اللغة والصرف

الناحية الثالثة: حول ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾

والكلام في ذلك يقع في موقفين:

الموقف الأول: حول قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ للّهِ﴾

وهنا فوائد:

الفائدة الأولى: فيما اشتهر عنهم حول " أل " فالمعروف عنهم أنه على ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون اسما موصولا بمعنى الذي وفروعه، وهي الداخلة على أسماء الفاعلين والمفعولين، نحو " إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ". وقيل: هي هنا - أيضا - حرف تعريف، وقيل: موصول حرفي. ثانيها: أن تكون حرف تعريف، وهي نوعان: عهدية وجنسية، وكل منهما ثلاثة أقسام: فالعهدية تأتي على أنحاء، والجنسية إما لاستغراق الأفراد، وهي التي يخلفها لفظة " كل " حقيقة، نحو: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾، ومن دلائلها: صحة الاستثناء منه، كقوله تبالي: ﴿إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا﴾ وهكذا، وتوصيفه بالجمع، كقوله تعالى: ﴿أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء﴾، أو لتعريف الماهية والجنس. ثالثها: أن تكون زائدة، وهي نوعان: لازمة كالتي في الموصولات وغيرها مما ذكر في المفصلات، وغير لازمة كالواقعة في الحال، كقوله تعالى: ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ بناء على قراءة الياء مفتوحا، أي ذليلا. أقول: النزاع في أن " ال " حرف تعريف أو اللام فقط من اللغو المنهي عنه. وأما النزاع في مفادها وأقسام معانيها ففيه فوائد، كما تحرر في الأصول (1). والذي هو التحقيق: أن " ال " موضوعة للإشارة فقط إلى المعهود أو إلى الحاضر، فإن قلنا بأن الموضوع له خاص فلابد من الالتزام بتعدد الوضع، لعدم وجود الجامع بين المعاني الحرفية، وإن قلنا بأن الموضوع له عام فلا يتعدد الوضع حينئذ. والمختار في محله: أن هذه الألفاظ في مقام الوضع موضوعة للمعنى الكلي، ولكن المعنى الكلي الموضوع له يتحقق في الخارج، لأنه من الكلي الطبيعي لا العقلي، فيكون المستعمل فيه الجزئي عين الموضوع له في ظرف الاستعمال، وتفصيله في مقامه (2). وأما كونها بمعنى " الذي " فهو لا أساس له، بل هو في قولنا: " الضارب زيدا " ليس إلا للعهد أو للجنس بالمعنى الذي يأتي تحقيقه. وأما الضمير الراجع إليه، فالمرجع نفس المشتق مما فيه الذات المبهمة، ولذلك يفسر قولهم: الضارب زيدا جاءني، بأن الذي ضرب زيدا جاءني، فالذي هو الموصول والذات المبهمة المأخوذة في المشتق، وليس يدل " أل " على شئ، فالفرق بين قولنا: ضارب زيد جاءني هو وقولنا: الضارب زيدا جاءني هو، ليس إلا في إفادة التعريف أو الجنس، ولذلك يصح إرجاع الضمير إلى " ضارب " في المثال الأول بالضرورة. وأما كونها بمعنى الجنس، فإن أريد منه أنه يفيد معنى الجنس، وهو مفهوم اسمي، فلابد وأن يكون من المعاني الاسمية، فإن قولهم: " الرجل خير من المرأة " يفسر بأن جنس الرجل خير، وهم غير ملتزمين بذلك، مع أنه بعد التفسير، نسأل عن " أل " الداخلة على الرجل في المثال المزبور: هل هي أيضا للجنس أو لشئ آخر لا سبيل إلى الثاني، كما هو الظاهر، ولا إلى الأول للزوم التكرار، فيعلم من ذلك أن " أل " لا تدل على الجنس، بل الجنسية مفاد المدخول، وذلك لأن الرجل: إما يراد منه العهد والمصداق العيني، فيأتي مع " أل " لإفادة ذلك، وإما يراد منه مصداقه النكرة المنتشرة، فيؤتى بدون " أل " فيدخله التنكير، وهو يفيد حسب التبادر مصداقه النكرة وإن كان التنوين ذا معان اخر، وإذا لم يكن يراد منه مصداقه المعروف ولا المنكر، فلابد أن يراد منه نفس الطبيعة والجنس، فتدخله " أل "، لأنه بدونه لابد أن يقرأ بالتنوين، وهو خلاف المقصود والغرض من الكلام، ف? " أل " هذه ليست إلا للزينة، ولأنه لو لم تكن في الكلام يلزم خلاف الغرض، للزوم إدخال التنوين، فلا تغفل. ثم اعلم: أنه لو كانت " أل " لإفادة أن الحكم للطبيعة على الإطلاق، ومدخولها يدل على الطبيعة المهملة، يلزم كون التقييد مجازا، لأن دلالة " أل " على الإطلاق وضعية، بل يلزم عدم كون الجمع بين المطلق والمقيد عقلائيا، وتكون - حينئذ - النسبة بينهما المناقضة والتضاد، من غير إمكان الجمع بينهما عرفا وعقلائيا، فإذا ورد " أكرم العالم " فالمدخول يدل على نفس الطبيعة وجئ ب? " أل " لما عرفت، وليس هو " أل " التعريف - أي تعريف الطبيعة - حتى تكون سارية في الأفراد، للزوم ما أشير إليه آنفا. وأما صحة الاستثناء والتوصيف فهو من قبيل الاستثناء من كلمة " من " الموصول، وإرجاع ضمير الجمع إليه مع أنه لا يدل على الجمع إلا على البدل. فبالجملة: ما اشتهر من أنها تأتي للاستغراق الحقيقي أو المجازي فهو في غير محله، بل هي لا تدل على الإطلاق ولا الاستغراق بالضرورة. والعجب من السيوطي (3) وأمثاله - وإن ليس منهم بعجيب، لأنهم القشريون في العلوم الأدبية، فضلا عن العلوم الحقيقية - والاستثناء والتوصيف يجتمعان مع كون المدخول مفاده نفس الطبيعة من غير كون " أل " تفيد ذلك. بل التحقيق: أن " أل " في الجمع المحلى به كقوله تعالى: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ (4)، لا يدل على الاستغراق بل المتكلم لابد وأن يكون ذا غرض في إتيانه وترك التنوين، فإذا كان يرى أن التنوين يورث التنكير وخلاف العقود، فيأتي الجمع محلى باللام حذرا عن مناقضة المطلوب. وأما لو دلت الألف واللام على الاستغراق لكان يلزم المجاز عند التخصيص، بل يلزم المحذور السابق أيضا، ولذلك تقرر لنا في الأصول: أن إفادة العموم تحتاج إلى مقدمات الحكمة، ولولاها لما كان مجرد التحلي باللام كافيا (5)، فلا تخلط. فبالجملة: لا تأتي الألف واللام إلا للإشارة إلى المعنى الخاص، وأما كونها قابلة للإشارة بها إلى الطبيعة في قولنا: الرجل خير من المرأة، فهو غير صحيح، لأن معنى الجملة المزبورة يصير هكذا: هذا الرجل خير، وهو يورث المصداق لا الطبيعة. إذا عرفت ذلك يتبين لك: أن " أل " في قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ﴾ ليس للعهد، فلا يفيد شيئا، ويكون المراد من " الحمد " نفس الطبيعة، وأما أنها مطلقة أو مهملة فهو بحث آخر يحتاج إلى بيان آخر في المباحث الآتية. ومن الممكن دعوى: أنه للعهد في الادعاء والاعتبار، وكأنه للعهد المفروض، أي إشارة إلى الحمد الكامل التام الجامع المانع، لأنه المناسب للانتساب إلى الحضرة الربوبية. الفائدة الثانية إن الحمد مصدر ومعناه غير الشكر والثناء والمدح في " تاج العروس ": " الحمد نقيض الذم، وقال اللحياني: الحمد الشكر، فلم يفرق بينهما. وقال ثعلب: الحمد يكون عن يد وعن غير يد، والشكر لا يكون إلا عن يد. وقال الأخفش: الحمد لله الثناء. وقال الأزهري: الشكر لا يكون إلا ثناء ليد، والحمد قد يكون شكرا للصنيعة، ويكون ابتداء للثناء على الرجل، فحمد الله الثناء عليه. وقد أكثر العلماء في شرحهما وبيانهما ومالهما وما بينهما من النسب، وما فيهما من الفرق من جهة المتعلق أو المدلول وغير ذلك، ليس هذا محله " (6) انتهى. وقيل: الحمد - لغة - هو المدح على فعل حسن صدر عن فاعله باختياره، سواء اسراه إلى الحامد أو إلى غيره، والمدح يعم هذا وغيره، فيقال: مدح المال، ومدح الجمال، ومدح الرياض، واشتهر المدح على اللؤلؤ وصفائه. والثناء يستعمل في المدح والذم على السواء، فيقال: أثنى عليه شرا، كما يقال: أثنى عليه خيرا. والشكر هو الاعتراف بالفضل إزاء نعمة صدرت من المشكور بالقلب أو باللسان أو باليد أو غيرها من الأعضاء، كما قال شاعرهم: أفادتكم النعماء