الحكمة والفلسفة

وهنا أنظار:

النظر الأول: دلالة الآية على أن العالم فعله تعالى إن الآية الكريمة الشريفة تدل على مسألة عقلية غامضة راقية، مبرهنة بالبراهين الساطعة اللامعة في الكتب العقلية وفي قواعدنا الحكمية وهي: أن كل شئ لابس الوجود وتنور بنور تلك الحقيقة، وكان له كمال الوجود وجمال تلك البارقة والرقيقة، فمن هو سببه وعلته، ومن هو مفيضه ومعطيه، ومن إليه يرجع في سلاسله، وإليه يستند في علله، هو الواجب الواحد بالذات القاهر، ولو كان شيئا مستقلا في الأفعال والإيجاد، فلابد وأن يرجع استقلاله في الإيجاد إلى استقلاله في الوجود، وهو الشرك والخلف، ﴿ذلكم الله ربكم خالق كل شئ﴾ (1) ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ (2). فإذا كانت الآية الشريفة مفيدة حصر الحمد به تعالى، ويكون الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري، فهي تستلزم كون سبب الحمد منحصرا في حضرته الربوبية. وهذا غير ما سلف، فإن فيما مضى إثبات أن جميع العالم فعله تعالى، فيكون حمد كل شئ على فعله حمدا له أيضا، ولكنا هنا في مقام تحريم حمد الغير وحصر الحمد به تعالى، بدعوى: أن كل كمال وجمال في العالم يحصل لكل موجود بإرادته تعالى ومشيته، فلا يكون ذلك بالاختيار الذي يصحح توجيه الحمد إليه، وإن لم يكن خارجا عن الاختيار بوجه يستلزم الجبر، وهذا هو حقيقة الحصر، وإلا لما كان للحصر بالتقريب الذي مر في ذيل المسائل السابقة، وجه محصل، فإن جواز حمد الله على فعل كل أحد، وجواز حمد كل أحد على فعله، لا يجتمعان، مع كون المرام والمقصود حصر الحمد فيه تعالى وتقدس. إن قلت: كيف يمكن سلب الحمد بالنسبة إلى أفعال العباد الجميلة الاختيارية، مع أنها جميلة حصلت باختيارهم، فلابد من ترخيص توجيه الحمد إليهم والمنع عنه يلازم منع اختياريتها، فيكون جمال أفعالهم كجمال الطبائع. قلت: إن نظرنا إلى ظاهر الحال وصورة الأمر، فالحق كما أفيد، وإذا نظرنا إلى أن الممكن الذي لا حيثية لذاته ولا غناء في ماهيته ووجوده، ولا كمال له إلا وهو إفاضة من الغيب بتقدير اختياره، فكيف يمكن نسبة الجمال والكمال إليه، فإنه بالاختيار لا يتمكن من تحصيل ما لا يعطيه الله تعالى وإن يحصل له ما يعطيه بالاختيار، ولكنه ليس هو الاختيار المأخوذ في تعريف الحمد حسب العقل النظري، لا السوقي والعامي، أفما قرأت الكتاب العزيز ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ﴾ (3) فإذا كانت كل حسنة من الله تبالي، فكيف يكون له الجميل المصحح لتوجيه الحمد إليه. ثم إن ما نظرنا إليه يتم سواء قلنا: إن الحمد الثابت له تعالى معناه المصدري، أو الاسم المصدري، أو معناه المصدري المنتسب إلى فاعل ما، أو إلى مفعول ما، كالحامدية والمحمودية أو بمعنى ما يحمد عليه وما هو سبب الحمد وعلته، فإن أردنا إثبات حصر معناه المصدري في حقه تعالى، وأنه تعالى يليق بأن يكون حامدا لنفسه دون غيره، فلابد وأن يكون لادعاء سلب لياقة العباد، وهذا الادعاء لا يتم إلا لأجل أن غيره تعالى لا شئ له ولا حيثية له حذاء الحق الأول وإزاء الرب المطلق، فتصير النتيجة ذلك، وهكذا فيما أريد حصر معناه الاسم المصدري فيه أو غيره. نعم فيما إذا أريد من الحمد ما يحمد عليه، فهو أصرح في المعنى المقصود هنا. وما في " بيان السعادة " من: أن النظر إلى أن الحامد لابد وأن يكون إنسانا عقلانيا، وحمده كان حمدا قلبيا، وهكذا (4)، غير تمام، لظهور السلب والإثبات في أن الحمد لله تعالى، ولا يكون لغيره لياقة التحميد، لا أن غيره لابد وأن يكون كذا وكذا حتى يليق، فإنه مناف للحصر، فإن معنى الحصر ينحل إلى السلب والإيجاب وسلبه مطلق، وقضية الحصر هو انسلاب كل أحد عن اللياقة والشأنية لتحميده، فلا تخلط. فقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ﴾ أي كل شئ صدق عليه أنه حمد، فهو له تعالى، وليس الحمد لغيره تعالى، ولازم كون الحمد بأجمعه لله أن يكون كل فعل جميل اختياري لله تعالى، ولازم الثاني أنه لا فعل جميل اختياري لغيره تعالى، وحيث لا يمكن سلب اختيارية فعل الغير عن الغير، فلابد من سلب كونه بجميله اختياريا، فإن جميل كل شئ يرجع إلى جمال المعشوق والمعبود، فالسلب يرجع إلى المقيد، لا كل واحد من القيدين، ولله الحمد على ما ألهمناه واختار لنا من ملكوته ومن المن والسلوى.

