علم الفقه والآداب

وفيه ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: هل يجوز حمد غيره تعالى أم لا؟فيه وجهان: ينشئان من أن حقيقة الحمد إن كانت لا تقع إلا لله تعالى فيجوز، وما يتخيل العبد من وقوعه لغيره تعالى لا يستلزم ذلك بالضرورة، لأن الواقعيات محفوظة لا تتبدل بالاعتبار والتخيل. ومن أنه وإن كان بحسب الواقع لا يقع للغير، إلا أن اللازم مراعاة الظاهر، فعلى كل مكلف توجيه الحمد إليه تعالى في مقام الإنشاء واللفظ. وهذا نظير ما قد قيل: إن العبادة لا تقع إلا لله تعالى: اگر مؤمن بدانستى كه بت چيست * يقين كردى كه دين دربت پرستى است (1) وإليه يرجع قول من قال: إن القضاء في قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ (2) من القضاء التكويني (3)، ولكن مع ذلك لا يجوز توجيهها إلى غيره تعالى وتقدس حسب الضرورة من الشرائع الإلهية. فعلى هذا إن كان معنى الحمد فيه العبودية، فلا يجوز عبادة غير الله، وإن كان معناه قريبا من الشكر فتجوز، لما ورد من الحث على شكر المخلوق في الأحاديث الكثيرة حتى ورد في نوادر " الفقيه ": " من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق " (4). وما نقله الفخر الرازي من " أن من لم يحمد المخلوق لم يحمد الخالق " (5)، غير موجود في جوامعنا ظاهرا، ولعله اشتباه منه، فليراجع. وقد مر كيفية استشمام ممنوعية حمد الغير من قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ﴾، وهنا تقريب آخر: وهو أن يدعى: أن الآية بصدد حصر الحمد في مقام الإنشاء فيه تعالى، أي حمد الناس لابد وأن ينحصر بالله تعالى، فلا يحمدون غيره، فيكون فيه إثبات ونفي: أما الإثبات فهو أن الحمد لله تعالى، وأما النفي فهو أن هذا المعنى الإنشائي المبرز في مقام الشكر والعبودية لا يجوز للغير. وأنت خبير بما فيه، فلا تذهل. وقال القرطبي: أثنى الله سبحانه بالحمد على نفسه وافتتح كتابه بحمده، ولم يأذن في ذلك لغيره، بل نهاهم عن ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه (عليه السلام): ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ (6). وقال (عليه السلام): " احثوا في وجوه المداحين التراب "، ورواه المقداد (7).

. وقال الفخر: أما الحمد، فإنه مأمور به مطلقا، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " من لم يحمد الناس لم يحمد الله " (8).

. وقد عرفت أن الحمد على المشرب الأعلى والمسلك الأحلى، لا يقع لغير الله ثبوتا وتكوينا، فلا يعقل حمد الغير. وأما في مقام الإظهار والإبراز: فإن قلنا: بأن فيه إشراب العبودية فلا يجوز، لأنه من الشرك في العبادة، وإن كان مجرد الثناء والشكر فيجوز. وأما القول الأول: " احثوا... " على فرض صحة سنده فمعناه النهي عن المدح المتعارف في الأعصار المتجاوز فيه عن الواقعيات، ويكون المدح لأجل الأجرة والدنيا، لا في مقابل الإنعام والإفضال السابق عليه، فإذا لم يتجاوز عن الصدق فلا يشمله الحديث. وأما القول الثاني: " من لم يحمد... " فهو غير ثابت اعتباره ولعله مأخوذ - كما مر - من المتن الموجود عندنا: " من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق "، ولو ثبت فالمراد منه الصنف الخاص منه، وهو الشكر أو الحمد الغير المشتمل على العبودية، كحمد الله تعالى، فلا تخلط.

المسألة الثانية: هل يجوز إنشاء الحمد والشكر والثناء بقوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ للّهِ﴾ في الصلاة أم لا؟فيه وجهان بل قولان، وقد مر منا تفصيل هذه المسألة، وذكرنا - في ذيل بحوث كلامية - ما هو الحق، وكان ينبغي أن نذكره هنا، والأمر سهل.

