علم المعاني والبلاغة

المبحث الأول: هل هذه الجملة إخبارية أو إنشائية؟

فإن كانت إخبارية عن الأمر الواقعي، وهو مالكيته تعالى للحمد، فلا يكون من الجمل المتقرب بها العبد في مقام العبودية، وعلى هذا تكون هي إنشائية لما أنها نزلت في هذا الموقف، أم الإخبارية والإنشائية تابعة لقصد المستعملين، فمنهم من يستعمله إخبارا عن اختصاصه بذلك، ومنهم من ينشئ ذلك في مقام العبودية. وأما في مقام التنزيل فربما كانت فارغة عنهما عندما يذكرها جبريل، وأن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ربما في مقام القراءة استعملها في أحد المعنيين الإخباري والإنشائي. وربما يستظهر من بعض تعابيرهم: أنها جملة إخبارية، ولم يتعرض - على ما تفحصت - جماعة المفسرين لهذه المسألة، حتى الفخر الباحث عن أنواع المباحث المرتبطة وغير المرتبطة. وربما يمكن أن يتخيل التفصيل: فإن كان هي مقالة رب العالمين في توصيفه بذلك - كما وصف نفسه في مواقف كثيرة - فهي ظاهرة في الإخبارية، وإن كانت مقالة السالكين في مقام العبودية والتقرب، فهي ظاهرة في الإنشائية، ولا يكون النظر إلى أن الأمر كذلك بحسب الواقع، كما في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ مع أنه يعبد الأصنام والأشخاص، ويكون مشركا في كثير من الأمور. والذي هو الحق: أنها جملة إخيارية عن الأمر الواقعي الذي يأتي تحقيقه، ولا تنافي بينها وبين كونها مفيدة للإنشاء والتقرب والعبودية، فإن ذكر جميل المحبوب على نعت الواقع في مقام الانس والخلوة، هو عين التقرب به بذلك والتدلي بشأنه، فهي جملة إخبارية على كل حال، ولكن ربما تستعمل في مقام العبودية والشكر، فيعتبر منها الإنشاء، وهو تحميد المحمود بذكر محامده التي هي نفس الواقعية، وربما تستعمل في مقام إفادة مفاده الإخباري من غير نظر إلى تلك الجهة.