مني ثلاثة * يدي ولساني والضمير المحجبا أقول: أولا: إن الحمد هو مصدر، وقال في " الأقرب ": يقال: رجل حمد ومنزل حمد، هو من باب الوصف بالمصدر، وهي حمدة: أي محمودة (7). ولا أجد من كتب اللغة ما يقرب كونه اسم مصدر، إلا قولهم: الحمد خلاف الذم أو نقيضه (8)، وإذا راجعنا الذم فهو يفيد بأنه مصدر. وأما تبادر اسم المصدر منه في بعض الأحيان والاستعمالات، فلا يثبت كونه من أصل لغوي، فإرادة ما يحمد عليه من الحمد والثناء والمدح، لا يخلو من نوع مجاز وتوسع في الاستعمال، فمعنى الحمد لكذا كمعنى الضرب لزيد في كونهما معنى مصدريا. وثانيا: المدح يقابله الذم والهجاء، والشكر يقابله الكفران ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (9) والثناء لا يستعمل في الأعم حسب ما تفحصنا عنه في اللغة، فما في المراغي (10) وتبعه عمياء المنار (11)، غير راجع إلى محصل - والله العالم - على أن المتبادر منه خلاف ما نسبوه إليه. وكأن المدح والثناء لا يقعان عليه تعالى، كما لا يحمد الله خلقه، ولكنه يوصف بالشكر، فإنه رحيم شكور. ومن المتوهم اختصاص الحمد به تعالى من العبد، واشتراك الشكر بينهما، واختصاص العبد بالمدح دونه تعالى. فبالجملة: الترادف قريب في اللغات، ولا سيما في اللغة العربية، لاختلاط الأقوام، ولكن مع ذلك يخطر بالبال اختلافها في بعض الخصوصيات، فكأن الحمد والمدح اختلفا في التقديم والتأخير في الحروف إشارة إلى وحدة المعنى واختلاف جهة الاستعمال، فالعبد لا يحمد ويمدح، وهو تعالى لا يمدح فيحمد، فما قاله ابن الأنباري (12)، ليس من الأدب واللغة، نعم هو من الذوق، فلا تخلط. ومن غريب الاستدلال ما في كتب التفسير للخاصة والعامة: بأن الشكر والحمد واحد، لصحة قولنا: الحمد لله شكرا، نصبا على كونه مفعولا مطلقا نوعيا (13). وغير خفي: أن ذلك يصح إذا كان الشكر أخص منه فلا يدل على الاتحاد في المعنى. هذا ومع أن كونه مفعولا نوعيا محل مناقشة، لإمكان كونه مفعولا له، مع أن صحة هذا الاستعمال غير واضحة وإن صرح به بعض المفسرين (14)، ولكنه غير كاف. وأما توهم: أن الحمد يقابل اللوم، كما في بعض التفاسير، ويستدل له بقول الشاعر: كريم متى أمدحه أمدحه والورى * معي وإذا ما لمته لمته وحدي (15) فهو من الواضح فساده، فإن اللوم والملامة أجنبي عن هذه الأمور، مع أن المدح غير الحمد كما مر. ومما يخطر بالبال اختصاص استعمال الحمد بجنابه تعالى، والكتب وإن كانت فارغة عن ذلك، ولكن المتبادر من موارد الاستعمال أن هذه الكلمة كأنما فيها شائبة العبودية، ولذا كثيرا يستعمله العباد في ذكر ثنائه تعالى وشكره، بخلاف سائر الألفاظ. وصح أن يقال في أفق الشرع: " من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق " (16)، ولا يصح في مثل الحمد، ولعله لما أشير إليه من اشتماله على نوع من العبودية، أي في مقام العبودية. وقال ابن حيان: " الحمد، الثناء على الجميل من نعمه أو غيرها باللسان وحده، ونقيضه الذم، وليس مقلوب مدح، خلافا لابن الأنباري... والحمد والشكر بمعنى واحد، أو الحمد أعم، والشكر ثناء على الله تعالى بأفعاله، والحمد ثناء بأوصافه. ثلاثة أقوال، أصحها أنه أعم، فالحامد قسمان: شاكر، ومثن بالصفات " (17) انتهى. وأنت بعدما عرفت منا تقدر على نقد ما أفاده. الفائدة الثالثة في معنى اللام اعلم أن اللام تأتي للملك وشبهه، وللتمليك وشبهه، وللاستحقاق، وللنسب، وللتعليل، وللتبليغ، وللتعجب، وللتبيين، وللصيرورة، وللظرفية بمعنى " في " أو " عند " أو " بعد "، وللانتهاء، وللاستعلاء، وللتأكيد والتقوية. وفي عبارة أخرى: اللام أربعة أقسام: جارة، وناصبة، وجازمة، ومهملة غير عاملة (18). وعندي في كثير مما أفادوه نظر، لرجوع نوع المعاني إلى معنى واحد، وتختلف الخصوصيات من قبل موارد الاستعمالات. وعلى كل تقدير: فهل اللام في المقام للملك والاختصاص والاستحقاق؟