اللغة والصرف
الناحية الخامسة: حول قوله تعالى: ﴿مالك يوم الدين﴾
وهنا مسائل:
المسألة الأولى: حول مادة " مالك " ملك يملك ملكا بتثليث الميم، ومملكة بتثليث اللام، وملكة: احتواه قادرا على الاستبداد به. ملك على القوم، استولى عليهم. الملاك الاقتدار. الملك - بالفتح - مصدر وصاحب الملك، والملك - بالضم - اسم لما يملك ويتصرف به، يذكر ويؤنث: العظمة والسلطان. والملك: من تولى السلطنة بالاستعلاء على أمة أو قبيلة، قيل: الملك صفة مشبهة من ملك، وقيل: مقصور من مالك أو مليك، ويقال فيه: ملك بسكون اللام تخفيفا.
ما في الأقرب (1). والذي يظهر لي: أن هذه المادة معناها الحقيقي المشترك فيها المشتقات، هي الاستيلاء والسلطة والاستبدادية والاقتدار على التصرفات والتبديلات والأمر والنهي وغير ذلك. وأما معناها الآخر، وهي الإضافة الخاصة بين رب المال والمال، المعبر عنها بالملكية الاعتبارية، التي هي ثابتة للجمادات والنباتات والحيوانات والمجانين والصغار، بل والعناوين الاعتبارية كالجهات، فهي ليست من المعنى اللغوي الأصيل، بل هذا أمر اعتبر في المجتمعات البشرية لقوام رحى معاشهم عليها، اتخاذا عن الملكية الحقيقية والقدرة والاستيلاء الخارجي. فإذا قيل: زيد مالك الدار، فمعناه الحقيقي اللغوي، هو أنه المسيطر عليها والمتصرف فيها كيف شاء نحوا من السلطنة الاعتبارية أيضا، اتخاذا عن السلطنة الحقيقية الثابتة في بعض مصاديقها، كسلطنته تعالى على الأشياء وسلطنة النفوس على قواها. وأما معناه الآخر الذي صار حقيقة أيضا، فهو أن الدار له، ولا يجوز للآخر التصرف فيه، وإن لا يتمكن هو أن يتصرف فيه مباشرة لصغره - مثلا - أو لغير ذلك وهذا الاعتبار وإن كان سابقا على الإسلام والأديان، إلا أن استفادته من تلك الإطلاقات غير ممكنة إلا مع القرينة، فتأمل. وبالجملة: المقصود الأساسي هنا، هو أن إرادة المالكية الاعتبارية من قوله تعالى: ﴿مَالُكُ﴾ غير صحيحة، إما لعدم دلالة اللغة عليه رأسا أو لعدم وجود القرينة، أو لعدم مناسبتها مع الله عز وجل، فإنه تعالى وإن أمكن أحيانا اعتبار الملكية له، كما قيل في الأخماس والأنفال (2)، ولكنه هنا غير صحيح، فالمراد من الملكية هي الملكية الحقيقية والاستيلاء التكويني، لا الاعتبارية ولا السلطنة الاعتبارية، كما لا يخفى، مع أن المحرر منا في محله: أن الأنفال والأخماس أيضا ليست ملكا اعتباريا لله تعالى وتقدس، كما يأتي في محله. وبعبارة أخرى: المناسبات في المقام تقتضي كون المراد من الملكية، الإضافة الخارجية الإشراقية ومن تلك المناسبات " يوم الدين " فإنه لا معنى لكونه مملوكه تعالى بالملكية الاعتبارية، فلا تخلط.
المسألة الثانية: حول هيئة " مالك " ظاهر كتب اللغة أن " ملك " متعد كضرب، وجاء لازما أيضا (3). والحق: أنه في جميع الاشتقاقات الثلاثية لازم، ومجرد قولهم: ملكه أو يملكه، لا يقتضي التعدية، بل للمتعدي واللازم من الأفعال ملاك واقعي، فما كان من الحدث يصدر عن الإنسان بالآلة ويقع على الطرف بواسطتها، فهو من الحدث المتعدي، وإلا فهو لازم، ولذلك ترى أنهم في مقام تفسير ملكه يقولون: استولى على الأمر أو على كذا (4)، وهذا شاهد على أن هذه المادة لازمة. وبعبارة أخرى: السلطنة والاستيلاء على الغير ليس فعلا صادرا من الغير بالآلة قائما بالطرف، كالضرب والقتل والشتم وأمثالها، فعلى هذا لا يجوز أن يكون " مالك " اسم فاعل واقعا، بل هو على زنة الفاعل، ويكون صفة مشبهة كطاهر وظاهر، ولا يكون إضافته إلى " يوم الدين " من إضافة العامل إلى مفعوله الحقيقي، وهو المفعول به، كما يأتي. ثم إن مقتضى ما يظهر من اللغة أن " ملك " و " ملك " - بسكون اللام - أيضا صفة مشبهة، ويحتمل كون الثاني مخفف " مالك " كما مضى في الرب، وذكرنا هناك أنه يشبه البر والبار، فإن البر مخفف البار بحذف الألف.
المسألة الثالثة: حول كلمة " يوم " " اليوم " معناه الوقت الخاص، وهو ما بين الطلوع والغروب من الشمس، أو طلوعه الثاني والمغرب، أو غيرهما، وله معنى آخر، وهو مطلق الوقت (5)، وهو المراد في كثير من الاستعمالات القرآنية والعصرية، وليس النظر فيه إلى جهة بزوغ الضياء وظهور الشمس. وربما يمكن دعوى: أن النظر إلى الوقت وإلى جهة أخرى وهو ان ذلك الوقت نير ومضئ، فيقال: " مالك يوم الدين "، أي صبح الدين وطلوع الدين، فيكون حين الدين الوقت نيرا، فلا تكن من الغافلين. وأما " الدين " فهو الجزاء والمكافأة والحساب، والقهر والغلبة والاستعلاء، والسلطان والملك والحكم والسيرة والتدبير. وقيل: " الدين " هو الجزاء بقدر فعل المجازى، فالجزاء أعم (6). وهل المراد منه هنا المعنى المناسب للمعاني الثلاثة الأولى أو الأخيرة؟أو على الفرض الأول فهل يختص ذلك بيوم القيامة - مثلا - أم يشترك فيه جميع الأيام الدنيوية والأخروية؟أقول: مقتضى اللغة عدم الاختصاص وعدم ظهوره في أحد المعاني الخاصة، مع إمكان إرجاع الكل إلى معنى واحد كما هو الظاهر، ولكن الرجوع إلى الكتاب العزيز يورث حل هذه المعضلة: ﴿وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ (7) ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾ (8) ﴿يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾ (9) ﴿هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ﴾ (10) ﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ (11) ﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ (12) ﴿يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ﴾ (13). فعلى ما تحرر وتقرر تبين: أن " يوم الدين " كأنه موضوع بالوضع المستقل في الاستعمالات القرآنية ليوم التغابن والقيامة واليوم الموعود. والله العالم.
1- أقرب الموارد 2 : 1239 - 1240.
2- راجع جواهر الكلام 16 : 84 - 90.
3- القاموس المحيط : 1232 ، تاج العروس 7 : 180.
4- أقرب الموارد 2 : 1239.
5- تاج العروس 9 : 115.
6- تاج العروس 9 : 207.
7- الصافات ( 37 ) : 20.
8- ص ( 38 ) : 78.
9- الذاريات ( 51 ) : 12.
10- الواقعة ( 56 ) : 56.
11- المعارج ( 70 ) : 26.
12- المدثر ( 74 ) : 46.
13- الانفطار ( 82 ) : 15.