الحكمة والفلسفة

وهنا مباحث:

المبحث الأول: حول حصر الربوبية فيه تعالى ظاهر الآية الشريفة انحصار وصف الربوبية فيه تعالى وتقدس، وإذا كان المراد من " العالمين " جميع العوالم القابلة للتربية، فيكون ربوبيتها منحصرة في ذاته تعالى، ومعنى الحصر هنا أمران: أحدهما: أن جميع تلك العوالم تحت ربوبيته، بحيث لا يكون لواحد منها رب آخر مستقل في الربوبية. ثانيهما: أنه لا يوصف بالربوبية حقيقة أحد، لا مستقلا ولا تبعا، وإفاضته بمعنى أن يستند إليه الربوبية حقيقة. فإن كان معنى الربوبية: هي تهيئة أسباب الوصول إلى الكمال، مع ترتب الغاية عليه والإيصال إليها وإلى الغايات المسانخة المطلوبة، فهي قابلة عقلا للمنع وللحصر فيه تعالى، فإن حصول الغايات بتهيئة الأسباب الظاهرية بيد القدير العليم، وبمجرد تحقق المعدات لا يحصل النتيجة المرغوب فيها إلا بإرادته تبارك وتعالى، حسب ما برهن عليه في محله (1)، حتى في قياس الاستنتاج، فإن المقدمات ليست علة تامة، كما توهمه المفوضة (2)، وليست خارجة عن الدخالة الناقصة والعلل الإعدادية، كما تخيله الأشاعرة (3)، بل هي إعداد لصورة النتيجة. وإن كان معنى الربوبية هي تهيئة الأسباب الممكنة للوصول، وإن لم تكن بالغة إلى حد النصاب التحقيقي حتى يحصل الكمال المطلوب، فنفي ذلك وإثباته للحق الأول خلاف ما تحرر في محله، ضرورة أن الأسباب والحركات الجزئية الخارجية - من المربين والمعلمين، ومن الطبائع والأسباب الطبيعية كالحرارة ونحوها - علل إعدادية حاملة للإمكانات الاستعدادية، فلأجل ذلك يدور الأمر بين الأمرين. أما إنكار كون الآية في مقام حصر الربوبية المطلقة في جنابه تعالى، بل في مقام نفي استقلال الغير في عالم من العوالم استقلالا ذاتيا، أي يكون هو إله ذاك العالم والسبب الاستقلالي لإصلاح حاله، فلا يدل إلا على وحدة إله العالم ورب العالم، من غير كونه منافيا لكون الغير مربيا، لا يستند إليه تعالى في وجوده، لا في التربية التي هي فعله، أو إنكار إعدادية الغير في التربية والاحتمال الأول غير صحيح، لأن الظاهر من الآية الكريمة حصر الربوبية للعالم فيه، أي لأجل عموم المتعلق يستكشف انحصار المضاف إلى ذلك العام فيه تبارك وتعالى، فهو الرب في جميع العوالم، ويكون الأمر بيده، فيسقط قول التفويضي: بأن الأمور مفوضة، وتكون الفواعل الاختيارية، تامة الاختيار في الفاعلية، لأن معنى ذلك أن الإنسان رب نفسه، بل الأب رب الابن ورب التلامذة، وهكذا، وهو خلاف الآية. بل حسب ما تحرر في قواعدنا الحكمية، وصرح به الوالد المحقق - مد ظله - في رسالته الموسوعة في الجبر والتفويض والطلب والإرادة: أن النزاع بين المعتزلي والأشعري عقلي، يشمل جميع الفواعل الاختيارية وغير الاختيارية (4)، ومن يريد إثبات استقلال العباد في أفعالهم، فعليه إثبات استقلال سائر العلل في ذلك، قضاء لحق بعض الأدلة القائمة عليه. إن الآية تنفي هذه المقالة وتورث أن الأشياء لا علية لها في التربية والربوبية. وغير خفي: أن معنى الرب في سعة عجيبة يشمل جميع الأشياء، ويكون مقتضى انحصاره فيه تعالى سقوط جميع الموجودات عن كونها علة تامة لشئ في هذه النشأة، وهي نشأة التربية والإخراج من القوة إلى الفعل. ويبقى - حينئذ - الاحتمال الثاني - وهو نفي الاعدادية للغير - فيكون الآية دليلا على مقالة الأشعري، وسيظهر ذلك في البحث الآتي إن شاء الله تعالى.