والتحقيق أن الكل واحد، لأنه إذا قلنا: بأن الدار لزيد يعتبر منه الملكية، وإذا قلنا: بأن الجل للفرس يعتبر منه الاختصاص، وإذا قلنا: الحمد لله يعتبر منه الاستحقاق أو الملكية الحقيقية لا الاعتبارية، أو بمعنى " عند "، أي الحمد وما يحمد عليه عند الله، لا عند الآخرين، أو يفصل، فإن كان الحمد مصدرا فهو بمعنى التحقيق واللياقة، وإن كان بمعنى ما يحمد عليه فهو بمعنى الملك وشبهه؟والذي هو الأوفق: أنه بمعنى الملك، كما هو الأصل في معناه، وليس المراد منه هو مفهوم الملكية الخاصة، بل هي الملكية الأعم من الاختصاص وغيره. ويستظهر أصليته في الملك من ابن مالك حيث قال: اللام للملك ومعنى في وعن * ب? " عن " تجاوزا عنى من قد فطن (19) وأيضا معناه هنا هو الملكية الحقيقية لا الاعتبارية، وليس هذه الملكية من مقولة الملك المصطلح عليها في الكتب العقلية، ولكنها قريب منه، وهذه الملكية الحقيقية خارجة عن المقولات، والاعتبارية أيضا خارجة، ولكنها اعتبار المقولة حسب ما تحرر منا في الأصول (20). وليعلم أن المعاني الحرفية المفسرة بالمعاني الاسمية متعلقة في الحقيقة بتلك المعاني الاسمية، فكل ما كان منها قابلا لأن يذكر ويتعلق بها تلك المعاني الحرفية، فهي بهذا المعنى، مثلا اللام من الحروف ومن معانيها الاسمية في مقام التفسير هو الملك، فإذا قلنا: الحمد ملك لله تعالى، فهو صحيح، وأما إذا قلنا: اللام بمعنى الاستحقاق والاختصاص فلا يتم قولنا: الحمد مستحق لله، أو استحقاق له تعالى، ولا يستقيم قولنا: الحمد مخصوص لله... وهكذا. فيعلم من ذلك أن اللام هنا بمعنى الملك في التفسير الاسمي، فافهم واغتنم. وهذا يستقيم على أن يكون الحمد بمعنى ما يحمد عليه، وإذا كان معناه المصدر فإن أريد إثبات أن الحامد هو الله تعالى، ولا يليق لغيره أن يحمده، للسنخية المعتبرة بين الحامد والمحمود والعابد والمعبود، وفي ذلك كمال البلاغة وكمال المبالغة، لما فيه من نفي الشأن عن الغير للقيام بوظيفة التحميد، أي حمد الله وتحميده حق لله لا لغيره، فيكون اللام للمعنى الآخر، لما لا يعتبر الملكية الحقيقية في هذه الصورة. وإن أريد إثبات أن حمد الناس وتحميدهم لله، فيكون اللام للغاية، كما إذا قيل: إكرام الناس لله، مع الفرق بين المثال والممثل له، بأن فيما نحن فيه ما هو طرف الحمد هو الله تعالى، ويكون الحمد لله، وما هو طرف الإكرام هو الناس، والله تبالي غاية الإكرام. والله البالم بحقائق الأمور. الفائدة الرابعة حول المصدر واسم المصدر إن الأصل في المصدر أن لا يجمع، وقد جمع " حمد " على " أحمد "، حكاه ابن الأعرابي. وكأن جامعه لاحظ أنواعه، أو يكون الجمع بلحاظ كونه بمعنى ما يحمد عليه، قال الشاعر: وأبلج محمود الثناء خصصته * بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي (21) ومن الممكن دعوى: أن بناء العرب في باب اسم المصدر على إرادته من المصدر، لعدم لفظ خاص موضوع له إلا في بعض المواد، ولذلك اشتهر: أنه لا يكون لاسم المصدر - في علم الصرف المتكفل ببناء الهيئات - هيئة خاصة، فلابد من دعوى: أن المصدر تارة يطلق ويراد منه معناه الواقعي، وأخرى يطلق ويراد منه معناه الحاصل من المصدر الخالي عن شوب الذات، فإن المصدر فيه شوب الذات، ولذلك إذا قلنا: الضرب لزيد، يكون معناه أن صدوره منه له، وإذا أريد منه المعنى الحاصل منه، يكون معناه أعم من صدوره منه أو وقوعه عليه، فالمعنى الخاص يستفاد من القرينة. فعليه يمكن دعوى: أن الحمد لله معناه أن الاسم المصدر له تعالى، ولكنه للقرينة العقلية القطعية يثبت صدوره من الغير بالنسبة إليه، أو صدوره من نفسه بالنسبة إليه، دون صدور منه بالنسبة إلى غيره.

