علم الأسماء والعرفان

اعلم أن من المحرر في محله: أن الاسم ينقسم باعتبار إلى أسماء الذات والصفات والأفعال، وإن كان كلها أسماء الذات في اعتبار آخر، ولكن باعتبار ظهور الذات وظهور الصفات وظهور الأفعال تسمى أسماء الذات والصفات والأفعال، ومن الأسماء ما يكون مجمع الاعتبارين لاختلاف اعتبار معناها، لما فيه ما يدل على تلك الظهورات الثلاثة، وقد عدوا منها الاسم " الرب "، فإنه بمعنى الثابت للذات، وبمعنى المالك للصفات، وبمعنى المصلح للفعل (1). وقد صرح بذلك بعض مشايخنا، وهو المروي عن شيخ هذه الطريقة (2)، وقد عد في رسالة تسمى ب? " إنشاء الدوائر " الرب من أسماء الذات، وجعله الثاني، حيث شرع في عدها هكذا: الله، الرب، الملك، القدوس، السلام... إلى آخر ما ذكره هناك (3)، وسيظهر تفصيله عند قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء﴾ إن شاء الله. ثم إنه على مذاق أخذ الرب بمعان مختلفة، من الممكن دعوى استعماله في تلك المعاني كلا، فيكون من استعمال الواحد في الكثير وتختلف - حينئذ - اضافته، فإنه على تقدير يكون المقدر اللام، أي رب للعالمين، وعلى تقدير يكون المقدر " في "، أي رب في العالمين، وعلى الأول يمكن أن يراد منه المصلح والمالك والمعبود، وعلى الثاني الثابت والسيد والمعبود... وهكذا. وعلى مذاق أن " العالم " من العلامة أو من العلم، قابل للصدق على الفرد والكلي والكل والجزء وهكذا، فلك أن تقول: العالم كل ما سوى الله تعالى، لأنه يعلم به الله تعالى من حيث أسماؤه وصفاته، وكل فرد من أفراد العالم يعلم به اسم من أسمائه تعالى، لكونه مظهرا لذلك الاسم، فأجناسه وأنواعه مظاهر للأسماء الكلية، وأشخاصه وجزئياته مظاهر للأسماء الجزئية، فالعقل الأول - لاشتماله على كليات الحقائق وصورها إجمالا - عالم كلي مظهر اسم الرحمن، والنفس الكلية - لاشتمالها على جميع الجزئيات التي اشتمل عليها العقل الأول تفصيلا - عالم كل مظهر اسم " الرحيم "، والإنسان الكامل الجامع للمرتبتين - الإجمالي من حيث روحه، والتفصيلي من حيث مرتبة قلبه - عالم كل مظهر للاسم الجامع للأسماء والصفات، وهو الاسم " الله ". ولما كان كل فرد من الأفراد مظهرا للاسم الخاص، كانت العوالم غير متناهية في هذا الوجه، ولكن الحضرات الكلية الإلهية خمسة، فيكون العوالم الكلية خمسة: الأول: حضرة الغيب المطلق وعالمها عالم الأعيان الثابتة في الحضرة العلمية، ويسمى الغيب، وعالمها عالم الأمر والربوبية والعقل. الثاني: حضرة الشهادة وعالمها عالم الحضرات الأعيان الثابتة العينية، وعالم الشهادة، وهو عالم الملك والشهادة المطلقة في مقابل الغيب المطلق. الثالث: حضرة الغيب المضاف، وهو الأقرب إلى حضرة الغيب المطلق، وهي صورة مجردة عقلية، وعالمها عالم الأشباه والأنوار، وعالم الجبروت، وعالم النفوس الكلية والعقول المجردة. الرابع: حضرة الشهادة المضافة، وهي أقرب إلى عالم الشهادة المطلقة، وهي الصورة المثالية المناسبة لتلك الشهادة، وعالم المثال والملكوت والخيال المطلق والمنفصل، وفي اعتبار عالم المثل المعلقة. الخامس: الحضرة الجامعة للأربعة مظهرا، وعالمها عالم الإنسان والكون الجامع لجميع الأكوان والعوالم وما فيها، فكل عالم متأخر مظهر العالم المتقدم، فعالم الناسوت مظهر عالم الملكوت، وهو مظهر الجبروت، وهو مظهر اللاهوت، وهو مظهر الهاهوت، أي الواحدية الجمعية مظهر الأحدية الذاتية (4)، وهناك عالم آخر لا رسم له ولا اسم ولا يشار إليه حتى بهو، وفي كونها ذات مظهر، خلاف، المعروف عدمه (5)، وارتضى الوالد المحقق - مد ظله - أن له مظهرا لا من سنخ الظاهر، فلا يشار إليه (6). والله العالم.

إيقاظ وتذكرة

في معنى " العالم " قد ارتضى بعض أهل المعرفة هناك طريقة أخرى في معنى العالم وتقسيمه: وهي أن العالم هو الظل الثاني، أي العالم ذات الفاعل، والفاعل ظله، والقابل ظل المعلوم، فيكون العالم هو الظل الثاني، ولذلك يقال للإنسان الكامل: ظل الله، أو لمن يتوهم فيه كمال الجمال، كالملوك: ظل الله، فهو ليس إلا الحق الظاهر بصور الممكنات، أي لظهوره بتلك التعينات سمي باسم السوى والغير باعتبار إضافته إلى الممكنات، إذ لا وجود للممكن إلا مجرد هذه النسبة، وإلا فالوجود عين الحق، والحق هوية العالم وروحه، وهذه التعينات في الوجود الواحد أحكام اسمه الظاهر، الذي هو مجلي لاسمه الباطن. ولهذا قيل: العالم غيب لم يظهر قط، والحق تعالى هو الظاهر ما غاب قط، وأهل الظاهر على عكس ذلك. وقيل: كل هؤلاء عبيد السوء فندعو الله تعالى أن يشفي عباده من هذا الداء ومن تلك الداهية العظمى.