المبحث الثاني: حول إفادة حصر الحمد به تعالى هل هذه الجملة تفيد حصر الحمد به تعالى أم لا؟فيه وجهان. والذي سلكه الأصحاب لاستفادة الحصر أمور: أحدها: أن الألف واللام جئ بهما للاستغراق، فلابد من الاستيعاب، فيكون كل حمد له تعالى. وفيه أولا: أن دلالة الألف واللام عليه فيما كان المدخول مفردا، محل منع، بل فيما كان المدخول جمعا محل إشكال كما مضى، ضرورة أن الحمد لا يدل إلا على نفس طبيعة الحمد، والألف واللام الداخلة عليها لا تفيد شيئا، كما عرفت فيما سبق، ولو كانت له دلالة فهي لا تزيد على أكثر من كون الحمد - بجنسه وطبعه وطبيعته - له تعالى، من غير نظر إلى الأفراد والمصاديق. وثانيا: قد تقرر في الأصول: أن العموم والإطلاق - في جهة الحاجة إلى مقدمات الحكمة لاستفادة العموم والإطلاق - متساويان، والمسألة وإن كانت خلافية، إلا أن الأظهر أن مقدمات الحكمة المحتاج إليها دائمة الحصول، كما في النكرة في سياق النفي. والتفصيل في محله. ثانيها: أن مقتضى مقدمات الحكمة - ومنها كون المتكلم في مقام بيان مرامه ومقصوده - كون الحمد بجميعه لله تعالى، ولا يكون لغيره شئ منه، فإذا قيل: المال لزيد، وكان في مقام إفادة أن ما هو لزيد هو المال، فيكون هذا مفيدا للحصر. وأنت خبير: بالفرق بين كون هذه الجملة مفيدة حصر المال بزيد، وبين كونها تفيد أن زيدا لا يكون له شئ غير المال، والمقدمات السابقة - المعبر عنها في الأصول بمقدمات الحكمة، ومقدمات الفرار من الإهمال والإجمال - لا تفيد إلا أن لله تعالى لا يكون إلا الحمد، وهذا ليس هو مقصودنا، بل المقصود إفادة حصر الحمد به تعالى، وأنه لا يكون لغيره حمد أو ما يستحق به الحمد. ثالثها: ظهور اللام في الملكية يورث الحصر. وفيه: أن هذا غير كاف، للحاجة إلى إرادة مطلق الحمد حتى يثبت له تعالى. والذي هو التحقيق: أن قولنا: الحمد لله، وملك له تعالى، بعد إرادة إثبات نفس الطبيعة ملكا له وتحت ظله وسلطانه، يفيد الحصر بدلالة عقلية لا لفظية، فإن ألفاظها قاصرة عن إفادة الحصر. نعم لو كان هكذا: لله الحمد، كان لدعوى: أن هيئة الجملة وضعت لإفادته، لتقديم ما حقه التأخير، وجه قريب. والعجب من الفخر وغيره، حيث توهموا: أن عدوله تعالى عن قوله - مثلا -: حمدت الله، وأحمد الله - وهكذا ما شابهه - إلى قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ﴾ دليل على أن الجملة الاسمية تدل على الحصر (1). وهذا شنيع، فإن المحرر في محله: أن ما حقه التأخير إذا قدم يدل على الحصر، بخلاف هذه الجملة، فإنه يمكن أن تكون في مقام حصر ملك الله بالحمد لا العكس. نعم يمكن أن يقال: إن الألف واللام للعهد الادعائي، وما هو مورد الدعوى هو الحمد كله، فكل حمد يقع في العالم على الجميل الاختياري فهو له تعالى، لأن الجميل الاختياري جميله تعالى واختيارية تعالى، كما يأتي في ذيل بحث الحكمة والفلسفة من ذي قبل إن شاء الله تعالى. فبالجملة: لابد لإثبات حصر الحمد به تعالى، أو حصر ما يحمد عليه به تعالى، من التمسك بأمر آخر خارج عن أفق أذهان العامة وهو: أن ما يكون سببا للحمد وموجبا لاستحقاق التحميد والثناء، هو لله تعالى، فإذا كان هو له تعالى فملزومه - وهو الحمد والمدح والثناء - له تعالى. وأما هذه الجملة، فدلالتها على حصر اللازم به تعالى، أو حصر ما هو ملازم للحمد به تعالى، غير واضحة دلالة وضعية، وأما دلالة عقلية بمقدمات الحكمة، وأن الحامد في مقام إفادة الحصر في ثنائه تعالى وحمده، فهي غير بعيدة، فيكون معناها: كل شئ يوجد في الخارج ويصدق عليه الحمد فهو له تعالى، فإذا كان الحمد لكل جميل اختياري في غيره تعالى، له تعالى أيضا، فلا يثبت به أن كل كمال له تعالى، لأن من الكمالات ما لا تكون من الجميل الاختياري. فما ترى في " تفسير الميزان " لأستاذنا العلامة - مد ظله - غير وجيه، فإنه في مقام إفادة أن الآية الشريفة تدل على الحصر المزبور، ولكنه استدل بأمر آخر خارج عن مفادها، ولا بأس بنقله مع رعاية الاختصار، قال: واللام فيه للجنس والاستغراق والمال واحد، وذلك أن الله تعالى يقول: ﴿ذلكم الله ربكم خالق كل شئ﴾، فأفاد مخلوقية كل شئ له تعالى، وقال: ﴿الذي أحسن كل شئ خلقه﴾ فأثبت حسن كل شئ هو مخلوقه، فالحسن يدور مدار الخلق وبالعكس، فلا خلق إلا وهو حسن جميل واختياري له تعالى، فإنه قال: ﴿هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾، فلا يكون خلق شئ بقهر قاهر فهو باختياره، فما من شئ إلا وهو فعل جميل اختياري له تعالى.

ما أردنا نقله (2). فهل هذا - على تقدير سلامته عن جميع المحذورات - يتم، بأن يكون ذلك مما يدل عليه قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ فإن حصر الحمد به تعالى - مع كونه على الجميل الاختياري - يستلزم كون كل جميل فعله تعالى، ومن ذاك الجميل على الإطلاق إذا كان اختياريا لكل موجود. وأما صحة حمد الله تعالى على جميع أفعاله، لأنه فعله الاختياري، فهو خارج عما نحن بصدد إثباته، فافهم ولا تكن من الخالطين. ثم إن قضية ما مر منا: هو أن الحمد فيه شائبة العبودية، ولذلك لا يحسن حمد الغير، وقلما يتفق استعماله في غيره تعالى، بخلاف الشكر والثناء والمدح، فعليه لا يثبت بالآية الكريمة أن جمال كل جميل اختياري له تعالى، لأنه ليس ما اشتهر بصحيح، وهو أن الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري، بل الحمد هو الثناء في مقام العبودية. والله العالم بحقائق الأمور. ومن الفخر يظهر التمسك في مورد آخر وفي مقام غير هذا المقام بقول مشهور: " من لم يحمد المخلوق لم يحمد الخالق " (3). وأنت خبير: بأن ما هو في رواياتنا هو أنه: " من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق " (4). وفي " إعجاز القرآن " للباقلاني ناسبا إلى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام: " وسأل علي (عليه السلام) بعض كبراء فارس عن أحمد ملوكهم عندهم؟فقال: لأردشير فضيلة السبق، غير أن أحمدهم أنو شيروان ".