إشراق وإيماء

إذا كان العالم هو المعنى الظرفي، أي ظرف اعتباري لما فيه، ولذلك يستعمل مع " في "، فيقال: زيد في العالم، وهذه الأشياء في العالم السفلي، وأولئك الملكوتيون في العوالم العليا، فاستناد الربوبية إليها مجازي، لعدم معقولية العالم لكونه مربوبا، فإنه هيئة اعتبارية إحاطية على كافة الخلق أو كل شئ، لما أن لكل شئ عالما هو فيه، ويتحد معه في الاعتبار. وبعبارة أخرى: لا خارجية للعالم إلا تبعا تخيليا، ف? " هو رب العالمين " نوع من المدح، وغير موافق للواقع والتحقيق، فيتكلم العبد بذلك في مقام الخضوع والخشوع. فتصير النتيجة أن الآية لا تدل على خلاف مسلك التفويض، ولا يسقط قوله بها.

المبحث الثاني: حول نفي العلية الإعدادية بالآية مقتضى ظهور الآية في انحصار الربوبية للعالمين فيه تعالى، أن العلل الإعدادية - أيضا - تستند إليه تعالى، فتكون النتيجة والمقدمات بإرادته وقدرته، فيثبت بذلك مقالة الأشعري وهو الجبر وانتفاء الوسائط في الدخالة والعلية الإعدادية، وقد مر: أن الربوبية هي تهيئة الأسباب للانتهاء إلى الغاية المطلوبة، وأما ترتب تلك الغاية فهو ليس داخلا في معنى الرب، ولذلك يقال: إن زيدا - مثلا - ما قصر في تربية ابنه، ولكنه ما كان قابلا لذلك. ويؤيد ذلك - في نفي إعدادية أفعال الغير، فضلا عن الاستقلال والإفاضة - قوله تعالى: ﴿أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ (5)، مع أن الزارع هو الفلاح الذي يبسط الزرع، ولذلك اشتهر: أن الزرع للزارع ولو كان غاصبا، ولو كان الزارع هو الله تعالى لكان الزرع له، فليتأمل جدا. والذي هو التحقيق: أن الإعدادية - أيضا - ذات جهتين: جهة كمال وجهة نقص، وليست العلل الإعدادية إلا معاليل فعلية للعلل الحقيقية، وتكون إعداديتها باعتبار المعلول الآخر المتأخر المترتب عليه، فتلك الصورة المعدة مفاضة من الغيب أيضا، وإذا كانت إرادة الفاعل وفاعلية سائر الفواعل فانية في تلك الإرادة، وظل تلك الفاعلية، يصح أن يقال بانحصار الربوبية الحقيقية في حضرته الربوبية تعالى وتقدس. وإن شئت قلت: إذا انضم الوجدان إلى هذه الآية الكريمة، يحصل المذهب الوسط والطريقة العليا، فإن الوجدان حاكم بأن هذه العلل لها الدخالة في الربوبية، وهي العلل للتربية، والبرهان والقرآن يناديان بأن الواجب عز اسمه باسط اليد، وغلت أيدي من يقول بخلافه. فإذا لابد من الجمع بين هذه الشواهد، فتصير النتيجة أمرا بين الأمرين، نفي استقلالية الفواعل وإثبات تبعيتها في العوامل، وهو الحد المتوسط والصراط المستقيم.

المبحث الثالث: في كونه تعالى علة مبقية قد تقرر في قواعدنا الحكمية: أن الممكنات كما تفتقر إلى العلة المحدثة، مفتقرة إلى العلة المبقية حال بقائها، فإذا كان معنى الرب هو تبليغ الشئ إلى كماله اللائق به شيئا فشيئا وحالا فحالا، وكان هو تعالى رب العالمين، يثبت أنه تعالى هو العلة المبقية، وإذا كان هو السبب المبقي فلا خلاف في أنه السبب الموجد، فيعلم من ذلك وحدة السببين الموجد والمبقي، كما تحرر: أن ما يستند إليه الممكن في أصل وجوده حدوثا يستند إلى شخصه بقاء، وأن السبب الموجد عين السبب المبقي (6). وقيل: ليس فيه دليل على ذلك، إذ الشئ التدريجي لما كان حصوله على هذا الوجه، فجميع زمان وجوده هو بعينه زمان حدوثه، فالنامي - مثلا - زمان نموه من أول نشوه إلى منتهى كماله المقداري، هو زمان حدوث مقداره الحاصل له شيئا فشيئا، وذلك مثل فعل الصلاة، فإن زمانه من لدن أول تكبيرة الافتتاح إلى آخر تسليمة الاختتام، كله وقت الحدوث، لا وقت البقاء (7).

