التفسير والتأويل على المسالك والمشارب المختلفة
على المشرب الأخباري: يفسر هكذا أسم على نفسي بسمة من سمات الله عز وجل، وهي العبادة الذي هو ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ في خبر (1). وبعبارة أخرى: أقرأ وأعمل بهذا الاسم الله الموصوف بالرحمن والرحيم، كما في خبر آخر (2). وفي ثالث: ﴿بِسْمِ اللّهِ﴾ الذي هو إله كل شئ، و ﴿الرَّحْمَنِ﴾ بجميع خلقه، و ﴿الرَّحِيمِ﴾ بالمؤمنين خاصة (3).
وعلى المشرب الأدبي: هكذا أبتدئ أو أستعين أو ابتدائي واستعانتي ب? ﴿بِسْمِ اللّهِ﴾ الذي هو ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾. وفي تعبير آخر: ب? ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ أقرأ وأعمل وأبتدئ وأستعين على أن يكون الوصفان لله تعالى والمحذوف متأخر. وفي ثالث: ب? ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ابتدائي وقراءتي. وفي رابع: أتبرك وأتيمن ب? ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ في افتتاح عملي وقراءتي، وأنه لله تعالى وبأمره، ولاحظ لغيره فيه. وفي خامس: أن يعتبر الوصفين للاسم، ويكون من عطف البيان، فيتبرك بالاسم الذي هو ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، فيجعل الرحمة بأقسامها وأنحائها مورد توجهات القلب وتوجيهات النفس.
وعلى المشرب العرفاني: هكذا ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، فقدمت عليه تيمنا واحتراما وافتتاحا وإفادة للحصر، أي لأجل الاسم " الله " ينحصر الحمد به تعالى. وفي تعبير آخر: لمسببية اسم الله وهو ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، انحصر الحمد في ذاته ولذاته تعالى. وعلى المشرب الآخر: بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو اسم الله الرحمن وهو الرحيم (4) - كما في القرآن: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (5) - أتوكل في أموري، أو أستعين، وهكذا، فيكون المراد من اسم الله ما هو الأليق بالاسمية والمعربية، وهو وجوده (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنه الاسم الأعظم والمعرب الأتم والمظهر الأجلى، و ﴿الرَّحْمَنِ﴾ من تبعات الله، و ﴿الرَّحِيمِ﴾ من تبعات الاسم، ولذلك حذفت الواو. وفي تعبير آخر: أتوكل في أموري ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ﴾ وب? ﴿الرَّحِيمِ﴾ وهو الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم). وفي ثالث: أي ب? ﴿الرَّحِيمِ﴾ وصلتم إلى الله وإلى ﴿الرَّحْمَنِ﴾، ف? ﴿الرَّحِيمِ﴾ نعت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد نعته تعالى بذلك في الكتاب كما مضى، فيصير المعنى: أي وصلتم إلي باتباعه، وبما جاء به وصلتم إلى ثوابي وكرامتي والنظر في وجهي. وهذا التعبير الأخير وجدناه في القرطبي (6).
وعلى مشرب آخر: هكذا إن العبد الحقيقي يتعبد بالقرآن وقراءته، ولا يستخدمه في إفادة مرامه ومقصده، فإن ما أمر به هي القراءة، وهي لا تكون إلا بتذكر الألفاظ، حكاية عن الألفاظ الشخصية الصادرة عن مبدأ الوحي والتنزيل، فلا تكون البسملة متعلقة بشئ، لا في كلام الخالق، لأنه لا معنى لأن يتشبث بالغير، ولا في كلام المخلوق، لأنه لا يستعمل القرآن في إظهار مرامه ومقصده، بل يتلفظ بألفاظها حتى يتعين بها. وإن شئت فسم هذا مشرب الفقيه، فإنه يعتبر صدق القراءة في الصلاة، بل وفي قراءة الكتاب، فلا معنى لتعلقها بشئ، كما لا يخفى.
وعلى مشرب ومسلك آخر: هكذا وفيه - كما مر - رد على المفوضة والمجبرة، أن القدرة التي أنشأت بها العمل هي من الله تعالى، فأنا أبرأ من أن يكون عملي باسمي، بل هو باسمه تعالى، فإنني أستمد القوة والعون منه، ولولا ذلك لم أقدر على عمله. فمعنى البسملة التي جاءت أول الكتاب العزيز: أن جميع ما جاء في القرآن من الأحكام والشرائع والأخلاق والآداب والمواعظ، هو لله ومن الله ليس لأحد فيه شئ، وكأنه قال: إقرأ يا محمد هذه السورة ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ أي على أنها من الله لا منك، فإنه أنزلها عليك لتهديهم بها إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وكذلك كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرؤها عليهم ﴿بِسْمِ اللّهِ﴾ لا باسمه، أي إنها من الله لا منه، فإنما هو مبلغ عنه تعالى كما جاء في قوله تعالى: ﴿وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين﴾ (7). وبالجملة: هذا النحو من الاستعمال معروف مألوف في كل اللغات وأقربه إليكم اليوم ما ترونه في المحاكم النظامية، حيث يبتدئون الأحكام قولا وكتابة باسم السلطان فلان ابن الخديو فلان، تعظيما له وتفخيما وإشعارا بأن مثله مورد النظر وينظر إلى عملي وقراءتي. والله العالم.
1- معاني الأخبار : 3 / 1 ، باب في معنى بسم الله ، التوحيد : 229 / 1.
2- تفسير الصافي 1 : 19.
3- معاني الأخبار : 3 / 1 ، التوحيد : 230 / 2.
4- انظر تفسير القرآن الكريم ، المنسوب إلى محيي الدين ابن العربي 1 : 7.
5- التوبة ( 9 ) : 128.
6- الجامع لأحكام القرآن 1 : 106.
7- النمل ( 27 ) : 91 - 92.