حول قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
الناحية الرابعة: حول قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
قد فرغنا عن المباحث المختلفة والفنون المرتبطة بهاتين الكلمتين، ولذلك نذكر جملة من المسائل الراجعة إليهما طي فوائد، حذرا عن التكرار ورعاية للاختصار:
الفائدة الأولى: في إعرابهما المعروف المشهور قراءته بالخفض، بل عليه اتفاق القراء السبعة. وقد نصبهما أبو البالية وابن السميقع وعيسى بن عمرو، وهو المحكي عن زيد بن علي (عليهما السلام) كما مضى. وحكي الرفع عن العقيلي وابن خيثم وأبي عمران الجوني (1). ووجه الخفض: على النعت لله، أو نعتا لرب العالمين، فإن الوصف الثاني يمكن أن يكون وصفا للأول كما مضى، وعلى كل تقدير ربما يستشم منه (2): أن جعلهما صفتين لله تعالى أنهما صفتان للاسم في البسملة، ويصير بذلك تأسيسا وإيماء إلى أن القارئ، ينبغي أن تكون قراءته مرتقية من النظر إلى الأسماء والاتسام بها والتوصيف بصفات الله إلى النظر إلى الذات والاتصاف بتلك الصفات الذاتية، حتى يتحقق في حقه امتثال قوله: " اقرأ وارق " (3). ووجه النصب والرفع معلوم، لأنه كما يمكن على القطع، يمكن أن يكون النصب على المفعولية لقوله: " حمدت "، وأن يكون الرفع على الابتداء والاستئناف، أي: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ويكون " الرحيم " خبره، ويكون ﴿مالك يوم الدين﴾ على الرفع أيضا خبرا بعد خبر قال ابن مالك: وأخبروا باثنين أو بأكثرا * عن واحد كهم سراة شعرا (4)
الفائدة الثانية: حول شهادة الآية على عدم كون البسملة من السورة عن المكي وفي " تفسير النسفي ": أن التكرار شاهد على أن البسملة ليست من الفاتحة، وحكى ابن حيان كلمة عن المكي حول مقالته، وقال بعد ذلك: ولولا جلالة قائله، نزهت كتابي هذا عن ذكره (5).
وفي التفسير الآخر: أن ذلك شاهد على أن البسملة آية مستقلة، وليست جزء (6). ولك دعوى: أن هذا لا يشهد على أن البسملة ليست من الكتاب، وكان كل من اعتبر مرامه من موقف آخر، واتخذ له دليلا وسبيلا من الناحية الأخرى، استشم له ذلك من غير نظر إلى الاستدلال حتى ينظر فيه صحة وسقما، وإلا فمثل ذلك غير خفي عن الأصاغر، فضلا عن الأكابر. وربما يختلج بالبال أن يقال: بأن البسملة نزلت مستقلة، وهي آية مستقلة في النزول، وجئ بها لأن تكون مبتدأ كل صحيفة وكلام ومقال ومقام، والفاتحة نزلت مستقلة ثم أضيفت البسملة إليها، وصارت جزء منها، فعند ذلك لا يكون من التكرار الذي تفر عنه الطباع. وأما ما في كثير من الكتب التفسيرية من: أن الآيات كثيرة التكرار في الكتاب العزيز، فهو غير نافع، ضرورة أن مثل سورة الرحمن وما ضاهاها مبنية على التكرار، فلا يستشم منه الشئ، وأما التكرار الآخر فهو لو كان أحيانا في الكتاب فهو لا يستتبع حل المشكلة بل يزداد، كما في سورة الكافرون، فتأمل. ولعمري إن الأصحاب لولا ما يرون من الاتفاق على أنه من الكتاب، لسلوا سيوفهم من أغمادها، ونزهوا الكلام الإلهي - البالغ في البلاغة غايته، والراقي في المتانة نهايته - عن هاتين الكلمتين في هذا الموقف، وقد كثر عليهم القراءة من ابتداء الطفولية، فاعتادوا على ذلك، والعادة طبيعة خامسة، فلا يتمكنون من التشخيص والتمييز، والله الغالب على أمره.