أقول: هذا غير صحيح، لأن لازم ذلك إنكار البقاء لكل شئ بناء على ثبوت الحركة الجوهرية، ويلزم أن يكون كل آن آن الحدوث، فكيف يتصور الموضوع الباقي في الحركة ؟! فما في تفسير صدر المتألهين (قدس سره) لا يخلو عن غرابة. وحل المشكلة: أن ما يتدرج في الخارج نحو وجوده التدريجي قابل للقسمة الوهمية، وبلحاظ هذه القسمة يقال: كل مرتبة منه حادثة، وهذا الموجود دائما حال الحدوث، ولكن تلك الشخصية المتدرجة باقية بشخصها، ومتدرجة في ما لا يكون مقوم شخصيتها، ولذلك يقال: بالوجدان الصلاة قد وجدت، وهي باقية إلى زمان الختم بالسلام، وفي هذه الإشارة يكون المشار إليه نفس الطبيعة الإجمالية، مع قطع النظر عن الأجزاء التفصيلية. إن قلت: ربما تكون ربوبيته تعالى كربوبية الأنبياء والرسل والمعلمين والآباء، من غير كونها علة مبقية. قلت: هذا خلاف العموم المستفاد من إضافة الرب إلى العالمين، فلو كان في زاوية من زوايا العالم العلة المبقية إلى الكمال الممكن غيره تعالى، فالآية تنفي ذلك.

المبحث الرابع: حول استفادة تدريجية العالم من الآية

قيل: إن الآية تدل على أن العالم التدريجي الحصول متدرج في التكوين، ونحن قد أثبتنا في العلوم البرهانية، حدوث العالم بإقامة البراهين القطعية عليه، وعلى أن جواهر العالم والصور الطبيعية للأجرام السماوية والاسطقسية، كلها تدريجي الكون سيالة الحصول غير قارة الوجود، كالحركة المتصلة ومقدارها من الزمان (8).

. ويتوجه عليه: أن الآية لا تدل على ذلك، بل الآية تدل على أن كل ما أمكن أن يتربى فمربيه رب العالمين، وأما أن كل موجود في هذا العالم يتدرج من النقص إلى الكمال، فهو يطلب من مقام آخر. وبعبارة أخرى: كما أن معنى الرب، يستلزم كون المراد من العالمين عالم الماديات العلوية أو السفلية، ولا يشمل المجردات المحضة التي لا تتدرج في الوجود، ولا تتحرك نحو الكمال، بل هي الإبداعيات المفارقة للمواد والأزمان، كذلك هو يستلزم اختصاص الربوبية بما يمكن أن يطرأه التدرج، كما في المقولات الأربع العرضية، وأما في مقولة الجوهر فلا يمكن مثلا، فلا تشملها الآية الكريمة الشريفة، فما في كلمات الصدر المتقدم وصاحب الحكمة المتبالية، لا يخلو عن تأسف. نعم يمكن دعوى: أن قضية العموم خروج جميع العوالم من النقص إلى الكمال، وجميع الأشياء من القوة إلى الفعل قضاء لحق عمومية ربوبيته، ولكن قد خرجنا عن هذا العموم، لقيام القرينة العقلية في الإبداعيات، فيبقى الباقي تحته، فإن البرهان على امتناع الحركة الجوهرية، فتكون تلك أيضا خارجة، وإلا فقضية الكتاب خروج جميع مراتب العالمين من النقص إلى الكمال، وشمول ربوبيته تعالى لتلك الأشياء، جوهرية كانت أو عرضية، فافهم واغتنم وتأمل جدا.

