علم الأسماء والعرفان

اعلم أن الرحمة تنقسم باعتبار إلى الرحمة الذاتية والفعلية، وباعتبار آخر إلى الرحمة العامة والخاصة. واشتهر أن الرحمة الرحمانية ذاتية عامة، والرحمة الرحيمية فعلية خاصة، وهذه الرحمة رشحة من رشحات تلك الرحمة الذاتية العامة، وهذه القسمة - كما عرفت - تكون من ناحية ملاحظة القوابل واختلافها في الكمالات، فما هو الكمال المشترك فيه جميع الأشياء هي الرحمة العامة الناشئة عن ذاته تعالى، وأنه تعالى يوصف بمثلها، لأنه منبع كل شرف ووجود، وما هو المشترك فيه طائفة من الأشياء - كالإنسان مثلا - هي الرحمة الخاصة الفعلية لحصول ذلك الكمال من ظهوره تعالى على الظهور الأول، وتكون تلك الرحمة بالنسبة إلى الأشياء الاخر أخص وأخص الخواص، حتى تنحصر في مظهر خاص، وهو النبي الأعظم الأكرم، فيكون وجوده مجمع الظهورات الكثيرة الغير المتناهية بالقوة. با صد هزار جلوه برون آمدى كه من * با صد هزار ديده تماشا كنم تورا (1) فعلى ما تقرر: يكون " الرحمن " و " الرحيم " من الأسماء الإلهية الذاتية ومن أمهات الأسماء، لانطواء نوع الأسماء الجمالية في هذا الاسم العظيم، وقد حكي عن ابن العربي: أن اسم الله الأعظم هو الرحمن (2)، ولكنه محمول على إرادته من الأعظم النبي، وإلا فهو خلاف ما هو المقرر في علم الأسماء. وهكذا ما في مقدمات " الفصوص " من: أن الاسم الجامع هو الله والرحمن، فإن الاسم الأعظم ما هو يستوي فيه جميع الكمالات، ولا يتمايل إلى وجهة خاصة من الجمال أو الجلال، ويعتدل فيه القوى، ولا يكون تحت اسم آخر، وهو في الألفاظ كلمة " الله "، وفي المسميات التي هي الأسماء حقيقة الحقيقة المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنه أعرب الأشياء عنه تعالى، كما لا يخفى. وقد مضى فيما سبق: أن الوجود حقيقة إذا اخذت بشرط كليات الأشياء فقط، فهي مرتبة الاسم " الرحمن " ورب العقل الأول، المسمى بلوح القضاء وأم الكتاب والقلم الأعلى، وإذا اخذت بشرط أن يكون الكليات فيها جزئيات مفصلة ثابتة، من غير احتجابها عن كلياتها، فهي مرتبة الاسم " الرحيم " رب النفس الكلية، المسماة بلوح القدر، وهو اللوح المحفوظ والكتاب المبين. وجعل بعض الأعيان المرتبة الإلهية هي بعينها مرتبة العقل الأول، باعتبار جامعية الاسم " الرحمن " لجميع الأسماء، كجامعية الاسم " الله " لها. هذا وإن كان له وجه من حق، لكن كون الرحمن تحت إحاطة اسم الله يقضي بتغاير المرتبتين، ولولا وجه المغايرة بينهما ما كان تابعا للاسم " الله " في ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، فافهم. وسيأتي عند قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء﴾ (3) ما هو حقيقة تلك الأسماء، وما هي التقاسيم الواردة عليها في الكتب الاصطلاحية. ومما يشهد لما ذكرناه قولهم في ديباجة " الفصوص ": " إن العرش مظهر الرحمن ومستواه، والكرسي مظهر الرحيم " (4) انتهى. إن قلت: فما رأيكم بالنسبة إلى المآثير المتضمنة لانقسام الرحمة إلى العموم والخصوص، وقد رواها وأخرجها علي بن إبراهيم بأسناد مختلفة، وفيها الصحيح عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وقد مضى صدره، وفي ذيله: " والرحمن بجميع خلقه والرحيم بالمؤمنين خاصة " (5). وأخرج الكليني عن عبد الله بن سنان، قال: " سألت أبا عبد الله... - إلى أن قال -: والرحمن بجميع خلقه، والرحيم بالمؤمنين خاصة " (6). وعن " الأمالي " عن الصادق (عليه السلام): " الرحمن اسم خاص بصفة عامة، والرحيم اسم عام بصفة خاصة " (7). قلت: أولا: قضية الكتاب العزيز شمول رحمته الرحيمية للناس، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (8) ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (9). فربما يشكل الجمع بين الكتاب والسنة، فيقدم الأول على الثاني. ولكنه ممنوع: أولا: بأن من المحتمل إرادة اختصاص الرحيم في البسملة بالمؤمنين، أي كان المحذوف كلمة " بالمؤمنين "، أي رحيم بالمؤمنين. وثانيا: إذا كانت الرحمة متفاوتة، فما في الكتاب هي الرحمة المتوسطة، وما في البسملة هي الخاصة، فلا تهافت. وثانيا: لا تدل هذه الأخبار على أن الخصوصية جاءت من قبل العلة والفاعل، فهو