النظر الثاني: دلالة الآية على أن كمال الموجودات له تعالى إن الآية الكريمة الشريفة، كما تدل على أن جميل كل فعل اختياري لله تعالى، تدل على أن كمال سائر الموجودات أيضا له تعالى. وأما قصور دلالتها ابتداء على العموم فهو واضح، لما أن الحمد هو الشكر والثناء على الجميل الاختياري، ولازم كونه له أن جميل كل فعل اختياري له، وأما جميل سائر الأشياء فهي قاصرة عن الدلالة عليه، كما لا يخفى. نعم لو قلنا بأعمية الحمد وشموله للمدح - كما عن بعض كتب اللغة (5) - فيصح أن يقال: " حمدت اللؤلؤ على صفائه، والزبرجد على جماله وكماله "، فوجه الدلالة واضح بعد اتضاح ذلك في السابق. ولو قلنا بأخصيته - كما هو المتبادر عرفا - بل ولو قلنا بأخصيته مما سبق، واختصاصه بالشكر الخاص المشتمل على نحو من العبودية، فيمكن دعوى الأولوية القطعية - والاتفاق بين الملل - على أن جميل أفعال العباد إذا كان له تعالى، فجميل غيره مورد الاتفاق، وذلك لأن ما هو مصب النفي والإثبات - ومحط الخلاف بين الأقوام والأعلام - هي أفعال العباد. فتحصل حتى الآن: أن لهذه الجملة الصغيرة حجما كبيرا غير متناه دلالة ومعنى، وفي غاية الرقاء والعلو إفادة وإنارة، كيف لا ؟! وهو من تحميد الله تبالي لنفسه في سورة شاملة لما في جميع القرآن من المحامد والأثنية. إن قلت: نعم، ولكنها في مقام الثناء والإنشاء، وهو أعم من الواقعية والتكوين. قلت: قد مضى أنها جملة إخبارية في مقام المدح والتحميد، فيكون مدلولها الإخباري موافقا للواقع، ويتذكره العبد، إبرازا لما في قلبه من حبه تعالى، وعشقه لحضرته وعلاقته بجمال جميله وكمال حقيقته، وإظهارا للخضوع والخشوع مبتهلا إليه تعالى. ويمكن دعوى: إلغاء الخصوصية، فإنه إذا ثبت في مورد أن جميل فعل العبد له تعالى، يثبت عموم المدعى، لعدم القول بالتفصيل. والله العالم بحقائق الأمور.

