علم المعاني والأصول والبلاغة

اعلم قد تقرر في هذين العلمين: أن الجمع المحلى باللام يفيد العموم (1)، واختلفوا في أن العموم مستند إلى الألف واللام لأجل أنه موضوع للاستغراق، أو مستند إليه لأجل أنه يفيد التعريف، فيكون الاستغراق مستندا إلى معروفية المدخول. والثاني عندنا أوفق بالاعتبار. وإذا كان معنى هيئة الجمع الثلاثة في جمع السالم، والعشرة في جمع الكثرة - كما قيل على ما ببالي - فالألف واللام يفيدان التعريف، ولو لم يستغرق المجموع يلزم عدم معروفية الداخل والخارج، وهو يلازم التنكير لا التعريف، كما هو الظاهر. هذا هو المعروف عندنا في محله. وربما يخطر بالبال شبهة لابد من حلها أو العدول عما قلنا، وهي أن التخصيص لا شبهة في جوازه، كما أن التحقيق أن العام المخصص لا يكون من المجاز في الاستعمال، ويصح الاستناد إليه فيما عدا مورد التخصيص، لا لأجل أقرب المجازات، بل لأجل أن الاستعمال الحقيقي باق على حاله، على ما تقرر في علم الأصول تفصيله (2)، فلو كانت الألف واللام موضوعتين لإفادة الاستغراق ليلزم المجازية في مورد التخصيص، لعدم الاستغراق الحقيقي بالضرورة، وهذا نظير ما إذا استعمل كلمة " قوم " في قسم من الجماعة، أو من قبيل استعمال الكلمة الموضوعة للكل في طائفة من الأجزاء. فعليه يعلم: أن الجمع المحلى باللام يورث الاستغراق، عند عدم القرينة الخارجية متصلة كانت أو منفصلة، وهذا معنى أنه موضوع للاستغراق الإضافي، فنحتاج في فهم الاستغراق الحقيقي إلى مقدمات الحكمة، وإلى كون المتكلم في مقام إفادة الاستغراق، وإلا فلا يستفاد منه ذلك، فيكون الألف واللام للزينة، أو لعدم توغل المدخول في النكرة بدخول التنوين عليه، لعدم إمكان اجتماعهما حسب المتعارف في الاستعمالات. ولأجل هذه الشبهة وما يقرب منها، ذهب بعض فضلائنا في الأصول إلى احتياج العمومات كالإطلاقات إلى مقدمات الحكمة (3). ويؤيد ذلك: ما ورد من العمومات التي لا يكون المراد منها إلا معنى إضافيا، منها قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (4) وقوله تعالى: ﴿واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين﴾ (5). وغير ذلك مما هو الكثير في الكتاب، ولم يرد منه العموم الاستغراقي قطعا، فعلى هذا نحتاج إلى ضم المقدمة العقلية الخارجية في فهم العموم والاستغراق، فما في كتب التفسير من استفادة الاستغراق هنا ممنوع إلا بانضمام تلك المقدمة إلى ذلك. أقول: يمكن دفع هذه الشبهة بأن يقال: كما في الاستعمالات الكنائية ليست الألفاظ مستعملة في المعنى المكنى عنه بالضرورة، لأن المعنى المكنى عنه تصوري، وتلك الألفاظ الكثيرة استعملت في المعاني التصديقية، كقولنا في مقام التكنية عن التحير والتردد: " يقدم رجلا ويؤخر أخرى "، كذلك جميع الألفاظ في مقام الاستعمال، لا تستعمل إلا في المعاني الموضوع لها، إلا أن المتكلم ذو حالتين: الأولى: ما يريد منها بالإرادة الجدية تلك المعاني الموضوع لها، فيكون بين الإرادتين الاستعمالية والجدية اتحادا خارجا. الثانية: ما لا يريد من تلك الألفاظ معانيها الموضوعة لها، كلا كما في الكناية، أو بعضا كما في العمومات المخصصة والمطلقات المقيدة، فالتخصيص والتقييد من باب واحد وعلى نسق فارد، في عدم لزوم المجازية بالنسبة إلى العام والمطلق. وهنا بعض مطالب أخرى ومباحث ودقائق قيمة، تطلب من تحريراتنا الأصولية وموسوعتنا الكبيرة في الأصول (6). ولكن مع أن الشبهة قابلة للذب، ولكن الوجدان حاكم بأن للعمومات مصبا خاصا، ويكون الاستغراق بالنسبة إلى تلك المواقف والموارد، ولابد في الاستغراق من مقدمات الحكمة والأمور الخارجة العقلية حتى يثبت العموم الواقعي، ولو سلمنا ذلك في مثل أداة العموم، ك? " كل " وما شابهه في إفادة العموم الاستغراقي أو البدلي - كما لا يبعد - لا نسلم ذلك في المحلى باللام، لا لكثرة استعماله في الكتاب إضافيا، لما عرفت ضعفه، بل لعدم ثبوت إفادته العموم لغة. ومما ذكرناه يظهر ضعف ما في تفسير " العالمين " هنا: من حصر ذلك في بعض العوالم، لما أنها حسب الكتاب استعملت في الأخص، ضرورة أن الإرادة الجدية للأخص في مورد لا تستلزم كون سائر الموارد مستعملة فيه بالضرورة، فلولا القرينة - المتصلة أو المنفصلة - لكان اللفظ قابلا لإفادة الاستغراق، إلا أن ذلك هل يستند إلى الوضع أو إلى مقدمات الحكمة؟