الفقه

مسألة: حكم جواز التعدي من القراءات السبع قد أشير سابقا إلى مسألة جواز التعدي من القراءات السبع المشهورة إلى غيرها وعدمه أو التفصيل بين ما كان متعارفا بين الناس وعدمه، سواء كان منها أو لم يكن، أو التفصيل بين ما كان قراءة أهل البيت والأئمة (عليهم السلام) وعدمه، وسواء كان منها أو لم يكن، أو المدار على صدق قراءة القرآن، فينسحب ذيل البحث إلى أن القرآن هي الحقيقة المقروة على الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي كانت إحدى القراءات قهرا، اللهم إلا أن يقال بتكراره نزولا، أم القرآن كسائر العناوين له العرض الوسيع في الصدق، ولا يختلف باختلاف الكلمات في الإعراب صدق تلك الحقيقة. وحيث إن هذه المسألة تحتاج إلى مزيد تأمل في البحث فقها، ونحتاج إليها في جميع السور، ولا يمكن تكرار البحث، فعلينا أن نذكر حكمها في المقدمات التي نتعرض لها في مدخل الكتاب إن شاء الله تعالى.

مسألة: حكم إطلاق " الرب " على غيره تعالى قد اشتملت كتب اللغة والتفسير على أن إطلاق " الرب " على الإطلاق على غيره تعالى، غير جائز، وهو من الأسماء المختصة به تعالى، وأما إذا أضيف إلى شئ، مثل: رب الإبل والدار وربات الأنواع، فلا بأس به (1). والذي هو التحقيق: جواز ذلك فقها وعدم جوازه أخلاقا وأدبا، لا ينافيه كما لا يخفى، وذلك لعدم الدليل الشرعي على ذلك، مع ما قد مر من وروده في بعض الأدعية، مثل قوله: " رب الأرباب " (2)، بل في الكتاب: ﴿أَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ﴾ (3)، فإنه شاهد على جواز ذلك، فما في كتب اللغة وغيرها محمول على ما تعارف في الخارج بحسب الاتفاق، فلا تخلط. ومن العجيب توهم عدم جواز إطلاقه على غيره تعالى لغة (4)، وأعجب منه الاختلاف في أن المقصود من الاختصاص، هل هو من ناحية اللغة، أم هو من ناحية الفقه شرعا؟(5) وعن الشهاب: أنه لو كان بمعنى غير المالك جاز مع القرينة (6)، وجوز بعضهم إطلاقه إذا كان نكرة، كما في قول النابغة: نحث إلى النعمان حتى نناله * فدى لك من رب طريفي وتالدي (7) وهذا الاستدلال ساقط، لأن جواز إطلاقه لغة مما لا يمكن توهم خلافه من غير فرق، وقد اطلق معرفة في شعر ابن حلزة في منذر بن ماء السماء: وهو الرب والشهيد على يو * م الحيارين والبلاء بلاء (8) وقد مر بيان حول ذلك. وأعجب من ذلك كله منع بعض جواز إطلاقه مضافا إلى العاقل، كرب الإنسان والعبد، لأنه يوهم الشرك، حتى روي عن أبي هريرة رواية في ذلك، ولا ينبغي أن يتفوه العاقل بما لا يرضى به العقل، حتى يحتاج إلى مثل هذه التشبثات الباردة، كي يقول الآخر: بأن الرواية منسوخة، وكي يحتاج إلى تأويل الكتاب في سورة يوسف: ﴿اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ﴾ (9)، وغير ذلك من الأباطيل (10)، فلا تخلط.