المبحث الخامس: حول استفادة كونه تعالى ربا للعالمين بلا واسطة ربما يستظهر من الآية الكريمة الشريفة أنه تعالى رب العالمين بلا واسطة، وهذا يستلزم شبهات عقلية: وأهمها: أنه كيف يعقل للقديم الواجب من جميع الجهات، المتعالي الذات عن كافة الموجودات، مباشرة الحركة المستلزمة لوقوعها على المباشر، فإنه لا يعقل أن يوجد شئ حركة بالمباشرة ولا يخلو عن تلك الحركة الشخصية أو نوع آخر منها، وجميع الحركات في حقه تعالى ممتنع قطعا. وبعبارة أخرى: الطبيعة أو الجسم المتحرك في الأعراض، سبب مباشر لتلك الحركات، وتقوم تلك الحركات به قياما حلوليا، لكونه موضوعا لها، وصدوريا باعتبار كونه علة قريبة لتلك الحركة، وكل ذلك في حقه تعالى ممتنع، لعدم مزاولته مع المادة المتحركة، ولا مع الجسم، ولا غير ذلك بالضرورة، ولو كانت الربوبية بالإرادة، فكيف يتصور حصول الحركة والخروج من القوة إلى الفعل، مع عدم تجدد في الإرادة ولا في المريد، مع أننا إذا أردنا حركة شئ عرضيا كالحركة الوضعية أو الأينية، فلابد وأن يحصل فينا تلك الحركة حتى يحصل للآخر، فلابد من تصوير وقوع الحركة من المحرك على وجه لا يوصف المحرك بالحركة، لا ذاتا، ولا صفة، ولا إرادة، وهكذا، وعند ذلك كيف يكون هو رب العالمين، لما أن حقيقة الربوبية متوقفة على إخراج الشئ إلى ما يليق به حالا فحالا، كما عرفت في مباحث اللغة والصرف. أقول: لا شبهة في أن العاشق يتحرك - بحسب الوجدان - في العشق المجازي نحو المعشوق، وهو نائم في بلده وغافل عن عشاقه ومجانينه، فهل هذه الحركة الموجودة في العاشق بالعشق المتعلق بالصورة المعشوقة بالذات، وبالمعشوق الخارجي بالعرض، لا تكون تستند مجازا إلى المعشوق، فيقال: إنه يحركه ومحركه وإن الحركة مستندة إليه، لكونها تنتهي بالوصول إليه، فهي الغاية لها والغاية لأمدها، فلو كان - حسب المكاشفة والبرهان - جميع الأشياء عاشقا لجماله وكماله بالعشق الذاتي والشوق الطبيعي، ومتحركا نحو ذلك الوجود الكامل على الإطلاق بالمحبة والعلقة الإدراكية وغير الإدراكية، فيكون متحركا ومتوجها إلى الكمال وخارجا من القوة والنقص إلى الفعلية المحضة والكمال الإلهي، فيحصل فيه من تلك الحركة ما هو المطلوب الأعلى والمحبوب الأحلى، وكانت تلك الركيزة وهذه الخاصة الطبيعية والإدراكية، من عنايته تعالى وحكمته الكامنة في الطبائع والأشياء، فهل عند ذلك لا يوصف هو تعالى بربوبية العالمين ؟! كلا وحاشا، والحمد لله تعالى. وإن شئت قلت: إن خروج الشئ من القوة إلى الفعل: تارة يكون بمخرج طبيعي وفاعل مزاول للمادة، كإخراج شئ من قوة الحركة الأينية إلى فعليتها، وأخرى يكون بمخرج إلهي، فإن كان على الثاني، وكان الخروج تحت إرادته القديمة الأزلية فيما لا يزال على العلية والمعلولية وعلى النظام الأتم، فيكون المراد بتلك الإرادة تابعا لكيفية الإرادة، فإن كانت الإرادة تعلقت بوجود الشئ إبداعا فيما لا يزال، فيصير ذلك الشئ موجودا في ظرفه فيما لا يزال، إلا أن هذا خارج عن النظام الرباني، فإن الموجودات في عمود الزمان كلها - حسب الاصطلاح - من الكائنات المسبوقة بالمادة والمدة وليست إبداعية، وإن كانت تعلقت بذلك الوجود حسب النظام الرباني والخروج من القوة إلى الفعل، فيصير ذلك حسب كيفية الإرادة، من غير خلل في أركانها أو تجاف في ذاته تعالى، ومن غير لزوم التبدل في نفس الإرادة، بل لو تخلف المراد عن تلك الإرادة للزم الاختلال في صفته تعالى، المورث للاختلال في الذات، لمكان الاتحاد. فعلى هذا هو تعالى رب العالمين، لأنه لا يعقل الخروج من القوة إلى الفعل إلا بنفوذ إرادته وسعة قدرته. وهذا الذي ذكرناه مجمل من المسائل الكثيرة الربوبية والطبيعية، المحررة في محالها البالغة إلى نصاب التحقيق وميقات التدقيق، وتفصيله على وجه النشر في كتب إمام الفن، صاحب " الحكمة المتعالية "، وإجماله على سبيل النظام العلمي المتين في قواعدنا الحكمية. وبالجملة: هذه النشأة معدة، وفيها الصور المفارقة عن المواد فيها الواصلة إلى الأسماء والربات المناسبة معها والمقامات المهيأة لهم، والحركة الموجودة في مجموع هذا العالم لو كانت مستندة إلى نفسها، للزم اتحاد المحرك والمتحرك، فتكون مستندة إلى ما وراءه. وإذا كانت هي مستندة إليه تعالى: فتارة يكون مباشرته تعالى كمزاولة المربية الجالسة بجانب المهد، فهو يستلزم وقوع تلك الحركة في يدها، ومن يدها تسري إلى نفسها، وأخرى تكون بالوجه المشار إليه. فافهم وكن من الشاكرين.