الفائدة الثالثة: حول الوجوه الممكن خلقها لحل مشكلة التكرار أي في ذكر ما قيل - أو يمكن أن يقال - وجها للتكرار، ونكتة وسرا للتوصيف بهما مرة ثانية. الأول: أن الرحمة في الوصفين الأولين رحمة باطنية كالعلم والمعرفة، وفي الثانيين ظاهرية كالصحة والأمان والرزق. هكذا في تفسير الشيخ العربي (7). وفيه: أن اختلاف مرادات المتكلم في الاستعمال، يحتاج إلى الشاهد، ولا يلزم منه عدم التكرار المطلوب، بعد كون اللفظتين مشتركتين بالاشتراك المعنوي في المعاني المرادة وغير المرادة. نعم لو كانت لفظة " الرحمن " و " الرحيم " مشتركة لفظية بين النعم الباطنية والظاهرية، كان لما قيل وجه قريب، بل يعد هو من المستحسنات الكلامية. الثاني: أن في الأول ذكر الإلهية، فوصل بذكر النعم التي بها يستحق العبادة، وهاهنا ذكر الحمد، فوصله بذكر ما يستحق به الحمد والشكر على النعم، فليس فيه تكرار. هكذا أفاده صدر المتألهين أخذا عن علي بن عيسى الرماني (8). وفيه: ما مر مع أن كلمة " الله " ليست فيها العبودية، كما مر تفصيله، مع قوة كون ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ هناك وصف الاسم المضاف. الثالث: إنما أعاد ذكر " الرحمن " و " الرحيم " للمبالغة. هكذا في " مجمع البيان " (9). وفيه: ما لا يخفى، فإن المبالغة غير التأكيد، فكان ينبغي أن يقول: هما للتأكيد لما فيه من التأكيد اللفظي بتكرار اللفظ، ولكنه ساقط أيضا، لما أن المتعارف في التأكيد إتيان الثاني عقيب الأول بلا فصل، فلا يمكن حمل كلامه تعالى على الشذوذ والندرة. الرابع: أن " الرحمن " و " الرحيم " في الأول من صفات الذات على التقريب الذي مر تفصيله، فيكون هو تعالى بذاته الرحمن وبذاته الرحيم، لأن تلك الرحمة هي الوجود المستلزم لخروج الماهيات عن كتم الأعدام إلى منصة الوجود والظهور، وهو تعالى أصل الوجود والظهور، وهما في الثاني من صفات الأفعال، بقرينة تبعيتهما في الأول للذات، وهنا للرب الذي هو من أسماء الأفعال، كما لا يخفى. وفيه: أيضا - مضافا إلى ما مر - أن الرحمن من الأسماء الإلهية، أو من أسماء الذات باعتبار صفة الرحمة التي هي عين الذات، من غير فرق بين موارد استعمالها، بل كون " الرحيم " من صفات الذات يحتاج إلى مؤونة زائدة، وهي دعوى الاتحاد، فلا تغفل. الخامس: أن يكون التكرار للتوطئة، وهو أن المتكلم - بعد الفراغ عن توصيف الذات بالرحمة الرحمانية - انتقل إلى أن المستمع ربما يتجرأ على مولاه بأخذ السبيل الباطل، فقال: الرحمن الرحيم الذي أشرنا إليه ومدحناه، هو مالك يوم الدين، فلا تغتر برحمته، ولا تسهو عن غضبه وملوكيته ليوم الجزاء في الآخر والمنتهى (10). وهذا يتم على قراءة الرفع بكون " الرحمن " مبتدأ، و " الرحيم " صفة، و " مالك يوم الدين " خبره، وهذا خلاف السياق قطعا، ولا يناسب خطابه بعد ذلك ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، ضرورة أن عبودية العبد هنا بعد الإقرار بأن الحمد لله، ويكون المحمود ذا أوصاف كثيرة، وهي الربوبية والرحمانية والمالكية، وتكون تلك الجمل ناقصة وأوصافا لله تعالى في قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ﴾. السادس: أن " الرحمن " تارة يستعمل علما، كما في البسملة على ما عرفت وجهه، وأخرى يستعمل صفة، وهو هنا، فلا تكرار، بل هو من الاشتراك اللفظي في وجه، وأما " الرحيم " فهو كأنه تتمة لكلمة الرحمن، ولذلك يذكران معا كثيرا. وفيه: أن " الرحمن " إذا أمكن أن يعتبر وصفا فهو هكذا في البسملة، ومجرد