موضع الحاجة (5). فيمكن أن يتوهم من هذا جواز استعماله بالنسبة إلى الآخر، ولكنك تدري بأن بمثل ذلك لا يثبت المدعى ولا ينتقض معهودنا. فبالجملة: تحصل إلى هنا أن الظاهر من السورة وهذه الآية: أن المتكلم - سواء كان هو تعالى، فيمدح نفسه ويثني عليه، أو كان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بتعليم الله إياه، أو غيرهما من القارئين - في مقام تحميده تعالى وتجليله وتوصيفه، فيكون في مقام إفادة المدح التام، وهو لا يناسب إلا أن يثبت: أن كل شئ صدق عليه أنه الحمد ثابت له تعالى وملكه، تقدس وتنزه عن ذلك. ومن الممكن دعوى: أن الابتداء بالنكرة غير جائز، فلو كانت الجملة مفادها مهملة وجزئية، لكان يلزم الابتداء بها، فلابد من كون اللام لتعريف الجنس، وتعريفه ليس إلا بإرادة الطبيعة على إرسالها وإطلاقها، فيشمل جميع المحامد بأنحائها وأنواعها وجميع وجوداتها بمراتبها. إن قلت: الألفاظ الموضوعة للطبائع: إما وضعت لها، فلا معنى لكونها مهملة، بل في كل مورد هي مطلقة، وإن كانت موضوعة للطبيعة المهملة المبهمة، فلا يمكن التعريف لتوغلها في التنكير، فما معنى الكلمة المشهورة في الأصول: أن الإطلاق يحتاج إلى مقدمات الحكمة، فإنه مما لا يرجع إلى محصل. قلت: اللفظ في مقام الوضع موضوع لنفس الطبيعة، مثلا: لفظ " البيع " موضوع لنفس طبيعة البيع، من غير نظر إلى الخصوصيات اللاحقة، فيكون هو صادقا على جميع الأفراد على البدل، ومقتضى مقدمات الحكمة الجارية في وضع الواضع، أن ما هو موضوع له هو نفس الطبيعة، ولا مدخلية لشئ آخر في دلالة لفظ " البيع " عليها، ولكنه ربما تجعل الطبيعة موضوعا للحكم القانوني مثلا، ويكون المقنن والمشرع في مقام إفادة أن ما هو موضوع الحكم نفس الطبيعة لا غير، فيستفاد من الإطلاق والإرادة الاستعمالية أن المراد الجدي أيضا موافق لسعة الإرادة الاستعمالية، وربما يكون المتكلم في مقام إفادة أن الطبيعة تمام المراد الجدي فإنه في هذه الصورة أيضا استعمل اللفظ في معناه اللغوي، ولكنه ليس موافقا للإرادة الجدية، فلا ينبغي الخلط بين مقام الاستعمال ومقام إفادة المراد الجدي، فليتأمل جيدا. وبعبارة أخرى: إذا قال المتكلم: الرجل خير من المرأة، فإنه لم يستعمل اللفظ إلا في معناه - وهي الطبيعة - إلا أن الطبيعة كما تصدق مع واحد تصدق مع كثير، فإن كان في مقام إفادة أن كل شئ صدق عليه الرجل هو خير منها، فهو يفيد الإطلاق في الموضوع للقضية، وإن كان في مقام إفادة أمر مجمل، فتكون القضية صادقة إذا كانت الأفراد غالبا أحسن منها وخيرا منها من غير لزوم المجاز.

المبحث الثالث: روايات من طريقنا يستدل بها على الإطلاق قد وردت روايات من طريقنا تدل أو يستشعر منها الإطلاق، وهو يلازم الحصر قضاء لحق اللام الظاهرة في الملكية: فمنها: ما أخرجه الكليني بإسناده عن ميسر، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " شكر النعمة اجتناب المحارم، وتمام الشكر قول الرجل: الحمد لله رب العالمين " (6). ومنها: ما أخرجه الشيخ الفاضل صاحب " كشف الغمة " عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال الصادق (عليه السلام): " فقد أبي بغلة له، فقال: لئن ردها الله تعالى لأحمدنه بمحامد يرضاها، فما لبث أن اتي بها بسرجها ولجامها، فلما استوى عليها وضم إليه ثيابه، رفع رأسه إلى السماء، وقال: الحمد لله ولم يزد، ثم قال: ما تركت ولا بقيت شيئا، جعلت كل أنواع المحامد لله عز وجل، فما من حمد إلا وهو داخل فيما قلت ". ثم قال علي بن عيسى: " صدق وبر (عليه السلام)، فإن الألف واللام في قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ يستغرق الجنس " (7). وأنت أحطت خبرا بما في ذيله من كلام الأربلي، ولكن الرواية ظاهرة في أن لفظة " الحمد " لا تدل على الاستغراق، وإلا لما صح أن يقول (عليه السلام): " جعلت جميع أنواع... " إلى آخره، فيعلم من ذلك أنه تابع لإرادة المتكلم، فتدل الرواية على الحصر وعلى وجه الحصر روحي وأرواح العالمين لتراب أقدامهم الفداء. ومنها: غير ذلك مما هو مسطور في كتب الأخبار والروايات.


1- التفسير الكبير 1 : 219.

2- تفسير الميزان 1 : 19.

3- التفسير الكبير 1 : 219 و 221.

4- انظر بحار الأنوار 68 : 44 / 44 ، وسنن أبي داود 2 : 671 ، وعلم اليقين 1 : 126.

5- إعجاز القرآن ، المطبوع في حاشية الإتقان في علوم القرآن 1 : 107.

6- الكافي 2 : 78 / 10.

7- كشف الغمة 2 : 118.