المبحث السادس: المناسبة بين الاستدلال بوحدة العالم على وحدة إله العالم وهذه الآية قد اشتهر بين أبناء الفلسفة العليا الاستدلال لوحدة إله العالم بوحدة العالم (9)، وهذا لا يناسبه الآية الكريمة الشريفة الصريحة في تعدد العالم، ولا المآثير والأخبار الواردة عن الأئمة المعصومين - عليهم صلوات المصلين - الصريحة في أن لله تعالى ألف ألف عالم (10)، فكيف الجمع بين ذاك وبين هذه الأمور؟أقول: استدلوا على وحدة إله العالم حتى قيل: فبالنظام الجملي العالم * شخص من الحيوان لا، بل آدم لكن لا رأس له كالإنسان البشري، ولا ذنب كالحيوان العنصري، كما ليس له تشه ولا غضب لبراءة السماوات منها، وليس من شرط الحيوانية والإنسانية المطلقتين هذه، بل الحياة ودرك الكليات، وهما حاصلان له باعتبار اشتماله على النفوس والعقول، وحينئذ فمع تعدد إله العالم، تتوارد العلل المستقلة على المعلول المشخص من الإنسان الكبير الشخصي الذي قد انفعل وتأثر. وهذا محال، فتعدد الإله محال (11). وأنت خبير: بأن في هذا التقريب قصورا لا ينتهي إلى التحقيق، لأنه لا يفيد إلا الوحدة الاعتبارية فلا يكشف عن وحدة الإله. وقيل: إن مجموع العالم شخص واحد له وحدة طبيعية، وليست وحدته كوحدة أشياء متغايرة، اتفق أن صارت بالاجتماع والانضمام كشئ واحد، مثل اجتماع البيت من اللبنات واجتماع العسكر من الأفراد، وذلك لأن بين أجزاء العالم علاقة ذاتية، لأنها حاصلة على الترتيب العلي والمعلولي، وهي مترتبة بالأشرف فالأشرف إلى الأحسن فالأحسن، ومن الأعلى فالأعلى إلى الأدنى فالأدنى، وكل جمعية تقع على هذا الوجه تكون الوحدة فيها وحدة ذاتية، وذلك لما عرفت أن العلة تمام المعلول، والأشرف تمام الذي دونه في الشرف، والشئ الذي يكون مع تمامه هو أولى به أن يكون مع نفسه، فيكون واحدا بوحدته. وبالجملة: صرح صاحب " الحكمة المتعالية ": بأن العالم واحد شخصي بالبرهان عندنا وعند الحكيم أرسطو، حيث قال: بأن العالم حيوان واحد مطلب " ما هو " و " لم هو " فيه واحد، فمن علم أنه ما هو علم أنه لم هو، فإذا كان كذلك ولا شبهة أن العلة الغائية لجملة العالم - المسمى عند العرفاء بالإنسان الكبير - هو الحق الأول جل ذكره، فيكون هو الجواب عن السؤال عن مطلب " لم هو " (12).