النظر الثالث: دلالة الآية على أن الحمد ملكه ملكا حقيقيا إن هذه الآية تدل على أن الحمد مع لوازمه ملكه تعالى ملكا حقيقيا، لا اعتباريا وادعائيا. وذلك لأن ظهور اللام في الملك مما لا يكاد ينكر بدوا، فإذا لا معنى لكونه ملكا ادعائيا، بل هو ظاهر في الملكية الواقعية - اعتبارية كانت أو حقيقية - وحيث لا سبيل إلى اعتبار الملكية الاعتبارية له تعالى قبال سائر الملاك، فيكون الحق مالكا للدار وزيد مالكا لها أيضا في عرض واحد أو في طول، لو أمكن تصوير ذاك وذلك على خلاف محرر في الكتب الفقهية والأصولية. وذكرنا في محله إمكان ذلك الاعتبار إذا كان موضوعا للأغراض العقلائية، ولا يكفي غرض واحد لعاقل، بل لابد وأن يكون مورد اعتبار العقلاء كسائر الملكيات الاعتبارية، وحيث لا يتصور لدى العقلاء ما يقتضي ذلك، فهو ظاهر في الملكية الحقيقية، بخلاف قوله تعالى: ﴿فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ﴾ (6)، فإن اللام هناك ربما تكون ظاهرة في إفادة نحو إضافة أعم من الملكية والأولوية بالتصرف. فالآية الكريمة الشريفة تدل: على أن جميل جميع الأفعال والجواهر وجميع الموجودات بكمالاتها، تحت سلطانه تعالى وتحت قدرته واختياره، وأنها ملكه تعالى، فيكون مالك السماوات والأرض وجميع السماويات والأرضيات والحوادث والأحداث والأعراض، فتدل على نفوذ قدرته ونفوذ علمه واختياره وإرادته وغير ذلك مما هو المبرهن في الإلهيات بالمعنى الأخص. وقد خالفنا جماعة من الإمامية والطوائف الاخر في كيفية تصوير ذلك، فلم يصدقونا في هذه المراحل، ولكنك بعد التدبر فيما سطرناه حول الآية الكريمة الشريفة، يظهر لك عموم ما ذكرناه في قواعدنا الحكمية، من غير حاجة إلى البراهين العقلية والأدلة الأخرى النقلية. وغير خفي: أن المناقشة في بعض ما أسمعناكم ممكنة، إلا أنها خارجة عن المرتكز العقلائي. نعم لو ثبت عند أحد امتناع تلك المسائل العقلية، فله العدول عن الآية الشريفة وصرفها إلى غير ما هو الظاهر منها المتفق عليه المفسرون نتيجة، وإن اختلفوا في مقدمات المسألة كثيرا. إن قلت: إن كان المراد من الحمد ما يحمد عليه، فهو المناسب لكونه ملكا له تعالى، وأما الحمد بالمعنى الحدثي فهو لا يناسب ذلك. قلت: أولا: إن الحدث والجوهر مشتركان في انتسابهما إلى عللهما القريبة وإلى علة العلل، ولا فرق بين صفاء اللؤلؤ المستند إلى العلل الطبيعية وهكذا نبات الشجر، وبين أفعال الحيوانات والإنسان. وثانيا: إن من الممكن دعوى: أن النظر إلى اعتبار ملكية الحدث له تعالى، داع إلى إثبات ملكية ما يورث الحمد له تعالى حقيقة وتكوينا. ومما ذكرناه في هذه النظرات والأنظار يظهر: أن أغلب المفسرين لم يصلوا إلى مغزى مفاد الحصر والمقصود من الحصر، وإذا كان ذلك خافيا على بعض الخواص منهم - كالمنار والميزان - فغيرهم أولى بذلك.