مسألة: حكم تربية الأنام إذا كان هو تعالى رب العالمين فهو يستحق ربوبية الناس، أفهل يجوز لغيره تعالى أن يتصدى لتربية الأنام بما يختلقه أفهامه القاصرة، ويتخيله عقوله الناقصة، من الأوراد والأذكار المتعارفة في هذه العصور، وقد كان ذلك من العصر الأول، وتورمت وازدادت سعة في عصرنا ويومنا، مع تدخل الأيادي السياسية الخبيثة السيئة الرذيلة، ناظرة إلى هدم أساس الشريعة لإبطال الأديان الحقة، ومتوجهة إلى أن كل من كان فيه جهة كمال وولاية، فله أن يتصدى لذلك، حتى سمعت من طلاب العلوم الدينية ومن طلائهم، هذه الأراجيف الكاسدة، فتوهموا جواز البدار إلى تلك الأذكار الخاصة والأخذ بها، لأن من يعين حدها اتصلت نفسه الكاملة بالولاية المطلقة، فلا يكون مشتبها في الذكر وحده. وبذلك انسد باب الاستدلال عليهم من: أنه تعالى مخصوص بالربوبية، فلا يجوز - من غير طريق الوحي - التصدي لما هو سبب الكمال والخروج من النقص، لأنهم يقولون: هذا من عند الله بطريق الاتصال والتحديث من وراء الحجاب، وما أشبه ذلك قول من يقول: بأن كل ورد وذكر من كل أحد إذا صدر متوجها إلى فرد من الأفراد، واتخذه ذلك بحسن النية، وأتى به متوجها إليه تعالى، فهو من الرب ونوع تربية من قبله تعالى، لأن العالم يد الله، وهو يضع فيها، فلا غيرية حتى يتوهم ربوبيته، فإنه بذلك التقريب أيضا ينسد باب الاستدلال المزبور. فبالجملة: أفهل ترضى لنفسك أن تكون تحت ظل غيره تعالى بهذه التقاريب الفاشلة، أم يلزم أخذ أسباب التربية الروحية من الوجود الخالق للأرواح، المسيطر على ما تحتاج إليه النفوس في العوالم البرزخية والقيامة، ومن الحي القيوم الذي يقف على جميع الخصوصيات الكامنة في زوايا النفوس البشرية، ومن الخبير البصير الذي لا يشتبه عليه الأحوال والحالات، ولا يتغير في الأوراد والأذكار، فاقتضى ربوبيته الإلهية إنزال الكتب وبعث الرسل، ورحمته الواسعة إخراج الطبائع الظلمانية إلى الوجودات النورانية، فلا يجوز التعدي عنه والدخول تحت ربوبية الآخرين، فإنه يلازم ويستلزم في وجه إنكار سعة ربوبيته، بل فيه إشعار بنقصان وسائل تربيته من الكتاب والسنة. ولعمري إن جميع الطرق والمسالك المفتعلة في عصورنا والعصور السابقة مشبوهة، ولا تكون خالية عن أيادي الشياطين الإنسية والجنية، فلتكن من هذا التنبيه القيم على ذكر، ولا تكن من الضالين. وإني قد سافرت الأسفار الكثيرة وشاركت في المحافل غير اليسيرة، وصاحبت أرباب الأذكار الليلية والنهارية في الخلوات الخاصة والجلوات الانسية، فهم وإن كانوا خالين عن مجموعة من الرذائل الكلامية، وفي نوع الحالات والساعات مشغولون بالمباحث التوحيدية الأخلاقية، ولكن كان الشيطان الكبير استولى عليهم، وأخذ منهم ما أراده واشتهاه، فأرسلهم إلى ما عندهم، كما اشتهر ذلك في سائر الفرق الباطلة، فإنه إذا بلغ إلى آماله الأصلية، فلا يبالي بالفروع والأغصان، ولا بغير ذلك مما يبتذله الشيطان. فعلى المسلم المتوجه والمؤمن الكيس: أن يحافظ في طريقته المثلى على ما أتى به النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنه قد أتم أسباب ذلك ويحتاج إلى الجد والاجتهاد في الوصول إلى تلك الغايات والآمال القصوى التي انتظرتها النفوس الراقية، فهذا أمير المؤمنين - عليه صلوات المصلين - فإنه تربى في حجره، وبلغ ما لا يدانيه الملائكة المقربون، وعليك وعلى كل من يقرأ إعانته بالمقدار الميسور، برفض الشهوات وإن كان معسورا، والترنم بمثل هذا البيت: كجا تواند دم از مقامات عارفي زد * كسى كه چون نى به شب ننالد چو نى بصد جا كمر نبندد (11).


1- المفردات في غريب القرآن : 184 ، لسان العرب 1 : 399 ، تاج العروس 1 : 261 ، الكشاف 1 : 10 ، مجمع البيان 1 : 22 ، أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1 : 7.

2- بحار الأنوار 88 : 78.

3- يوسف ( 12 ) : 39.

4- راجع لسان العرب 5 : 95 ، وتاج العروس 1 : 260.

5- انظر روح المعاني 1 : 73.

6- نفس المصدر.

7- حكاه الآلوسي في المصدر عن بعضهم فراجع.

8- لسان العرب 5 : 94 ، تاج العروس 1 : 260.

9- يوسف ( 12 ) : 42.

10- انظر لسان العرب 5 : 95 ، وتاج العروس 1 : 260 ، وروح المعاني 1 : 73.

11- البيت من صفا الأصفهاني وكذا في بعض المنتخبات والصحيح : صفا به رندى كجا تواند دم از بيانات عاشقي زد * كسى كه نالد به ناله نى ، چونى به هر جا كمر نبندد.