ما أردنا نقله. وغير خفي: أنه (قدس سره) ما عقد فصلا في كتابه الكبير لإثبات وحدة إله العالم (13)، وإن أصر في موضع آخر على وحدة العالم وحدة شخصية. وأنت خبير بأنه لو كان يتم هذا البرهان في حد ذاته، لكان يمكن الجمع بين ذلك وبين تلك الأدلة، بحملها على الكثرة الاعتبارية، لما قد مضى من أن لفظة " العالم " موضوعة لشئ يكون سعة مصداقه وضيقه تابعين لاعتبار المستعمل، فيصح إطلاقه وإرادة ما سواه تعالى، بل قد مضى أن من العوالم عالم السرمد وعالم الهاهوت، وهي وعاء الذات في وجه تخيلي ترشيحي، ولكن ما راموه بنبال أفكارهم القديمة - الغير المشفوعة بالكشفيات العرفانية، وغير المصحوبة مع أرباب الوحي والتنزيل - غير موافق للذوق السليم والعقل المستقيم، من غير احتياج في مسألة من المسائل الإلهية والطبيعية إلى إثبات تلك الوحدة الطبيعية الوهمية التخيلية، الفاقدة لأول مرتبة التحقيق، فضلا عن أعلاه، وذلك لما تقرر في هذه الأعصار من أجنبية هذه الزاوية من المنظومة الشمسية عن الزوايا البعيدة عنا بما لا يحيط به علماء السلف، حتى تكون الجواذب المدعاة بين الأشياء منقطعة، وإن لم يثبت عندنا قانون الجاذبة بعد، بل أقمنا بعضا من البراهين على عدم وجوده في بعض المحافل العلمية، فكيف يكون بين هذه الأمور المتفرقة المتنائية غير المترابطة لشدة البعد، وحدة طبيعية ذاتية ؟! ضرورة أنها وحدة كوحدة الإنسان، وهي ليست وحدة مساوقة للوحدة الواقعية، بل هي وحدة تأليفية، ومع ذلك لا توجد تلك الوحدة في هذه النشأة. نعم كانوا يتخيلون الهيئة " البطلميوسية " المحدودة بالأفلاك التسعة، فأقاموا على وحدة الإله بتلك الوحدة برهانا، ولو كانوا يأتون أبواب البركات والخيرات والأئمة المعصومين - عليهم صلاة رب الراقصات - لما خفي عليهم هذه المسائل والمباحث، وإليك نبذة يسيرة من المآثير، حتى يتضح لك حقيقة الحال على الوجه الأعلى والأحسن:

1 - علي بن إبراهيم القمي الكوفي (رحمه الله) عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سمعته يقول: " إن الله خلق هذا النطاق زبرجدة خضراء، فمنها اخضرت السماء. قلت: وما النطاق؟قال: الحجاب لله عز وجل، وراء ذلك سبعون ألف عالم أكثر من عدة الجن والإنس " (14).

2 - وبإسناد آخر عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " من وراء شمسكم هذه أربعون عين شمس، ما بين عين شمس إلى عين شمس أربعون عاما فيها خلق كثير، ما يعملون أن الله خلق آدم أو لم يخلق، وإن من وراء قمركم هذا أربعين قرصا، بين القرص إلى القرص أربعون عاما، فيها خلق كثير لا يعلمون أن الله خلق آدم أو لم يخلقه " (15)، الحديث.

3 - محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب، عن أبان بن تغلب، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام)، فدخل عليه رجل من أهل اليمن، فقال له: " يا أخا اليمن عندكم علماء؟قال: نعم. قال: فما بلغ من علم عالمكم؟قال: يسير في ليلة واحدة مسيرة شهرين يزجر الطير ويقفوا الآثار. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): عالم المدينة أعلم من عالمكم. قال: فما بلغ من علم عالم المدينة؟قال: يسير في ساعة من النهار مسيرة الشمس سنة، حتى يقطع ألف عالم مثل عالمكم هذا، ما يعلمون أن الله خلق آدم ولا إبليس. قال: فيعرفونكم؟قال: نعم، ما افترض الله عليهم إلا ولايتنا والبراءة من عدونا " (16).

4 - وغير ذلك مما هو مسطور في كتاب " الكافي " وغيره، ومن شاء فليراجع (17). فعلى ما تقرر تكون الآية الشريفة وهذه الأحاديث المنيفة، دليلا ظاهرا على عدم توحد العالم وحدة حقيقية، خلافا لما هو المعروف عن أبناء البرهان، فافهم ولا تكن من الهالكين.