بحث وإرشاد

حول كون " رب " من الأسماء المختصة قد اشتملت كتب اللغة والتفاسير على أن " الرب " من الأسماء المختصة، ولا يجوز إطلاقه على غيره تعالى إلا في صورة الإضافة، فهو الحد الوسط بين كلمتي " الله " و " الرحمن " وبين سائر الأسماء، كما لا يخفى (7). ودعوى ممنوعية ذلك فقها غير ممكنة، لعدم الدليل الشرعي عليه، وتفيد عمومات الحل والبراءة جوازه، مضافا إلى ورود ذلك في بعض الأدعية: " يا رب الأرباب " (8)، فما اشتهر من عدم إطلاقه عند الإطلاق على غيره تعالى، مخدوش بذلك جدا، وعدم اشتهار تسمية غيره تعالى به ككثير من الأسماء لا يورث منع الإطلاق. ثم إن المراد من هذا الدعاء " يا رب الأرباب "، كما يمكن أن يكون أرباب الظاهر كرب الدار والبستان، يمكن أن يراد الوسائط التكوينية كربات الأنواع وأربابها المشتهرة في الكتب العقلية، وقد بسطنا القول في ذلك، وأثبتنا امتناع هؤلاء الأفراد العقلية بعون الملك العلام.

نقل وتوضيح

تطبيق العالم الكبير على العالم الصغير في بعض المآثير: العالم عالمان، صغير وكبير (9)، ويؤيد ذلك ما نسب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام): أتزعم أنك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الأكبر (10) وقد ذكر العرفاء الشامخون في تطبيق الكبير على الصغير كلمات جمة، لا يهمنا نقل خصوصياتها. وإجماله: أن هذا العالم الكبير إنسان واحد بالعدد، باعتبار النفس والعقل الكليين اللذين هما من عالم الوحدة، وباعتبار سريان الوحدة الحقة الظلية إلى أجزائه، وهو عين الهوية، ولا سيما باعتبار تدليه جمعا إلى وجهة الله تعالى وتعلقه بالحق المتعال، تكون السماوات كلها أحياء عقلاء، مسبحين بحمد ربهم لا يسأمون، ومتواجدين في عشق جماله لا يفترون، وذلك لمكان النفوس المتعلقة بها وعقولها المشبهة بها. ويؤيد ذلك ما في بعض الآثار النبوية: " أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد " (11)، فإن الإنسان الكبير ذو العقل والنفس كالصغير، والشمس قلب له، كما أن القلب الصنوبري في الإنسان الصغير أشرف الأعضاء وله الرئاسة، كذلك الشمس في الإنسان الكبير سيد الكواكب من الرئيسة والمرؤوسة، وتلك المادة العنصرية الأرضية والسماوية في جنب تلك العوالم الروحانية، كحجر المثانة (12). وهذا التطبيق في الجسمانيات بلحاظ هذه المنظومة، ولكن في الروحانيات تكون جميع العوالم بالنسبة إلى الإنسان الكامل صغيرة، ولذلك قيل: وفيك انطوى العالم الأكبر فإن الانطواء دليل أكبرية الإنسان، والأكبرية دليل على أن هذا العالم صغير بالنسبة إلى سائر المنظومات الشمسية والمجرات السماوية. وغير خفي: أن كل إنسان فيه قوة كل كمال وجمال، فيكون التطبيق بالقوة، بالنسبة إلى الكاملين يكون التطبيق بالفعل، وإلى بعض ما شرحناه - من أعظمية الإنسان الصغير جسما من العالم الكبير معنى وإحاطة - يشير ما ورد في رواياتنا حول بيان حدود أئمتنا (عليهم السلام) وجودا وسعة وكمالا (13)، وقد أشير إلى بعض تلك الحدود الروايات السابقة، وكفى في ذلك ما يقول خادمهم البسطامي: " لو أن العرش وما حواه ألف مرة وقع في زاوية قلب العارف لما ملأه " (14)، ومن شاء فليرجع إلى محالها.


1- شرح فصوص الحكم ، القيصري : 14.

2- مصباح الانس : 113.

3- إنشاء الدوائر : 28 - 30.

4- شرح فصوص الحكم ، القيصري : 27 - 28.

5- شرح فصوص الحكم ، القيصري : 119 ، مصباح الانس : 14.

6- تعليقات الإمام الخميني ( قدس سره ) على مصباح الانس : 218 ، تعليقات الإمام الخميني ( قدس سره ) على شرح فصوص الحكم : 26.

7- المفردات في غريب القرآن : 184 ، لسان العرب 1 : 399 ، تاج العروس 1 : 261 ، الكشاف 1 : 10 ، مجمع البيان 1 : 22 ، أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1 : 7.

8- بحار الأنوار 84 : 110 / 6 و 88 : 78 و 92 : 94 و 95 : 370 و 89 : 268 و 83 : 232.

9- راجع المفردات في غريب القرآن : 345.

10- ديوان منسوب إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : 57 قافية الراء.

11- الدر المنثور 5 : 273 ، علم اليقين 1 : 259 ، عوالي اللآلي 4 : 107 / 160 ، مسند أحمد 5 : 173 ، سنن الترمذي 3 : 381 / 2414.

12- شرح المنظومة ( قسم الفلسفة ) : 151.

13- الكافي 1 : 111 - 113 / 3 - 5 و 7 و 10.

14- تفسير القرآن الكريم ، صدر المتألهين 1 : 77 ، الأسفار 8 : 311.