المسألة الثالثة: استحباب ذكره عند العطاس يستحب للعاطس ولمن سمع عطسة الغير - وإن كان في الصلاة - أن يقول: " الحمد لله " أو يقول: " الحمد لله وصلى الله على محمد وآله " بعد أن يضع إصبعه على أنفه. وقد أودع " الوسائل " روايات هذه المسألة في باب الثاني والستين من أبواب العشرة من كتاب الحج، وفيها ما أخرجه الكليني بإسناده عن صالح بن أبي حماد، قال: " سألت العالم (عليه السلام) عن العطسة، وما العلة في الحمد لله عليها؟فقال: إن لله نعماء على عبده في صحة بدنه وسلامة جوارحه، وإن العبد ينسى ذكر الله عز وجل على ذلك، وإذا نسي أمر الله الريح فتجاز في بدنه، ثم يخرجها من أنفه، فيحمد الله على ذلك، فيكون حمده على ذلك شكرا لما نسي " (9). وبإسناده الآخر عن مسمع بن عبد الملك، قال: " عطس أبو عبد الله (عليه السلام) فقال: ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ثم جعل إصبعه على أنفه، فقال: رغم أنفي لله رغما داخرا " (10). وبإسناده الآخر عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا عطس المرء المسلم ثم سكت لعلة تكون به، قالت الملائكة عنه: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فإن قال: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قالت الملائكة: يغفر الله لك " (11). وبإسناده الآخر عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه قال: عطس رجل عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال: الحمد لله، فلم يسمته أبو جعفر (عليه السلام)، " وقال نقصنا حقنا، وقال: إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وأهل بيته ". قال: فقال الرجل، فسمته أبو جعفر (عليه السلام) (12).

المسألة الرابعة: استحباب التحميد على الإسلام والعافية يستحب التحميد على الإسلام والعافية عند رؤية الكافر والمبتلى من غير أن يسمع المبتلى. قد أخرج الصدوق في " ثواب الأعمال " بإسناده عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام): " أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من رأى يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا أو واحدا على غير ملة الإسلام، فقال: الحمد لله الذي فضلني عليك بالإسلام دينا، وبالقرآن كتابا، وبمحمد نبيا، وبعلي إماما، وبالمؤمنين إخوانا، وبالكعبة قبلة، لم يجمع الله بينه وبينه في النار أبدا " (13). وبإسناده عن العيص بن القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " من نظر إلى ذي عاهة، أو من قد مثل به، أو صاحب بلاء، فليقل سرا في نفسه من غير أن يسمعه: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، ولو شاء فعل ذلك في، ثلاث مرات، فإنه لا يصيبه ذلك البلاء أبدا " (14). وقد ورد في الباب السابق رواية هي هكذا: الكليني بإسناده عن ابن فضال، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " في وجع الأضراس ووجع الآذان، إذا سمعتم من يعطس فابدؤوه بالحمد " (15). فإن كان المراد منه مندوبية التحميد عند سماع العطاس، فيكون دليلا على بعض ما مر في المسألة الثالثة. وإن كان المراد منه المعنى الآخر، أي مندوبية النيابة عنه في التحميد، لأنه يتمكن من ذلك، فاستحباب التحميد عند سماع العطاس يحتاج إلى دليل آخر، فافهم وتدبر.


1- الفقيه 1 : 203 / 12 ، عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 107 / 1.

2- راجع مثنوى " گلشن راز " ، الشبستري.

3- الإسراء ( 17 ) : 23.

4- راجع تفسير بيان السعادة 2 : 437.

5- الفقيه 4 : 272 / 8 ، فيه " لا يشكر الله من لا يشكر الناس ".

6- التفسير الكبير 1 : 218 و 221 ، ولفظ ما نقله الرازي : " من لم يحمد الناس لم يحمد الله ".

7- النجم ( 53 ) : 32.

8- الجامع لأحكام القرآن 1 : 135.

9- التفسير الكبير 1 : 218.

10- الكافي 2 : 478 / 6 ، وسائل الشيعة 8 : 463 كتاب الحج ، أبواب أحكام العشرة ، الباب 62 ، الحديث 1.

11- الكافي 2 : 479 / 14 ، وسائل الشيعة 8 : 463 كتاب الحج ، أبواب أحكام العشرة ، الباب 62 ، الحديث 3.

12- الكافي 2 : 480 / 19 ، وسائل الشيعة 8 : 464 ، كتاب الحج ، أبواب أحكام العشرة ، الباب 62 ، الحديث 6.

13- الكافي 2 : 479 / 9 ، وسائل الشيعة 8 : 464 كتاب الحج ، أبواب أحكام العشرة ، الباب 63 ، الحديث 1.

14- ثواب الأعمال : 63.

15- الأمالي ، الصدوق : 267 / 12 ، بحار الأنوار 90 : 217 / 2.