المبحث السابع: الجمع بين ربوبيته والشقاوة الفعلية في العالم قضية الآية الشريفة أن جميع آحاد الأشياء القابلة للربوبية، ولتعلق إرادته تعالى به تعلقا ربوبيا، فيكون كل ممكن خارجا من القوة إلى الفعلية بربوبيته، فيلزم كون الأشياء والأشخاص المتربية في الشقاوة والمتحركة في الظلمات، من ربوبيته تعالى وعموم تربيته، وهذا - مضافا إلى تنزهه تعالى عن ذلك - يستلزم كون الشقاوة الفعلية من ناحيته المقدسة، وهذا في وجه هو الجبر، لأن سبب سوء الاختيار هي الشقاوة، وهي تحصل من ربوبيته تعالى. وإن قلنا بأن خروجها من النقص إلى الكمال من شؤون تربيته دون العكس، فيلزم عدم نفوذ إرادته، وهو أفحش فسادا، لقوله تعالى: ﴿يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء﴾ (18). والذي به انحلت المعضلة في الكتب العقلية: أن نفوذ قدرته وإرادته مما لا شبهة فيه، وعموم الحركات مستند إليه تعالى وتقدس في أية زاوية وقعت في العالم، وأن الشقاوة والسعادة بذرتان أنشئتا في الأصلاب والأرحام، بسوء اختيار الآباء والأمهات وانحرافهم الاختياري عن جادة الاعتدال والشرائع، وأنهما ليستا ذاتيتين إيساغوجيين ومن الكليات الخمس، ولا ذاتيين في باب البرهان حسب ما تبين في المنطق اصطلاحا، بل هما من خواص ولوازم الوجود، ولا يخرج السعيد عن الاختيار حتى لا يكون فيما يصدر منه مورد التحسين، ولا الشقي عن الإرادة والاختيار حتى لا يكون مورد التقبيح. مع أن هذه الآية الكريمة ظاهرة وناظرة - عند بعض - في أن الحركات المنتهية إلى السعادة مورد ربوبيته تعالى، لأنه هو معنى الرب، وليس الإخراج من الكمال إلى النقص ومن القوة إلى فعلية ظلمانية من الربوبية، فالآية لا تورث توهم دلالتها على ما أشير إليه. والحق: أن معنى التربية والربوبية ليس إلا تهيئة أسباب الوصول إلى الكمال، وأما بلوغه إليه خارجا فهو خارج، لما يمكن استناد عدم البلوغ إلى قصور الماهيات وعدم قابلية المحال، فهو تعالى تصدى لتربية العالمين من ناحية اقتضاء اسمه الخاص، وهو الرب، وأما الخواص وآثار سائر أسمائه تعالى - كالمضل والضار وغيرهما - فلا ينبغي خلطها مع آثار غيرها. وللمسألة طور آخر من البحث، ربما يأتي في مطاوي المباحث الآتية في هذا الكتاب - إن شاء الله تعالى وتقدس -. ومن الممكن أن يقال: إن الحق الأول المتصدي لتربية العوالم، ولإخراج العالمين من النقص إلى الكمال، يكون نظره التربية حسب النظام الأتم، ولا معنى للغايات الخاصة بكل موجود، ولا للأغراض المخصوصة بكل متحرك المتوهمة عندنا، في أن تكون الحركة نحوها والتربية لأجلها، بل غاية التربية، وهي غاية الغايات في مقام الظهور هي النظام، فلو انتهى موجود في التربية إلى الشقاوة والضلالة، فهي بالقياس إلى حاله الفردية ليس من التربية، وأما بالقياس إلى اقتنائه في النظام الجملي، الذي هو تابع النظام الرباني، الذي هو ظل النظام الإلهي، فهو من التربية، ويحصل به ما هو الغاية القصوى التي يمكن أن يعلل به فعل الله تبارك وتعالى، فلا تكن من الخالطين. ويحتاج كل قارئ لهذه المسائل المعنونة هنا إلى مقامات اخر، حتى يمكن من درك حقيقة علم التفسير، فإنه علم في لحاظ اعتباري لا واقعية له، وفي لحاظ فيه كل العلوم فانية، ويشتمل ويحتوي على جميع المسائل الفكرية، فليغتنم.