فيه خلاف، وعلى كل هنا تكون المقدمات كاملة وموجودة، فيكون - حسب الظهور الأولي - المراد أعم، فيشمل جميع العوالم الممكنة فيها الربوبية والاخراج من القوة إلى الفعل، فبمقتضى هذه القرينة المتصلة، لابد وأن يكون المراد أخص بمقدار اقتضاء دائرة هذه القرينة، لا أزيد ولا أنقص. وبما حصلناه يسقط جميع الأقوال في هذه المرحلة، مع أنها بلغت إلى أزيد من العشرة، كما عرفت. إن قلت: في " تفسير ابن إبراهيم القمي " مسندا عن ابن عباس، في قوله تعالى: ﴿رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال: إن الله عز وجل خلق ثلاثمائة عالم وبضعة عشر عالما خلف قاف وخلف البحار السبعة، لم يعصوا الله طرفة عين قط، ولم يعرفوا آدم ولا ولده، وكل عالم منهم يزيد على ثلاثمائة وثلاثة عشر مثل آدم وما ولد، فذلك قوله: ﴿إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (7)، (8)، فلو كانت العوالم المزبورة هي الموجودات المصاحبة مع المادة القابلة، والخارجة من القوة إلى الفعل ومن النقص إلى الكمال، لكان ينبغي صدور العصيان منهم، فمنه يعلم أن " الرب " لا قرينية له على تخصيص " العالمين " بتلك الموجودات. قلت: وفي " الخصال " عن الصادق (عليه السلام): " إن لله عز وجل اثني عشر ألف عالم، كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات وسبع أرضين، ما يرى عالم منهم أن لله عز وجل عالما غيرهم، وأنا الحجة عليهم " (9). وفي " البصائر " عن الحسن بن علي: " أن لله عز وجل مدينتين: إحداهما بالمشرق، والأخرى بالمغرب، عليهما سوران من حديد وعلى كل مدينة ألف ألف مصراع من ذهب، وفيها ألف لغة تتكلم كل لغة بخلاف لغة صاحبه، وأنا أعرف جميع اللغات وما فيهما وما بينهما، وما عليهما حجة غيري وغير الحسين أخي " (10). وهاتان تدلان - بعد كون الأعداد في الكل محمولة على بيان الكثرة كما هو المتعارف - أن تلك العوالم كانت ذات حجج، ولا تحتاج إلى الحجة إلا إذا كانت فيهم قوة الخلاف، فمن الممكن كون تلك العوالم صاحبة القوة المادية الخارجة من النقص إلى الكمال، ومع ذلك تكون التربية بحيث لا يعصون الله طرفة عين. والله العالم. ثم إن هاهنا روايات نستكشف منها عموم المراد من " العالمين " (11) والأمر - بعدما أحطت به خبرا منا واضح - لا يحتاج إلى نقلها وبيان ضعف ما في بعض الكتاب وبعض من الأسناد الموجودة، فليتدبر جيدا. فبالجملة: لا دليل قطعي على أن المراد من " العالمين " إذا كان أضيف إليه كلمة الرب، هو جميع العوالم الغيبية والشهودية، حتى يقال باعتبار شمولها لعالم الذات، وباعتبار آخر لعالم الصفات وهكذا، بل قضية ما سلف إلى هنا أن " العالمين " في هذه الآية هي العوالم المناسبة لإضافة كلمة " الرب " إليها، فتكون منحصرة بتلك العوالم، ويكون ربها ومربيها ومكملها، ومخرجها من ظلمات المادة وكدورات الطبيعة والنقصان إلى أحسن الأحوال وأعز الكمال، هو الله البارئ، مع حفظ المرتبة، بحيث لا يلزم إشكال. وسيظهر في المباحث المناسبة ما هو حقيقة المقال، وما يمكن أن يخطر ببال. والله خير موفق وإليه الابتهال.


1- راجع كفاية الأصول : 245.

2- انظر تحريرات في الأصول 5 : 216.

3- أجود التقريرات 1 : 440.

4- الأنعام ( 6 ) : 86.

5- البقرة ( 2 ) : 47 و 122.

6- انظر تحريرات في الأصول 1 : 141.

7- تفسير القمي 2 : 409.

8- التكوير ( 81 ) : 29.

9- الخصال 2 : 781 / 14.

10- بصائر الدرجات : 514 / 11.

11- راجع تفسير نور الثقلين 1 : 16 - 17 / 70 - 73 ، وتفسير البرهان 1 : 46 - 49.