النظر الرابع: دلالة الآية على الجبر الذي يقول به الأشاعرة وغاية تقريبها: إن انحصار الحمد - الذي هو الثناء على الجميل الاختياري - فيه تعالى، يلازم حصر الجميل الاختياري فيه تعالى، ومنع صحة حمد غيره تعالى، فإذا لم يصح حمد غيره تعالى يعلم أنه لا يكون ذا جميل اختياري، بل الجميل الصادر منه باختيار الغير، وهو الله تعالى. وأما غير الجميل الصادر منه من السيئات والشرور غير ذات الجمال، فهو وإن لا يستفاد منه كونها بإرادته تعالى واختياره، إلا أن إثبات لا اختيارية العباد بالنسبة إلى الأفعال الجميلة الحسنة، يستلزم إثبات ذلك على الإطلاق، لعدم القول بالفصل. أو يقال: إن كل فعل يصدر من العبد، وكل ماهية توجد بإيجاد العبد توهما أو إيجاد الله تعالى واقعا، ذو جنبتين: جنبة كمال وجمال وشرف وعزة وخير، وجنبة نقص وسوء وخسة وذلة وشر، ولا يوجد شئ يسمى شرا مطلقا، بل الشرور أعدام في الواقع لا تنالها يد الجعل والتكوين، فلا يكون ما يصدر من العبد سيئا على الإطلاق، بل فيه جهة حسن هو منه تعالى، وجهة شر هو من الواسطة، فإذا يكون جميع الأفعال بما فيها الحسنات لله تعالى، لأنه يصح أن يحمد على الفعل الذي فيه الجهتان، وإذا كان الحمد منحصرا فيه تعالى فلا فعل اختياري للعبد مطلقا، لأن فعله السيئ أيضا يستند إليه تعالى، لما فيه من الحسن المستند إليه تعالى، ولا يعقل تجزئة الواحد إلى كثير، حتى يقال بأن السوء الصادر منه فعلان حسن وسيئ، بل هو واحد يختلف جهتا حسنه وسوئه باللحاظ، فلا تخلط وكن على بصيرة. أقول: ربما يتوهم أن المراد من الحصر أن الحمد لا يستحقه غيره، ولا حق لأحد على الآخر أن يحمده، فما هو منحصر فيه تعالى هو استحقاق الحمد، وهذا لا ينافي جواز حمد غيره مما يصدر منه الفعل الجميل الاختياري. وأما ما ورد في الشرع من جواز حمد الغير وشكره، فهو يرجع إلى امتثال أمر الرب عز وجل، فيكون في الحقيقة لأجل استحقاقه الامتثال (7). وأنت خبير بما فيه من الضعف والنقود، ضرورة أن اللام متعلق بالمحذوف، وقد مضى أنه من مادة الملك، فيكون المعنى: أن الحمد ملكه تعالى، وملك له تعالى من غير نظر إلى حصر استحقاق الحمد فيه تعالى، مع أن العقلاء بناؤهم على استحقاق المنعم الحمد من غير استناد فيه إلى الشرع. فالجواب ما مر منا وهو: أن نفي الجميل الاختياري بلحاظ أن الجميل من قبل الله تعالى، ولكن العبد باختياره يجلب ذلك الجميل، فلا يستحق - بحسب إدراك العقل - أحد الحمد لأجل أنه لا يصدر منه الجميل الاختياري، فإن جميله لله تعالى، وهو قد تصدى لتعينه في لباس الكثرة، وفي الحد الخاص، وفي الكثرة الأزمانية والمادية. وأما توهم: دلالة الآية الكريمة الشريفة على الاختيار، وعلى مسلك العدلية في باب الأفعال، لأجل أن الحمد مرفوع لقيامه مقام الفعل المحذوف، وهو في الأصل كان هكذا: حمدت الله، فيكون استناد الفعل إلى العبد دليلا على أنه فاعل، وجعل الحمد بكليته لله تعالى، دليل على أن الله تعالى دخيل في كل فعل، فلا جبر ولا تفويض، فيكون أمرا بين الأمرين. فهو في غير محله، وذلك لأن التركيب المزبور باطل، وقد فرغنا في محله عن وجهه. هذا أولا. وثانيا: الأشعري لا ينكر في الظاهر صدور الفعل من العبد (8)، ولذلك ينكر الحسن والقبح العقليين، لا العرفيين والعقلائيين (9)، فله أن يقول: بأن تصدي العبد في الظاهر للحمد، هو في الحقيقة باختيار الله وإرادته وقدرته، فهو من ظهور حمده لنفسه. فما يستظهر من الفخر (10) وغيره في هذه المسائل - مع أنه وأمثاله ليسوا أهلا لهذه المسائل على الشأن اللائق بها - كله خال عن التحصيل ونحمد الله تعالى على ما يوفقنا هذه الورطة، ويؤيدنا على فهم مغزى كلامه حسب التجليات المتحددة بالتحددات الخاصة، وهو المعين.

النظر الخامس: دلالة الآية على التفويض وذلك لأن حصر الحمد - وهو الثناء على الجميل الاختياري - يقتضي كون جميع أفعاله تعالى جميلة، فلو كانت أفعال العباد مستندة إليه تعالى استقلالا - كما عليه الجبرية - أو اشتراكا - كما عليه الإمامية - لكان يستند إليه تعالى سوء الأفعال، وهو ليس بجميل حتى ينحصر الحمد في حقه تعالى، فعندنا هو تعالى مستحق لأعظم المحامد والمدائح. وأنت خبير بما فيه، مما لا يتم أصل تقريب الاستدلال في صورته، لأن معنى حصر الحمد فيه تعالى: أن كل محمود له تعالى، وأما أنه تعالى كل ما يصدر عنه محمود، فهو لا يدل عليه، فلا ينبغي توهم دلالة الآية على مذهب القدرية. ثم إن الظاهر من قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ (11)، وفي الآية الأخرى: ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (12)، وفي ثالثة: ﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا﴾ (13) ومن قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ﴾ (14) بعد قوله: ﴿وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ (15) أن جميع الموجودات وتوابعها المنجعلة بالعرض - وهي الأسواء والسيئات والشرور - يستند إليه تعالى في وجه، فما توهموه غير موافق للعقل والنقل.