المبحث الثامن: حول قبول المجردات للتربية مقتضى عموم تربيته للعالمين أن كل ما في العالم قابل للتربية، فيكون جميع الموجودات الأمرية والخلقية، وتمام الأشياء الإبداعية والاختراعية والكائنة، ممكنة الخروج من القوة إلى الفعلية، وهذا ينافي ما برهن عليه في الكتب العقلية (19)، بل وفي طائفة من الآثار العلوية (20) من: أن طائفة من الموجودات والمجردات الإبداعية، سواء كانت مجردات صرفة عقلية، أو مجردات عن المواد دون مقارناتها كالمقدار ونحوه، والاختراعية التي هي صاحبة المواد الأثيرية - حسب ما توهموه - ليست قابلة لذلك، بل الحركة مخصوصة بالعناصر لما فيها من المواد الحاملة للإمكان الاستعدادي والقوي المنتظرة. فبالجملة: لا وجه لأن يستكشف من مفهوم الرب خروج هذه الطائفة عن الآية، بل الوجه استفادة خروجها أيضا من القوة إلى الفعل واندراجها في ذيل الكريمة. قلت: نعم لو كانت المسألة غير مبرهنة في محلها، كان الأمر كما تحرر، ويكفي للتخصيص حكم العقل، بل وما في المآثير من النقل، مثل هذه الجملة المعروفة من " نهج البلاغة ": " منهم سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون " (21) فليتدبر جيدا. وأما الاستكمال بمعنى التجليات الفعلية والجلوات الذاتية، فهي ليست من الاستكمال الاصطلاحي، وإلا يلزم استكماله تعالى أيضا، لما له الجلوات والاستكمالات. وما ورد من: أن الأئمة (عليهم السلام) يزدادون علما ليلة الجمعة، فهو يشتمل على رموز ودقائق ومن شاء فليراجع " الكافي " (22). وفي تلك الأخبار ما يصرح بأنهم فيها مسرورون، والسرور والبهجة هي التجليات الحاصلة لهم، فلا تخلط.


1- الأسفار 2 : 216 و 6 : 369.

2- انظر شرح المقاصد 1 : 237 ، وشرح المواقف 1 : 243 ، وكشف المراد : 240.

3- شرح المقاصد 1 : 237 ، شرح المواقف 1 : 241 - 242 ، وانظر كشف المراد : 240.

4- رسالة الطلب والإرادة ، الإمام الخميني ( قدس سره ) : 53 - 54.

5- الواقعة ( 55 ) : 64.

6- الشفاء ( قسم الإلهيات ) : 261 - 268 ، التحصيل : 524 - 527 ، الأسفار 1 : 219 - 221 و 2 : 214 - 216.

7- تفسير القرآن الكريم ، صدر المتألهين 1 : 78.

8- تفسير القرآن الكريم ، صدر المتألهين 1 : 81.

9- الأسفار 6 : 92 - 100 ، شرح المنظومة ( قسم الفلسفة ) : 150 - 153.

10- انظر الخصال 2 : 796 / 54 ، تفسير القمي 2 : 409.

11- انظر شرح المنظومة ( قسم الفلسفة ) : 153.

12- انظر الأسفار 7 : 113.

13- بل قد عقد فصلا ، انظر الأسفار 6 : 92.

14- بصائر الدرجات : 512 / 7 ، تفسير البرهان 1 : 47 / 9 ، بحار الأنوار 54 : 330 / 15.

15- بصائر الدرجات : 513 / 9 ، تفسير البرهان 1 : 47 / 12 ، بحار الأنوار 27 : 45 - 46 / 6.

16- بصائر الدرجات : 421 / 15 ، تفسير البرهان 1 : 48 - 49 / 16.

17- راجع بحار الأنوار 27 : 41.

18- فاطر ( 35 ) : 8.

19- انظر الأسفار 3 : 59 - 60 و 7 : 148 و 262 - 274 ، والقبسات : 380 - 390.

20- مناقب آل أبي طالب 2 : 49 ، تاريخ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : الباب 93 ، الحديث 54 ، بحار الأنوار 40 : 165.

21- نهج البلاغة ، صبحي الصالح : الخطبة 1.

22- الكافي 1 : 253 - 254 ، باب في أن الأئمة ( عليهم السلام ) يزدادون في ليلة الجمعة.