علم الكلام

وهنا مسألتان بل مسائل:

المسألة الأولى: هل الشكر والتحميد واجب أم لا؟أو يقال هل الشكر والتحميد حسن أو قبيح؟فإن كان حسنا تصل النوبة إلى وجوبه وأولويته، ثم بعدما ثبت وجوبه تصل النوبة إلى أنه واجب بالعقل أو بالنقل، فهاهنا ثلاث مسائل: الأولى: قد اشتهر عند كافة أرباب العقول حسنه الذاتي (1). وربما يشكل ذلك، لأن نفس الشكر بعنوانه مع قطع النظر عن أمر خارج عنه بالخصوص - وهو كونه حمد الله تعالى، أو حمد الخلق - لا يوصف بالحسن، بل يوصف بالقبح، لما فيه من التذلل والتخضع الذي يأبى عنه العقل، إلا لما يترتب عليه من الآثار المطلوبة. بل المقرر عندنا: أن عبادة الغير - ومنها الحمد أيضا - قبيحة في حد ذاتها، وإذا لوحظت مع قطع النظر عن الآثار المرغوب فيها، فإذا نظر العقل إلى أن الإنسان موجود بالقوة، ولابد من الخروج عنها إلى الفعلية، ولابد وأن تكون هذه الحركة إلى الكمالات الممكنة، وإذا توجه إلى أن تلك الكمالات لا تحصل إلا بالحمد والتعبد والتحميد والشكر وغيرها، يدرك لزوم ذلك للتوقف، وإلا فلو كانت العبودية مستلزمة للنقص، وللحركة إلى الضعف فرضا، لما كان يدرك لزومها. فمن ذلك يعلم: أن هذه الأمور ليست ممدوحة بالذات، بل هي ممدوحة ومطلوبة بالغير، كمطلوبية مقدمات الواجب والمطلوب النفسي، وهذا هو سر كون الإنسان مظهر واجب الوجود، فإنه لكونه مظهر هذا الوجوب وذاك الموجود، يتأبى عن عبادة الغير والخضوع له، ويتأبى عن تحميد الغير والشكر له، وإذا كان يرى أن التعين باسم الوجوب والتلبس بلباس الأبدية، لا يمكن إلا بالتشبث بأذيال هذه المسائل، فيدرك لزوم القيام بهذه الوسائل والمعدات والعلل، ولو كان يدرك أن الوصول إلى تلك الغاية القصوى، رهين بهذه الأمور والأسباب خالصة عن جميع الشوائب والأوهام لاهتم حتى يتمكن من ذلك، فينادي بأعلى صوته: أنه يعبد الله لا خوفا من النار، ولا طمعا في الجنة، بل يعبده إدراكا لاستحقاقه العبودية، فتأمل.

المسألة الثانية: في وجوب الشكر والحمد وجوب الشكر والحمد مورد الاتفاق في الكتب الكلامية، وفي مباحث التقليد من الكتب الفقهية، وهو عندنا محل الكلام، وذلك لأنه إن أريد من الوجوب الوجوب النفسي المستلزم للعقاب، فهو غير صحيح، لأن العقل لا يتمكن من إدراك ما يستتبع العقاب. وإن أريد منه الوجوب الشرطي - أي أن الوصول إلى مدارج الكمالات والتعين بالصفات والملكات الحسنة - متوقف على ذلك، فهو في محله، لما نجد بالوجدان أن الاستكمالات لا تمكن إلا بمثله. ثم إن الشكر والحمد: تارة أريد منه التحميد باللسان فهو ما عرفت حكمه. وأخرى: أريد منه القيام بالوظائف الإلهية - من إتيان الواجبات وترك المحرمات - فهو أيضا من الواجبات الشرطية، أي أن المكلف إذا كان يريد النجاة من تبعات أعماله من العقاب، ويريد استجلاب الثواب، فعليه بهذا الفعل وذاك الترك. ولقد فصلنا البحث حول هذه المسألة في تقاريرنا الفقهية (2). وما اشتهر من وجوب التقليد فهو أيضا يرجع إلى ذلك، أي أن وجوبه شرطي وتعليقي، أي أن العقل يدرك الملازمة بين النجاة من النار والفوز بالجنة وبين القيام بالوظائف الشرعية، أما إلزام العبد بذلك فهو ليس من شأنه. كما أن درك لزوم دفع الضرر ولا بدية ذلك فهو - أيضا - مما لا أساس له. نعم ربما تكون الفطرة قائمة على الفرار مما لا يلائم الطبع، وهذا غير إدراك العقل لزوم ذلك، كما أن تشخيص ما لا يلائم وما يلائم خارج عن حدود وظيفته، إلا في الأمور المتعارفة الواضحة والوجدانية في هذه النشأة. فبالجملة: أصل الوجوب الأعم من الشرطي والنفسي مما لا شبهة فيه عندنا، ولا سبيل للعقل إلى ذلك.