النظر السادس: حول حقيقة الحمد في الخالق والمخلوق اعلم أن الحمد بالحمل الأولي هو إظهار هذا المفهوم في قالب لفظي، وأحسنه قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ﴾ كما أثنى به على نفسه في الكتاب الإلهي في مواقف عديدة، وكان الأنبياء والأولياء يحمدونه تعالى بذلك، كما يأتي في تاريخ هذه الجملة وسابقتها قبل الإسلام. والحمد بالحمل الشائع وهو الحمد الفعلي وهو المخلوق قد يكون بإتيان الأعمال الصالحة من العبادات والخيرات وإيصال القوى الكامنة إلى الغايات، ابتغاء لمرضاته، فيستعمل الحامد كل عضو فيما خلق لأجله على الوجه المشروع، حتى يحصل الوفاق بين مقالته وأعماله، وهذا هو الحمد الفعلي بالمعنى الأخص المسمى بالعملي عندنا، وقد يكون حاليا وقلبيا، وهو المسمى بالتخلق بأخلاق الله والتعين بالأوصاف الكمالية والجمالية وحب المعروف وبغض المنكر، وبالجملة: الجهاد مع النفس، وهو الجهاد الأكبر. وأما الحمد في الخالق: فهو إظهار الصفات والكمالات، وهذا هو حقيقة الحمد في عرف المكاشفين وأرباب اليقين، والإظهار القولي حمد المحجوبين وأرباب السجن والحس، والإظهار الفعلي من الله تعالى وحمده ذاته تبارك وتقدس، هو أجمل مراتب الحمد، وهو بسطه الوجود على كافة الممكنات، وعلى وجه لا يعد ولا يحصى، وقد وضع عليها موائد كرمه التي لا تتناهى. وبذلك قد كشف عن صفات كماله ونعوت جلاله، وأظهرها بدلالات عقلية تفصيلية غير متناهية، فإن كل ذرة من الذرات تدل عليها، وهذه الدلالات لا يكون قالبها الألفاظ والأوضاع الاعتبارية، ولذلك صار أقوى وأتم، فجميع الموجودات حمد الله تعالى، أي كما أن الألفاظ الصادرة من أرباب القول حمد الله بالحمل الأولي أو الشائع، كذلك الأعيان الثابتة - المتحلية بحلية الفيض المقدس، والوجود المنبسط، والنور الساطع، والظل البارع - حمده تعالى، فإن حمد كل موجود بحسبه، والقاصر يتوهم: أن حمد الله تعالى لفظي، فإنه لو كان كذلك لما صح قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما نسب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " (16)، فإنه يعلم أن حمد الله نفسه أمر آخر وراء إمكان البشر والرسول الأعظم. وفي اعتبار آخر: جميع الموجودات في نظامه الجملي حمد واحد، لما قد اشتهر: أن الجميع بمنزلة الإنسان الكبير الواحد له وحدة ظلية حقيقية حقة، وله صورة واحدة، وهي الحقيقة التامة المحمدية، فيصح أن يقال: هي صورة الختمية المحمدية الواصلة إلى المقام المحمود المدعو في قوله تعالى: ﴿عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾ (17)، فذاته المقدسة الظلية، أقصى مراتب الحمد التي حمد الله تعالى بها ذاته، وقيل: لذلك خص بلواء الحمد وسمي بالحماد والأحمد والمحمد والمحمود (18). والله العالم.

إلهام وإيحاء

أشرنا طي بعض المباحث السابقة: إلى أن حمده تعالى وتقدس أيضا يعتبر قلبيا، ضرورة أن جميع الموجودات بأسرها مسبوقة الوجود بالوجود العلمي، وأن الأعيان الثابتة العينية لها الظهور الإجمالي العلمي، وذلك الوجود المبسوط عليها هو المسمى بفيضه الأقدس، فهي مظاهره تعالى وحمده وثناؤه، وبها يظهر كماله الأقصى ونعته غير المتناهي. وفي اعتبار آخر: هو ذاته بذاته ظاهرة لا تحتاج إلى مظهر وإظهار، وهو ذاته بذاته حمده " عميت عين لا تراك عليها رقيبا " حيث قال سيد الشهداء - سلام الله عليه - قبل ذلك على ما في الدعاء: " أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك ؟! " (19). روحي وأرواح العالمين لك الفداء يا أبا عبد الله ويا سيد الشهداء، فيارب إن كان فيما أسطره وأضبطه حول الكتاب الإلهي، شئ لي يسمى بالجزاء والثواب، فنهديه إليه، ونرجو من حضرته التفضل علي بقبوله والمنة على المفتاق المفتقر إلى شفاعته بعدم رده، والله المستعان.

