهل الإيمان، وإلى أن مجرد قراءة ﴿مالك يوم الدين﴾ غير جائز عند أرباب اليقين، بل لابد وأن تكون القراءة مشفوعة بالحالات والآثار، فيكون ناظرا من أول الشروع فيها، ومتفكرا في التذكر بها إلى أن يكون من أصحاب اليمين من المتقين، في استجلاب الصفات الحسنة التي بها تصير الذات محسنة وكاملة ومستكفية عن غير الله تعالى، فتكون خائفة من الله ومن عقوبته يوم الدين وشدائده وأهواله وحياء العرض على مالكه، فإن ذلك أمر عظيم جدا، والافتضاح على رؤوس الأشهاد. ومن ذلك ما روي من غشية الصادق (عليه السلام) عند تكرار ﴿مالك يوم الدين﴾ (3)، وما روي عن السجاد (عليه السلام): أنه إذا قرأه يكرره حتى كاد أن يموت (4). وبالجملة: للعارفين عند ذكر أسماء الله تعالى، حالات سنية ولذات فاخرة، وتفرجات عالية في متنزهات دار الجلال وتأنسات ناعمة من تجليات أنوار صفات الجمال في دار الوصال. وبالجملة: بعد التوجه إلى الله تعالى وربوبيته ورحمته الرحمانية والرحيمية ومالكيته، يسير في هذه الأسماء في جميع العوالم من مبدئها إلى منتهاها، ويتفرج بالتدبر في مالكيته ليوم العقوبة والدين في تفاصيل عوالم القيامة، ويتوجه إلى أن جميع صفاته الجلالية فانية في الجمالية، وفي ا لخبر: " قد سبقت رحمته غضبه " (5)، فلا يكون للعارف الكامل خوف من ناره وجحيمه، بل خوفه من نار فراقه وطول عكوفه عليه، فإذا وصل نوبة قراءته إلى ﴿مالك يوم الدين﴾، يفزع ويضطرب جميع أعضائه ومراتبه حتى يغشى عليه، ولكنه طليعة تضمحل بظهور جلوات رحمته ورأفته ولطفه ومحبته.


1- الكافي 1 : 150 / 79.

2- راجع بحار الأنوار 7 : كتاب العدل والمعاد ، أبواب المعاد ، الباب 3 - 9.

3- انظر فلاح السائل : 107 ، والمحجة البيضاء 1 : 352.

4- الكافي 2 : 440 / 13 ، تفسير العياشي 1 : 23 / 23.

5- علم اليقين 1 : 57.