تذنيب

في توضيح حقيقة المصدر واسم المصدر لا بأس بالتمثيل باللغة الفارسية، فإنها في هذه المسألة أوضح سبيلا وأسهل نيلا، مثلا: يجئ اسم المصدر من: گفتن ورفتن وكردن وديدن: گفتار ورفتار وكردار وديدار، ومن بخشيدن: بخشش، ومن كتك زدن: كتك... وهكذا، ولذلك يصح أن يقال: كتك خوردن، وكتك زدن، وبخشش نمودن، وبخشش شدن، وفيما نحن فيه إن فسر الحمد ب? " ستايش كردن " - كما هو الظاهر - فاسم المصدر هو ستايش، ومن پرستيدن: پرستش، ومن نيايش كردن: نيايش... وهكذا، فإذا قلنا: الحمد لله، فيمكن أن يراد منه أن ستايش له تعالى، ولكنه أعم من صدوره منه ووقوعه على نفسه، أو صدوره من غيره ووقوعه عليه، أو صدوره منه ووقوعه على غيره. وحيث إن المعنى الثالث غير جائز ذاتا، أو لا يكون هو المراد هنا، يتعين أحد الأولين وقضية ما مر منا - من دعوى: أن العبد عاجز عن تحميده، والتحميد لائق بجنابه وحقيق بحضرته، وفي ذلك أيضا تحميد وتجليل وتسبيح عن إمكان قيام الغير بذلك - تعين الأول. فعلى هذا سواء أريد من الحمد معناه المصدري أو الاسم المصدري، تكون النتيجة واحدة، وقال الشاعر: ما وحد الواحد من واحد * إذ كل من وحده جاحد (22) وذلك لأن السنخية معتبرة بين الموحد ومن يوحد، ولا وحدة حقيقة للممكن حتى يقوم بالتوحيد، وهكذا تعتبر السنخية بين الحامد والمحمود، فمن يليق بالتحميد نفس ذاته المقدسة، فليلاحظ.


1- راجع تحريرات في الأصول 5 : 210.

2- تحريرات في الأصول 1 : 79.

3- الإتقان في علوم القرآن 2 : 185 - 186 ، البهجة المرضية ، السيوطي ، المعرف بأداة التعريف.

4- المائدة ( 5 ) : 1.

5- لاحظ تحريرات في الأصول 5 : 201.

6- تاج العروس 2 : 339.

7- أقرب الموارد 1 : 228 ، تاج العروس 2 : 339.

8- نفس المصدر.

9- إبراهيم ( 14 ) : 7.

10- تفسير المراغي 1 : 29.

11- تفسير المنار 1 : 49.

12- انظر البحر المحيط 1 : 18.

13- مجمع البيان 1 : 21 ، آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1 : 54 ، تفسير التبيان 1 : 31 ، الجامع لأحكام القرآن 1 : 133.

14- انظر تفسير آلاء الرحمن 1 : 54 ، والجامع لأحكام القرآن 1 : 133.

15- البيت لأبي تمام الطائي.

16- انظر بحار الأنوار 68 : 44 / 44 ، سنن أبي داود 2 : 671 ، علم اليقين 1 : 126.

17- البحر المحيط 1 : 18.

18- البحر المحيط 1 : 18.

19- الألفية ، ابن مالك ، مبحث حروف الجر ، البيت 9 ، والبيت هكذا : " واللام للملك وشبهه وفي * تعدية أيضا وتعليل قفي " والمؤلف ( قدس سره ) كتب المصرع الثاني من البيت العاشر بدله.

20- انظر تحريرات في الأصول 2 : 244.

21- البيت لابن الأعرابي.

22- البيت لخواجة عبد الله الأنصاري في منازل السائرين.