التأويل والتفسير على المسالك المختلفة

فعلى المسلك الأعلى والأحلى: أن ﴿الْحَمْدُ﴾ - بمعناه المصدري - ﴿لِلَّهِ﴾ تعالى، فلا يليق غيره للقيام بحمده الذي هو ﴿رَبِّ﴾ جميع العوالم الغيبية والشهودية، حسب مناسبات تلك العوالم واقتضاء لكيفية التربية المسانخة معها، فإن تربية كل وعاء بحسبه وتابع لاقتضائه، فما حمد الحامد إياه، للزوم السنخية بين الحامد والمحمود، فهو تعالى الحامد والمحمود، وحمده ظهوره لذاته بذاته، المستلزم لظهور لوازم صفاته وأسمائه. وقريب منه: أن ﴿الْحَمْدُ﴾ الحاصل المصدري، ﴿للَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، فلا يكون غيره لائقا لأن يحمد، لعدم ثبوت الجمال للغير، فإن جمال كل جميل جماله وكماله. فبالجملة: ﴿الْحَمْدُ﴾ كله بجميع أنواعه، والمحامد كلها بجميع أصنافها، له تعالى، وقد أشير إلى ذلك في بعض رواياتنا كما مضى. وقريب منه: أن ما يحمد عليه لله تعالى، وهو الفعل الجميل الاختياري، فلا يكون غيره واجدا له. وفي كل هذه التقاريب إبراز للخضوع والخشوع وإنشاء للعبودية، وإخبار عن تلك اللطيفة الإلهية والبارقة الملكوتية. وعلى مسلك أهل الظاهر: أن ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ دعاء وندبة وابتهال وإبراز للعبودية والخضوع. وقريب منه: أن الله تبارك وتعالى أمر عباده بأن يتفوهوا بهذه الكلمة في مقام العبودية والشكر، وقال: قولوا ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، أي رب العقلاء، أو رب الجنة والنار، أو رب الجن والإنس... وهكذا مما مر تفصيله في بعض المباحث السابقة، فلا ينحصر الحمد فيه تعالى.

وعلى مسلك الحكيم والفيلسوف الإسلامي: ﴿الْحَمْدُ﴾ والثناء على الجميل الاختياري ينحصر فيه تعالى، الذي هو ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ومربي العوالم، التي تكون متدرجة في الوجود ومتحركة من النقصان إلى الكمال اللائق بها، فلا تكون العوالم الاخر داخلة في هذه الآية.

وعلى بعض مسالك المتصوفة: أن المحامد والكمالات الموجودة في جميع الأشياء، وجميع أنواع الظهورات المتجلية بها الأعيان، الثابتة في جميع المراتب وأنحاء الآفاق، كلها لله، ولاحظ لغيره من الوجود وكماله، ما شمت الأعيان رائحة الوجود ولن تشم، وإلا يلزم كون الوجود لها بالذات والحقيقة، لا بالمجاز والعرض، وذلك مخالف لما أقيم عليه البراهين الساطعة والأدلة القاطعة، من أن الممكنات كلها مفتقرات الذوات من الأزل إلى الأبد، ولقد نص عليه الكتاب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ (1)، فتوصيفه تعالى بالحمد، شاهد على أن ما هو المحمدة وما يحمد به الشئ، هو ليس له، فكيف يستحق التحميد والثناء على ما ينتسب إليه بالعرض والمجاز ؟!

وعلى مشرب الأخبار والآثار: التي لم يثبت لنا صحة صدورها، ولا تشمل تلك الروايات أدلة حجيتها، والأمر موكول إلى محل آخر -: " أن ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ هو أن عرف عباده بعض نعمه عليهم جملا، إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل، لأنها أكثر من أن تحصى أو تعرف، فقال لهم: قولوا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ على ما أنعم الله علينا ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وهو الجماعات من كل مخلوق من الجمادات والحيوانات... - إلى أن قال -: و ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، مالكهم وخالقهم، وسائق أرزاقهم إليهم من حيث لا يعلمون " الحديث، وهو منسوب إلى مولانا أمير المؤمنين في كتاب " التفسير المنسوب إلى مولانا العسكري (عليه السلام) " (2)، وهو ضعيف عند المحققين. وعن " الفقيه " فيما يذكره عن الفضل بن شاذان في " العلل " عن الرضا (عليه السلام) أنه قال: أمر الناس بالقراءة في الصلاة لئلا يكون القرآن مهجورا مضيعا، وليكون محفوظا مدروسا، فلا يضمحل ولا يجهل، وإنما بدأ بالحمد دون سائر السور، لأنه ليس شئ من القرآن والكلام، جمع فيه من جوامع الخير والحكمة ما جمع في سورة الحمد، وذلك أن قوله عز وجل: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ إنما هو أداء لما أوجب الله عز وجل على خلقه من الشكر، والشكر لما وفق عبده من الخير، ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ توحيد وتحميد له، وإقرار بأنه هو الخالق المالك لا غيره (3) الحديث.

وعلى المسلك الأجمع: أن ما مر من الحمد والمحامد ومن الطبيعة بإطلاقها السرياني، لله تعالى الذي هو رب العوالم، ومخرجها من القوة إلى الفعلية ومن النقص إلى الكمال، ولا يشترك معه في الربوبية التكوينية والتشريعية غيره، فتذهب المذاهب الباطلة هباء منثورا، ولا يصح أن يدعي أحد استقلاله في أي خصيصة، حتى الحركة المباشرية، فإنها خروج من القوة إلى الفعل، ولا يعقل أن تتحقق تلك الحركات الإعدادية إلا من قبله تعالى فيرد مفاد ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إلى مفاد ﴿الْحَمْدُ للّهِ﴾، إلا أن ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ﴾ أعم - حسب ما تقرر وتحرر - ضرورة أنه يشمل - على التحقيق - جميع الظروف والعوالم وكل الأنحاء من الكمال والجمال، بخلاف ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فإنه - على مذهب - مقصور على عوالم الكائنات والمواد والقوى والحركات، لعدم معقولية هذه الأمور في المجردات المحضة والمفارقات الصرفة، بل ولا في الموجودات المقدرة بالكميات، والمكيفة بالكيفيات على ما تقرر وتحرر في المفصلات.


1- فاطر ( 35 ) : 15.

2- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام ( عليه السلام ) : 30 ، بحار الأنوار 89 : 224 / 2.

3- الفقيه 1 : 203 / 12 ، والمراد ب? " العلل " كتاب علل الشرائع لفضل بن شاذان.