الحكمة والفلسفة

وهنا مباحث، بعضها كلامية:

المبحث الأول: حول فعلية يوم الدين لا شبهة في ظهور هذه الجمل في الاتصاف الفعلي، وأن المشتق جار بلحاظ زمان الحال، فهو تعالى رب العالمين في الحال، وهو الرحمن الرحيم في الحال، وهو مالك يوم الدين في الحال، أي بالفعل سواء كان تحت أحكام الزمان أو فوقها. وهذا دليل وبرهان على ما تحرر وتقرر في الكتب العقلية (1) - خلافا لما اشتهر عن علماء الكلام (2) - من أن يوم الدين والجزاء والحساب موجود بالفعل، لأن فعلية الاتصاف بالمالكية تستلزم فعلية وجود يوم الدين. فما يستظهر من الكتاب العزيز موافق لما يشهد به العقل والبرهان، بل والكشف والعرفان (3)، بل الأخبار والآثار (4) والوجدان، من أن يوم القيامة إذا كان معدوما فلا يكون عالم القبر برزخا، ضرورة أن البرزخية لا تتصور بين المعدوم والموجود، فقوله تعالى: ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (5) دليل على ذلك. مع أن القيامة من مظاهر الله تعالى، ومن العوالم الكلية، وتلك العوالم موجودة بالكلية وإنما الاختلاف في حوادثها ودليل ذلك الأخبار الكثيرة الواردة من الطرق المختلفة على مشاهدته (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة المعراج أحوال أهل الجنة والنار (6)، ولا يمكن ذلك إلا على نحو الكشف التام الملازم لوجود المكشوف في الأفق الخارج عن إحاطة كشفه، وإلا فهو من التخيل والرؤية في الخيال المتصل. وأما توهم: أن الجزاء ليس موجودا والحساب ليس بالفعل، فيوم الدين أيضا ليس موجودا بالفعل. فهو قابل للذب: فأولا: لأن المراد هو مالكيته ليوم الجزاء بالفعل، ويوم الجزاء عنوان ذلك الظرف واليوم، ولا يراد منه معناه المصدري. وثانيا: مقتضى البرهان الدقيق وأخبار المعراج، هو أن المتأخر في الوجود في كل مرتبة متقدم بحسب المرتبة الأخرى، وله الكينونة السابقة، فباعتباره يصح ذلك، فليتدبر.

المبحث الثاني: حول إشارة الآية إلى الموجودات الأمرية إذ قد تبين في الكتب العقلية: أن الموجودات بين ما تكون محتاجة في الوجود إلى الإمكان الذاتي فقط، وبين ما تكون محتاجة إلى الإمكان الذاتي والاستعدادي الذي هو في محل المادة، وتكون الأولى في الاصطلاح هي المبدعات، والثانية هي الكائنات (7)، فقيل - كما في " تفسير صاحب الحكمة المتبالية " -: إن قوله تعالى: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ناظر إلى تلك الموجودات والطائفة الأولى منها، وقوله ﴿مالك يوم الدين﴾ والآخرة مقابل الدنيا ناظر إلى الثلة الأخرى والموجودات الأمرية، أي التي تتحقق بنفس الأمر، بل هي نفس الأمر (8).

وأنت خبير: بأن اعتبار المالكية ومفهومها أجنبي عن الخالقية والبارئية، فهو تعالى مالك الدنيا والآخرة ومسيطر عليهما، ومسلط على جميع الأمريات والكائنات، وهذا اعتبار متأخر عن اعتبار الخلائق وإيجادها، ولا يجوز أن تتداخل الأسماء الإلهية في الاقتضاءات، وهذا لأجل عدم تداخلها في المفاهيم. وغير خفي: أن الاهتمام بشأنه (قدس سره) ألجأني إلى نقل ما تخيله، وإلا لو كنا بصدد نقل ما قيل في كل محل ونقده " مثنوى هفتاد من كاغذ شود "، ولخرجنا عن طور الكتاب وشأنه، فإني بمقدار القدرة والطاقة، لا أتجاوز المسائل الراجعة إلى الآية الشريفة، ولا أباحث عن الأجنبيات منها، بل وعن الغرائب عنها، كما ترى في طول هذه المباحث ذيل تلك الآيات. ومن الغريب: أن دعوى شهادة الآية الشريفة على خالقيته تعالى للكائنات والموجودات الواقعة في عالم الملك والشهادة، عكس ما فهمه، قريبة، لأن معنى " المالك " ذو الملك، والملك والشهادة وعاء المادة والماديات، والموجودات المحتاجة في الوجود إلى الأمر الزائد، فافهم وتبصر.