إمكان كونها علما فيها أو تقوية علميته فيها، لا يكفي لحل هذه المشكلة. السابع: ما أشرنا إليه في الفائدة الأولى، وهو أن موصوفهما في الأول هو الاسم، وفي الثاني هو الذات، فلا يلزم التكرار. وأنت خبير بأن ذلك لا يكفي لجواز التكرار. الثامن: أن التكرار غير جائز إلا للفائدة، وهو هنا بيان أن الحق الأول عز اسمه، رحمان رحيم بعباده، وأن تلك الرحمة والمرحمة كثيرة وغالبة على الغضب والانتقام، ويشهد لتمام رحمته وشدة رأفته القضايا والحكايات الكثيرة، بل شاهده جميع مراحل الوجود ومظاهره، تعطي سعة رحمته ونهاية لطفه بعباده وخلقه، بل المقرر عنا: أن ناره وجحيمه أيضا من تجليات تلك الرحمة غير المتناهية، ومن مظاهر تلك الآراء والنعم الباطنية والواقعية. وربما يقال: إن القدرية يقولون: كيف يكون رحمانا رحيما، من خلق الخلق للنار ولعذاب الأبد ؟! وكيف يكون رحمانا رحيما من يخلق الكفر في الكافر ويعذبه به ؟! وكيف هو هكذا ويأمر بالإيمان ويصد ويمنع عنه ؟! وعن الجبرية: أن أعظم أنواع النعمة والرحمة هو الإيمان فلو لم يكن الإيمان من الله، بل كان من العبد، لكان اسم الرحمن والرحيم بالعبد أولى منه بالله (11).
فكررهما دفعا لهذه الأباطيل. وأنت خبير: بأن مقالتهما من الأباطيل، ولقد تحرر منا تفصيله في كتابنا " القواعد الحكمية "، وربما يناسب هذا الكتاب بعض الآيات الآتية، ونشير لديها إلى ما هو مغزى مرامهم ومفاسد آرائهم إن شاء الله تعالى. وأما توهم صحة الوجه المزبور فهو غير لائق بمن هو أهل العربية، ضرورة أن اختلاف الوجوه الكثيرة لرفع هذه الغائلة، وجلب الطرق المختلفة لحل هذه المعضلة، كلها شاهد على الإقرار بالإعضال، ولا يمكن الفرار منه بأمثالها. والذي هو الأقرب - وهو الوجه الأخير الحاسم لمادة الشبهة -: هو أن البسملة - كما أشير إليه - نزلت إما مستقلة، أو مع سورة " اقرأ "، وهي - على ما عرفت - ربما كانت أول سورة نزلت، فهي تكون آية يبتدأ بها تبركا وتيمنا، عند كل قيل وقال وفعل وفعال، وقد ابتدئ بها في سائر السور، واعتبرت جزء لها، فتكون الفاتحة نزلت للثناء والحمد الإلهي من غير نظر إلى خصوصيات البسملة، لأنها كلمة مستقلة مشتركة فيها سائر السور، فلابد من كون سورة الفاتحة واجدة لتوصيفه تعالى بالرحمن والرحيم، فعلى هذا تنحل المعضلة وتزول المشكلة، من غير حاجة إلى ذكر تلك الوجوه الباردة أو غير الباردة. ومما يؤيد ذلك: أن سورة الفاتحة من ابتداء الحمد إلى توجيه الخطاب بعنوان إياك نعبد، تكون جملة واحدة، والبسملة خارجة عنها، وهي جملة مستقلة أخرى، وكأنها خارجة عن تركيب الفاتحة وأسلوبها، وإن كانت جزء لها اعتبارا وملتحقة بها ثانيا، كما لا يخفى. إن قلت: هذا ينافي ما ورد عن الأئمة المعصومين - عليهم صلوات المصلين - من أن البسملة أعظم آية، وسرقوا أعظم آية (12)، وأنها آية من السبع المثاني (13)، وغير ذلك. قلت: كلا، فإن هذه الأخبار لا تدل على أكثر من جزئيتها لها، وما هو مقصودنا هو أنها ليست في النزول والتركيب والأسلوب داخلة في الفاتحة، بل هي آية مستقلة في جميع السور وجزء لها، ولكنها خارجة عن أسلوبها وتركيبها، ولذلك لا يكون بينها وبين كثير من السور تناسب ظاهر، كقوله تعالى: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم * إنا أعطيناك الكوثر﴾ أو ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ وأمثاله، وهكذا، فلا تكن من الخالطين، ولا من الداخلين في اللجاج، فإنه أعظم أعداء الإنسان في الإيصال إلى الاعوجاج.
