المعاني والبلاغة
وهنا جهات:
الجهة الأولى: في كيفية استفادة حصر المالكية وقصر الملكية على حضرته تعالى وتقدس فربما يشكل ذلك لعدم سبب له، لانتفاء جميع آلاته ومقتضياته اللغوية والأدبية، ضرورة أن قولنا: زيد مالك هذه الدار، لا ينافي مالكية الآخر إذا كان المراد من الملك الأولوية والسلطنة، كما في ولاية الأب والجد عرضا على الصغير. فإذا وصف نفسه تعالى برب العالمين، يستفاد الحصر من عموم " العالمين " ومن إطلاق الربوبية، بخلاف ﴿مالك يوم الدين﴾، فإنه تعالى مسيطر على يوم الدين، ولا ينافيه مسيطرية الآخر عليه. اللهم إلا أن يقال: إن يوم الدين هو يوم محاسبة جميع الموجودات، من المجردات والماديات، فإذا كان مثل الرسول الأعظم الإلهي مورد المحاسبة وفي موقف الجزاء، فكيف يعقل أن يكون أحد مالكا في ذلك اليوم، لعدم اجتماع المالكية والمقهورية ؟! فتنحصر القاهرية والغالبية فيه تعالى وتقدس. نعم لا منع من الالتزام بلزوم المظهر لهذه الصفة، كما يأتي في محله، وهو - عندئذ - يكون مقهورا بالذات وقاهرا بالغير على الآخرين.
تذنيب
ربما يتخيل المنافاة بين البلاغة وبين توصيفه تعالى بمالك يوم الدين، لأنه تعالى مالك كل شئ، فلا وجه للتخصيص (1). قلت: نعم إلا أن الأحوال تختلف في ذلك، فإن مقتضى ما يأتي من الوجوه الناهضة على لزوم توصيفه في هذا الموقف بصفة جلالية، هو ذكر نعته على هذه الطريقة، ومجرد مالكية السماوات والأرض ليس من النعوت الجلالية الظاهرة، بل إضافته إلى يوم الجزاء والحساب، لازم في توغله في أنه تعالى كما يكون له الترغيب والرحمة، له الترهيب والنقمة.
الجهة الثانية: حول توصيفه بالمالكية إن البلاغة اقتضت توصيفه تعالى - بعد الأوصاف الثلاثة السابقة - بالمالكية وما ضاهاها، وذلك لأن الذي يحمده الناس ويعظمونه إنما يكون حمده وتعظيمه لأحد الأمور الأربعة:
1 - إما لكونه كاملا لذاته وفي ذاته وصفاته، من غير انتظار إحسان منه إليهم.
2 - وإما لكونه محسنا إليهم ومتفضلا عليهم.
3 - وإما لأنهم يرجون لطفه وإحسانه في الاستقبال.
4 - وإما لأنهم يخافون من كمال قدرته، فكأنه سبحانه يقول: يا عبادي إن كنتم تحمدون وتعظمون للكمال الذاتي والصفاتي، فاحمدوني فإني أنا الله، وإن كان للإحسان والتربية والإنعام فإني أنا رب العالمين، وإن كان للرجاء والطمع في الآتي فإني أنا الرحمن الرحيم، وإن كان للخوف فإني أنا مالك يوم الدين. هكذا أفادوه في كتبهم التفسيرية على اختلاف عبائرهم (2). ولا يخفى ما فيه مع لطفه. وبتقريب منا: إنه لولا هذه الآية الأخيرة لما بقي للمسلمين سوق ولا للبلاد نظام، لأن تلك الرحمات والعواطف والرأفة والألطاف، توجب عصيان العباد وتجريهم على البلاد في الفساد والإفساد، فحسب القواعد البلاغية، لابد من ذكر غضبه وانتقامه وسخطه وملكيته ومالكيته هنا، حتى ترتعد منه الفرائص والعظام، وتخشع لديه القلوب والأفئدة، حتى يصان النظام ويحفظ الأنام تحت هذه البرقية العاجلة وبيمن تلك الآية الكريمة الإلهية، فهو في وجه يرجع إلى الرحمة الشاملة العامة، ولذلك سمى بالآلاء في الكتاب العزيز: ﴿يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان﴾ (3) صدق الله العلي العظيم.
الجهة الثالثة: حول مقتضيات البلاغة في تأخير مالك ربما يستشم في تقديم الأوصاف الجمالية على التوصيف الجلالي وتأخيره عنها، عناية خاصة تقتضيها البلاغة، فإن الخبر قد ورد: أن رحمة الله سبقت غضبه (4)، وأن مقتضى الظهور بأصل الوجود هو التعين بالأوصاف الجمالية، لما فيه من إبراز الماهيات من كتوم الأعدام إلى منصات الوجود والخيرات، ثم التربية بالربوبيات التكوينية والتشريعية، وإلهام الرحمة والعطوف عليها، وبعد ذلك يضرب جرس الموت، وهو بالطبع بعد الحياة، فالحياة متقدمة، وبمقتضى تلك الرحمة تحققت، وكمال تلك الحياة أيضا مقدم، والموت مؤخر، والحساب والجزاء بعد ذلك، فيتذكر الناس في كيفية الثناء والحمد وبيان النعوت الجمالية والجلالية أن الأمر كذلك بحسب الواقع. وفي تعبير آخر (5) - لا بأس به -: إن الإنسان بدن ونفس شيطانية ونفس سبعية ونفس بهيمية وجوهر ملكي عقلي، فالتجلي باسمه تعالى الله للجوهر الملكي، ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (6)، وباسم الرب للنفس الشيطانية ﴿رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾ (7)، وباسم الرحمن للنفس السبعية ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ﴾ (8)، وباسم الرحيم للنفس البهيمية ﴿أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ (9)، وبمالك يوم الدين للبدن الكثيف ﴿سنفرغ لكم أيه الثقلان﴾ (10). وآثار هذا التجلي طاعة الأبدان بالعبادة، وطاعة النفس الشيطانية بطلب الاستعانة، والسبعية بطلب الهداية، والبهيمية بطلب الاستقامة، وتواضعت الروح القدسية، فعرضت لطلب إيصالها إلى الأرواح البالية المطهرة. والله العالم بحقائق آياته. وهذه الآثار المتجلية ظاهرة في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ إلى قوله: ﴿وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ فتلك الخمسة تقابل هذه.
1- الجامع لأحكام القرآن 1 : 143.
2- روح المعاني 1 : 80.
3- الرحمن ( 55 ) : 35 - 36.
4- الكافي 2 : 384 / 20 فيه " سبقت رحمتك غضبك " ، علم اليقين 1 : 57 فيه " سبقت رحمته غضبه " ، دعاء جوشن الكبير : فقرة 20 " يامن سبقت رحمته غضبه ".
5- انظر روح المعاني 1 : 81.
6- الرعد ( 13 ) : 28.
7- المؤمنون ( 23 ) : 97.
8- الفرقان ( 25 ) : 26.
9- المائدة ( 5 ) : 4.
10- الرحمن ( 55 ) : 31.