المبحث الثالث: الرد على مقالة المجبرة قد تلونا عليك معاني الدين، وهي تتراوح بين الحساب والجزاء وما يقرب منهما. وأما ما يتوهم من: أنه هو الدين والإسلام (9)، فهو إما لأجل رجوع المعاني إلى معنى واحد، لأن حقيقة الشئ هي الغاية، وصورته الكمالية، فيكون الدين والحساب والجزاء بمعنى واحد، أو لأجل أن المراد من الدين هو الإسلام، لظهور حقيقة الإسلام في يوم الجزاء. وأنت خبير بما فيه من الركاكة والسقوط. فبالجملة: إذا كان هو تعالى، مالك يوم الدين والحساب والجزاء، وكان هو المختار والمقتدر في ذلك اليوم، فمقتضى سعة اختياره وإطلاق مالكيته أنه لا يستحق في ذلك اليوم أحد العذاب ولا العقاب والثواب، لأن الاستحقاق ينافي ذلك، فإن العقل إذا كان يحكم بلزوم عقاب العاصين وإنعام المطيعين، فإنه ينافي مالكيته ومختاريته، بل يلزم كون القانون مالكا والله تعالى يجريه ويعمل به، وهذا ليس من حقيقة المالكية والسلطنة. فيتضح من ذلك مقالة المجبرة القائلين: بأنه تعالى يفعل في الآخرة ما يشاء من تعذيب المطيعين وإنعام العاصين (10). وقضية أنه مالك يوم الحساب والجزاء، أن ذلك اليوم يوم المحاسبة ويوم الجزاء، فلو كان الكل مستوي النسبة في ذلك الموقف، ومتساوي الأعمال والأفعال في تلك الأيام والساعات، فما معنى أنه مالك يوم الحساب والجزاء ؟! بل لابد وأن يقال: هو مالك الآخرة أو يوم القيامة والرجوع، فيثبت مقالة الآخرين. وحيث إنه تعالى مضافا إلى كونه مالكا يكون عادلا، فلا تنافي بين مالكيته على الإطلاق مع رعاية العدالة بين الأنام، فإنه لو شاء كذا فله أن يفعل كذا، ولكنه يمتنع عليه تلك المشية، فيمتنع عليه، وما نحن فيه مثله كما لا يخفى، فيتعين الوجه الثاني. هذا، مع أن إطلاق المالكية قابل لرفع اليد عنه، بخلاف مادة الدين فيتعين الوجود الثاني أيضا حسب الصناعة المحررة في الأصول.

فن الكلام

مسألة: هل يجب أن يكون هو تعالى مالك يوم الدين، أم لا؟فمقتضى القواعد العقلية، هو الأول بالضرورة، لأن كل وصف كما لي ثابت لحقيقة الوجود، ويرجع إلى تلك الحقيقة، وكل ما أمكن عليه تعالى بالإمكان العام يجب عليه بالضرورة (11). وأما حسب الدليل الكلامي، فقيل: إن من سلط الظالم على المظلوم، ثم إنه لا ينتقم منه، فذاك: إما للعجز، أو للجهل، أو لكونه راضيا بذلك الظلم، وهذه الصفات الثلاث على الله تعالى محالة، فوجب أن ينتقم للمظلومين من الظالمين، ولما لم يحصل هذا الانتقام في دار الدنيا، وجب أن يحصل في دار الآخرة، وذلك هو المراد بقوله: ﴿مالك يوم الدين﴾ (12) انتهى. أقول: هذا ما أفاده الفخر ولم يتبين لي وجه قوله: إنه من سلط... "، فإنه كيف رضي بهذا التعبير، وهو تسليطه تعالى الظالم على المظلوم، فإنه ظلم قطعا، وقد برأه العقل والنقل، وليس الفخر من المجبرة قطعا، فلعله جزاء لما يصدر منه في بعض الأحيان، فعلى هذا يسقط برهانه. نعم يمكن دعوى: أن مقتضى كونه عادلا وصاحب مملكة الوجود سرا وعلانية هو جزاء الظالم، وأما لزوم جزائه في الآخرة دون الدنيا، أو في الدنيا دون الآخرة، فهو أمر خارج عن إحاطة الدرك والتعقل. نعم بناء على كون الجزاء ظهور تبعات الأعمال والأفعال، وهذا أمر لا يحصل مع غبار الطبائع، ومع التلبس بجلباب المادة، يتعين كونها عند الفراغ من المادة. وأما كونها بعد الفراغ عنها والفراق لها في يوم خاص، وهو القيامة أو البرزخ، فهو بحث طويل الذيل يأتي لتناسب في محال اخر إن شاء الله تعالى.