النظر السابع: حول الحمد القولي لكافة الموجودات إلى أن الحمد اللساني لا يختص بالإنسان، ومن الممكن دعوى: أن القرآن كتاب الهداية لجميع الموجودات حسب إمكاناتها واستعداداتها، فيكون قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ﴾ تعليما لكافة الخلائق كيفية تحميده - تعالى وتقدس - لسانا، ولا سيما إذا قلنا: بأن تقدير الآية هكذا: " قولوا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله " فيكون الخطاب إلى كل من يتمكن من القول والنطق. اعلم أن المشهور عند أهل الفلسفة العليا: أن النطق فصل أخير للإنسان، وعند أرباب البحث والتحقيق: أن الفصل الأخير أنحاء الوجودات، والفصول الاشتقاقية لوازم تلك الفصول الحقيقية، وليست هذه الفصول مندرجة تحت إحدى المقولات (20)، فيكون النطق الكيفي - أي الذي من الكيفيات المسموعة - خاصة الإنسان، وعند أصحاب الكشف والإيقان وذوي الألباب والعرفان: أن النطق الكيفي يشترك فيه كافة الموجودات، إلا أنها محجوبة عن ذوي الحجب والواطنين في الأرض السفلى، ومكشوفة لدى أرباب البصائر، ومسموعة بتلك الأذان عند رفض الجلباب البشري والخروج عن أكدار المادة وظلمات الطبيعة، وللعارف الكامل الكاشف عن الحقائق، إظهار تلك الأقوال والسبحات والتحميدات حتى للأجانب والمحجوبين، كما في قصة تسبيح الحصاة في كف النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) (21)، وإلى هذه المقالة البارقة الملكوتية تشير الآيات الإلهية الآتية:

1 - ﴿أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ﴾ (22) فتأمل.

2 - ﴿وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم﴾ (23) على القراءة المشهورة بالتاء.

3 - ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ (24). والروايات الكثيرة الناطقة: بأن الطيور ذات أذكار، وتشير إلى تلك الأذكار (25)، ومما يشهد على أن الأشياء ذات أقوال ونطق قوله تعالى: ﴿قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ (26) وقوله تعالى: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ﴾ (27)، والحمل على المجاز والكناية وإن كان يمكن، إلا أنه خلاف الظاهر، بعد اقتضاء التحقيق ومساعدة الكشف والوحي له، فلا تخلط.


1- غافر ( 40 ) : 62.

2- الصافات ( 37 ) : 96.

3- النساء ( 4 ) : 79.

4- تفسير بيان السعادة 1 : 29.

5- راجع المصباح المنير 1 : 149.

6- الأنفال ( 8 ) : 41.

7- تفسير الشيخ محمد حسين الأصفهاني : 127 - 132.

8- شرح المقاصد 4 : 223 ، شرح المواقف 8 : 146.

9- شرح المقاصد 4 : 282 ، شرح المواقف 8 : 181.

10- التفسير الكبير 1 : 218 - 228.

11- الحديد ( 57 ) : 22.

12- التغابن ( 64 ) : 11.

13- الحديد ( 57 ) : 22.

14- النساء ( 4 ) : 78.

15- النساء ( 4 ) : 79.

16- الكافي 3 : 324 / 12 ، عوالي اللآلي 1 : 389 / 21 ، مسند أحمد 1 : 96 و 118 و 150 ، سنن ابن ماجة 2 : 1263 / 3841 ، سنن الترمذي 5 : 187 / 3562 - 3563.

17- الإسراء ( 17 ) : 79.

18- انظر تفسير القرآن الكريم ، صدر المتألهين : 73 - 74.

19- إقبال الأعمال ، سيد بن طاووس : 349.

20- الأسفار 2 : 35 - 37.

21- مناقب آل أبي طالب 1 : 90 ، إثبات الهداة 2 : 45 - 46.

22- فصلت ( 41 ) : 21.

23- الإسراء ( 17 ) : 44.

24- النور ( 24 ) : 41.

25- بحار الأنوار 61 : 27 - 29 ، كتاب السماء والعالم ، باب عموم أحوال الحيوان وأصنافها.

26- فصلت ( 41 ) : 11.

27- النمل ( 27 ) : 18.