ذنابة
قد مر فيما سلف بعض روايات المعراج، وفيها - كما في " الوسائل " - " ثم قال له: احمدني، فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفسه: شكرا، فقال الله: يا محمد قطعت حمدي، فسم باسمي، فمن أجل ذلك جعل في الحمد " الرحمن الرحيم " مرتين " (14) الحديث.
الفائدة الرابعة: تفسير الآية على مشرب العرفان اعلم أن من المحرر في علم الأسماء والعرفان: أن لجميع الأسماء والصفات الإلهية مقامين:
الأول: مقام الأسماء والصفات الذاتية الثابتة في الحضرة الواحدية الجمعية.
الثاني: مقام الأسماء والصفات الفعلية الثابتة له بفيضه المقدس، وبناء على هذا للرحمة الرحمانية والرحيمية تجليان: تجلي الذات في الحضرة الواحدية بفيضه الأقدس، والتجلي في مرايا الأعيان الثابتة بالفيض المقدس. وهذه السورة اشتملت على تلك المضامين في البسملة وفي نفس السورة، ولقد أشرنا في مطاوي كلماتنا السابقة إلى هذه البارقة العرفانية، إلا أنه ليس وجها لطيفا يناسب المقام، ويندفع به الإبهام، والله تعالى عالم بشؤون الكلام. وبالجملة يصير المعنى على ما احتمله السيد العارف الوالد المحقق - مد ظله -: بمشيته الرحمانية والرحيمية الحمد لذاته الرحمانية والرحيمية (15)، وذلك لأن المشية من تجليات ذاته المقدسة، ومقام الرحمانية والرحيمية من تعينات تلك الجلوة والمشية، ومن تجليات الرحمانية والرحيمية الذاتية.
1- انظر البحر المحيط 1 : 19.
2- تفسير بيان السعادة 1 : 30.
3- الكافي 2 : 601 / 11 و 603 / 3 و 606 / 10.
4- الألفية ، ابن مالك ، بحث المبتدأ والخبر.
5- البحر المحيط 1 : 19 - 20.
6- روح المعاني 1 : 77.
7- تفسير القرآن الكريم ، المنسوب إلى محيي الدين ابن العربي 1 : 10.
8- تفسير القرآن الكريم ، المنسوب إلى محيي الدين ابن العربي 1 : 78.
9- مجمع البيان 1 : 23.
10- التفسير الكبير 1 : 242 ، البحر المحيط 1 : 23.
11- التفسير الكبير 1 : 236.
12- تفسير العياشي 1 : 19 / 4.
13- المصدر السابق 1 : 19 / 3.
14- علل الشرائع 2 : 315 / 1 ، وسائل الشيعة 4 : 679 كتاب الصلاة ، أبواب أفعال الصلاة ، الباب 1 ، الحديث 10.
15- شرح دعاء السحر ، الإمام الخميني ( قدس سره ) : 44 ، وراجع آداب الصلاة ، الإمام الخميني ( قدس سره ) : 245.