المبحث الرابع: حول حشر الموجودات هذه الآية تدل على المعاد والحشر للجزاء والحساب. وربما يستشعر منها اختصاص الحشر والبعث بالعقلاء والذين يستحقون الجزاء، ويصح حسابهم، دون سائر الموجودات من الجمادات والنباتات والحيوانات، بل وكثير من أفراد الإنسان، ضرورة أن يوم القيامة يوم الحساب، ولو كان سائر الموجودات تحشر في ذلك اليوم، فلا يناسب تسميته بذلك، لأكثريتها ممن يستحقون الجزاء والحساب. فعلى هذا ما تقرر في الحكمة المتبالية - من حشر جميع الأشياء حتى الجمادات (13) - وما تحرر في الكلام - من حشر جميع أفراد الإنسان (14) - غير موافق لها وغير مساعد عليه ظهورها البدوي. وأما البراهين الناهضة على حشر كل موجود، فهي كثيرة مسطورة في المفصلات، ويؤيدها ظواهر بعض الآيات، كقوله تعالى: ﴿وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الامُورُ﴾ (15) وغيره. وأما التي تقتضي حشر جميع أفراد الإنسان، فهي - مضافا إلى اتفاق الملل - مقتضى العقل، لأن كل مجرد يبقى، ويفنى البدن المادي، فما عن بعض فلاسفة اليونان - كفرفوريوس - خلاف الحق والضرورة. وأما الآية الشريفة، فهي لا تفيد حصر المبعوثين بتلك الطائفة من أفراد الإنسان، ولو كان يمكن استفادته فهو لأجل بعض القرائن، وبعد قيام الآيات الأخر على خلافها بالصراحة، فلا تنهض لمقاومتها هذه الآية وما شاكلها. وأما وجه التسمية: فهو لأجل الأشرفية أولا، ولأن للحشر مراتب، وليس مرتبة حشر النباتات والجمادات في رتبة حشر الحيوان... وهكذا. بل قد تقرر في مباحث النفس: أن لكل شخص أكثر من حشر واحد، بل ربما لا يعد ولا يحصى، وتفصيله في مقام آخر (16).

المبحث الخامس: في فعلية الجزاء قد سبق أن الآية ظاهرة في فعلية اتصافه تعالى بالمالكية يوم الدين، وقضية ذلك فعلية يوم الدين وفعلية الدين، فإذا كان المراد من الدين العقوبة، بل ولو كان المراد منه الحساب، فتكون الآية دالة على تجسم الأعمال والأفعال، وتبعيتها للصور المسانخة معها التي هي حقيقة الجزاء والعقوبة، ضرورة أن تلك الصور تابعة لها ولوجوده بالفعل على نعت الضعف والقوة والكتمان والسر، لغلبة أحكام المادة والمدة، ولضعف النفس بسبب الاحتجاب بالبدن عن خلقها، حسب مقتضياتها الموجودة معها من الرذائل والأعمال، فإن كل عمل يصدر من الإنسان ينقش في صحيفة وجوده، ويكون باقيا وخالدا حتى يراه، وتزيله التوبة التكوينية بالاقبال على دار الآخرة، والانغماس في ماء الإنابة والابتهال. فإذا يكون الجزاء بالفعل والحساب بالفعل، وأسبابهما موجودة الآن، و ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ (17) بالفعل، إلا أن لكل شئ ظهورا وبطونا، وهذا الجزاء والحساب بطونهما حال العناق مع المادة، وظهورهما لدى الفراق عن المادة والمدة. ولظهورهما مراحل ومراتب تبتدئ من القبر وتنتهي يوم القيامة الكبرى والرجعة العظمى. ولهذه المباحث مسائل راقية تأتي طي البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.


1- الأسفار 9 : 201 و 319 - 328 ، المبدأ والمعاد ، ملا صدرا : 337 - 344 ، الشواهد الربوبية : 300 و 302 و 305 و 306 ، مفاتيح الغيب : 601 و 631 و 637.

2- كشف المراد : 426 ، شرح المقاصد 5 : 107 - 111 ، شرح المواقف 8 : 301 - 303.

3- شرح فصوص الحكم ، القيصري : 40 - 41 ، الأسفار 9 : 334 - 335.

4- علم اليقين 2 : 1008 - 1014 ، بحار الأنوار 8 : 205.

5- المؤمنون ( 23 ) : 100.

6- علم اليقين 1 : 489 - 520 ، بحار الأنوار 18 : 282.

7- الأسفار 1 : 230 - 236 ، شرح الإشارات 3 : 97 - 103 ، شرح المنظومة ( قسم الفلسفة ) : 186 - 187.

8- تفسير القرآن الكريم ، صدر المتألهين 1 : 80.

9- المفردات في غريب القرآن : 175 ، لسان العرب 4 : 460 ، القاموس المحيط 4 : 227 ، تاج العروس 9 : 208.

10- انظر كشف المراد : 302 - 307 ، وشرح المقاصد 4 : 282 - 296 ، ومقالة المجبرة إلى شرح المواقف 8 : 180 - 209.

11- راجع الأسفار 1 : 122 ، والنجاة ( قسم الإلهيات ) : 228.

12- التفسير الكبير 1 : 236.

13- الأسفار 9 : 272 - 343 ، الشواهد الربوبية : 332 و 335 ، رسالة الحشر ، ضمن الرسائل لصدر المتألهين : 341 - 370 ، مفاتيح الغيب : 611 - 617.

14- كشف المراد : 400 - 416 ، شرح المقاصد 5 : 82 - 156 ، شرح المواقف 8 : 289 - 320.

15- البقرة ( 2 ) : 210.

16- الأسفار 9 : 232 - 236.

17- العنكبوت ( 29 ) : 54.