الأخلاق والموعظة والنصيحة

يا أخا الحقيقة ويا عزيزي! لا تغتر بما في هذه الصحائف من الدقائق والحقائق، ولا تقنع بدرك الكليات والرقائق، فتصير حمال معان ومركب لطائف، ولا تكتف بالحجب والأستار من بين الأخبار والآثار، بل عليك أن تتدبر في الرب الذي يربيك، ما أنعم عليك، وما يصرفه في توجيه اللطف إليك، والعلوم والفنون والفضائل والمسائل الفكرية ظلمات، فيما إذا لم تكن أثرت في قلبك، ولا حصلت بها على الأنوار والفضائل الأخلاقية، وتصير وبالا عليك في جميع النشآت الآتية، فكن متعوذا بالله تعالى فيها من شر هذه التبعات، ومن آثار هذه المعلومات والصور، فإن العلم حجاب أكبر، ونور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء. فعلى هذا النموذج والبرنامج القصير تأمل في أسباب تربيتك، وأنك كنت قطرة من النطفة الرذيلة النجسة من صلب الأب، فانتقلت إلى رحم الام، فانظر أنها كيف صارت علقة أولا، ثم مضغة ثانيا، ثم تولدت بعد ذلك منها الأعضاء المختلفة، والعظام المنتظمة، والغضاريف والرباطات والأوتار والأوردة والشرايين، على نظام خاص متين لا ينحل، ثم حصلت في كل واحد من تلك المكامن والأعضاء، أنواع القوى البصرية والسمعية والشمية والذوقية واللمسية، ثم حصل لك في ثدي الام أحسن الأشياء رقة وخاصة يناسب حالك، وهو اللبن اللطيف اللذيذ للشاربين، ثم أعطف - تعالى وتقدس - عواطف الأمهات والآباء عليك، وجعلك في خبايا قلوبهم وزوايا نفوسهم مورد الحب والشوق والعشق، حفظا لك عما يتوجه إليك، ودافع عنك المضار والمضادات الوجودية البالغة إلى ملايين عددا بل نوعا، وانظر إلى ما خلقه وهيأه لتربيتك البدنية، من الأغذية والأشربة المختلفة الأنواع المتشابهة وغير المتشابهة، وأنه تعالى كيف لاحظ في ذلك تسهيل الأمور عليك، وكيف لطف بك وفي حقك، من بذل هذه الأنعم والآلاء غير القابلة للإحصاء، فإذا تفكرت ساعة وتأملت دقيقة من هذه الناحية - وهي النشأة المادية - فاعطف وجهك ونظرك إلى المسائل الروحية والآداب الأخلاقية والاعتقادات الروحانية. فإنه تعالى وتقدس عالم بالأسرار والعوالم، ويرى حاجتك في سائر الآفاق والظروف، فيهيئ الأسباب المورثة لخلاصك من الآفات والبلايا، التي في جنبها تلك البلايا الدنيوية ضئيلة جدا ويسيرة واقعا. فأرسل الرسل وأنزل الكتب، وقد تحمل في ذلك الرسل المعظمون والأنبياء الشامخون، مصائب كثيرة مما لا يعد ولا يحصى، وقد امتلأت كتب التواريخ من تلك الرزايا المتوجهة إليهم - عليهم الصلاة والسلام - حتى حكي عن رسولنا الأعظم أنه قال: " ما أوذي نبي مثل ما أوذيت " (1)، وما كان ذلك كله إلا صيانة لك عن تبعات الأعمال الرذيلة في البرازخ والقيامة، فهم أطباء النفوس، مبعوثون لهداية البشر وتربيته وإخراجه من النقص إلى الكمال، فإذا كنت من أهل البصيرة والفكر، وتوجهت إلى هذه الجهات والنواحي والفواحي، فهل لا يحصل في نفسك لهذا الوجود العظيم ولهذا الكريم الكريم، الرحمن الرحيم، حب وشوق وعشق ؟! فإذا لم تكن كذلك فالموت لك خير، ولنعم ما قال عز من قائل: ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ (2). وإذا وجدت في قلبك له عشقا وشوقا فعليك بازدياده، حتى لا يبقى في قلبك لغيره شئ، أفيحسن بالإنسان الملتفت المتوجه إلى أطراف القضايا أن تعلق نفسه بغير الرب العزيز الذي قيل في حقه: إنه تعالى يملك عبادا غيرك وأنت ليس لك رب سواه، ثم إنك تتساهل في خدمته والقيام في وظائف طاعته، كأن لك ربا بل أربابا غيره، وهو سبحانه يعتني بتربيتك حتى كأنه لا عبد له سواك، فسبحانه ما أعظم رحمته وأتم تربيته. فعلى ما تقرر وتحرر، وإلى نصاب البرهان والشهود بلغ ووصل، فلا تماطل في القيام بما أراد منك، ولا تكن من العاصين المتمردين على أوامره ونواهيه، واجتهد في أن يصير وجودك مرهون مقاصده، ومن أهم طلباته تعالى، القيام والاهتمام بأمور المسلمين، وهداية البشر إلى الطريق المستقيم، فكن مظهر الاسم " الرب " في توجيه الناس إلى الآخرة، وفي تصغير الدنيا في نفوسهم، وفي تعظيم الديانة في قلوبهم. والله هو المعين والمستعان.


1- الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير 2 : 144 ، بحار الأنوار 39 : 56 ، تاريخ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : الباب 73.

2- الفرقان ( 25 ) : 44.