المسألة الثالثة: هل الآية الشريفة - قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ - تدل على أن الوجوب المزبور عقلي أو شرعي؟فمن الناس من قال: إنه شرعي، مستدلين ببعض الآيات والآثار، ومنهم من اعتقد أنه عقلي، مستدلين بقوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ وتقريبه: أن الآية تدل على أن الحمد حقه وملكه على الإطلاق، وهذا يدل على ثبوت هذا الاستحقاق قبل مجئ الشرع (3).

وهذا من غرائب الاستدلالات، وذلك لأن العقل إن كان يدرك ذلك فلا يحتاج إلى الاستدلال بالآية، وإن كان لا يدرك هذا الاستحقاق فهو من الدليل الشرعي لا العقلي، فكأن المستدل استدل بالدليل اللفظي والشرعي على أن الدليل على المسألة عقلي، وهذا لا يخلو من أضحوكة، والأمر سهل. ويمكن أن يقال: بأن الآية تدل على أن حمد الغير غير جائز، لأنه تصرف في مال الغير بدون إذنه، فلو أذن أن يحمد أحد فيجوز ذلك، فإذا كان حمد الغير محرما، لأنه من التصرف في حق الغير، فيجب رد الحمد إلى مالكه ومستحقه، لأنه لابد منه، وإلا فهو من الغصب المحرم، فحمد الله واجب شرعا، وحمد الغير حرام شرعا، بمعنى أن رد حق الغير إلى صاحبه واجب، والتصرف في ملك الغير حرام. وغير خفي: أن هذا التقريب من نوع الاستدلال الفقهي، ولمكان سخافته ذكرناه هنا، وما فتحنا عنوانا خاصا لمبحث الفقه ومسائله، وإن مسألة جواز الإنشاء في الصلاة قد مضت، وذكرنا في محله إمكان الجمع بين القرآنية وبين الدعاء والإنشائية (4). نعم بناء على اعتبار صدق قراءة القرآن والفاتحة فيشكل، لاحتياج القراءة إلى لحاظ الألفاظ النازلة، فيكون النظر إلى تلك الجمل والألفاظ اسميا، والإنشاء والدعاء إلى الغفلة، فيكون النظر حرفيا، والجمع بينهما غير ممكن لمتعارف القراء. وينحل الإشكال: تارة بإنكار كبرى المسألة، وهي اعتبار صدق القراءة، وثانيا بإنكار صغراها لصدقها، وثالثا بأنه يحكي ألفاظ القرآن بما لها من المعاني، فيكون المعاني مرادة في الرتبة الثانية، فلاحظ وتدبر جيدا. فما اشتهر من منع ذلك فقها، غير راجع إلى محصل جدا.


1- كشف المراد : 409.

2- مباحث الاجتهاد والتقليد من التحريرات في الفقه للمصنف ( قدس سره ) مفقودة.

3- التفسير الكبير 1 : 227.

4- انظر المبحث الأول ( ما يتعلق بمجموع السورة ) ، ذيل المسألة الثامنة.