تعالى رحيم بالمؤمنين، ومفيض لكمال وجودهم، إلا أن الجهة التي تورث ذلك، وتقتضي انسحاب تلك الرحمة، هي القابلية الخاصة في المرحوم، فإذا كان الإمكان الاستعدادي حاصلا في موجود، فيخرج من القوة إلى كمال الوجود، ويسير إلى الكمالات الثانوية، وهذا هو الإيمان. فالصور المفاضة من الحي القيوم، لا تنطبع على المواد الخالية عن الكمالات السابقة، التي تحصل من الاستعدادات الخاصة، بل هي تنطبع في المواد المتصورة بصورة كمالية، فتلك الصور تختص بتلك المواد وتكون خاصة بهم لأجل الخصوصية في المحل، فافهم وتأمل جيدا. وثالثا: قضية بعض الأدعية اختصاص " الرحمن " بالدنيا، و " الرحيم " بالآخرة، فيحصل التنافي بينهما لا العموم والخصوص، بل قضية بعض الأدعية المأثورة عن " الصحيفة السجادية " (10)، وعن " مستدرك " الحاكم (11): " رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما " فلا يختص بطائفة دون طائفة. والذي هو الحق: أن الرحمة الرحمانية لما كانت غير مضافة إلى المفعول به نوعا، تكون عامة، لا لأجل ما اشتهر عنهم من: أن حذف المتعلق دليل العموم، فإنه واضح الفساد هنا، ضرورة أن ذلك في موقف يمكن ويصح الإتيان بالمتعلق، فيترك لإفادة العموم، لا في مثل هذه الكلمة التي لم يعهد استعماله مع المتعلق. والعجب من غفلة أبناء التفسير، والتمسك بذلك لإفادة العموم. بل لأجل أنها صفة ذاتية على الوجه الذي مضى تحقيقه، والرحمة الرحيمية تتعلق بالغير، فتارة يذكر الغير، فيكون مخصوصا به، وأخرى لا يذكر، فيكون حذف المتعلق دليل العموم، فيصح أن يقال: رحيم بالإنسان، أو رحيم بالمؤمن، أو رحيم على الإطلاق... وهكذا، ولأجل ذلك اختلفت التعابير، واجتمعت في المعنى والحقيقة. ومما ذكرناه يظهر مواقع الخلل في كلمات القوم في هذه المواقف، ولا حاجة لنا إلى ذكرها، ولكن لا بأس بالإشارة الإجمالية إلى بعض ما قيل في المقام، ويظهر ضعفه من غير لزوم التأمل التام: وهو أن الرحمة الرحمانية لا تختص بشئ دون شئ وبحال دون حال، بخلاف الرحيمية فإنها تختص بالإنسان ومن كان مثله سالكا إلى الرحمن، وبحال كونه على رضاه ومن جهة كونه على رضاه. وأما غير الإنسان فإن العناصر والمواليد لا توصف بالرحمة الرحيمية، ولا بالغضب الذي هو ضدها، والأرواح البالية توصف بهما، ولا تمايز بينهما هناك، والأرواح الخبيثة قد يجوز أن تشملهم الرحمة الرحيمية، إلا أن الأغلب شمول الغضب إياهم، وذلك لأن الرحمانية عبارة عن إفاضة الوجود على الأشياء وإبقائها، وإكمالها بالكمالات اللائقة بفطرتها. وهذا عام لجميع الأشياء، ولذلك ورد أن ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (12)، وفسروه باستواء نسبته إلى الجليل والحقير (13)، وورد: " يا رحمن الدنيا والآخرة " (14). وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): " أن الرحمن الذي يرحم ببسط الرزق علينا، أو العاطف على خلقه بالرزق، لا يقطع عنهم مواد رزقه وإن انقطعوا عن طاعته " (15)، ومن المعلوم أن رزق الأعيان الثابتة إفاضة الوجود عليها، ورزق الموجود إفاضة ما به قوام بقاء وجوده، وأما الرحمة الرحيمية: فهي عبارة عن إفاضة الكمالات الاختيارية المرضية على المختارين من الإنس والجن، ولذلك ورد: " أنه الرحيم بعباده المؤمنين في تخفيفه عليهم طاعاته، وبعباده الكافرين في الرفق في دعائهم إلى موافقته " (16)، فتعلق هذه الرحمة بالكافرين، إنما هو من جهة بقاء فطرتهم واقتضائها فعلية مرضية اختيارية من الفعليات المرضية، تقتضي تلك الفعلية الرفق بهم ودعاءهم إلى الدين والمداراة لهم في الدنيا والنصيحة لهم في أمر العقبى وفي آخر الخبر المزبور روي عنه (عليه السلام): " أنه الرحيم بنا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا، خفف علينا الدين وجعله سهلا خفيفا، وهو يرحمنا بتمييزنا من أعدائه " (17)، فالرحيمية بمعنى الرضا مقابل الغضب، كالصورة للرحمة الرحمانية، وهي مادة للرضا والغضب، فإن الرحمة الرحمانية قد تصير في بعض الموجودين - وهم المختارون العاصون - غضبا، وفي الآخرين رضا، وهم المطيعون، وما هو الرحمة السابقة على الغضب هي الرحمانية إذا كان الغضب ينتهي إلى عدم الإيجاد، أو هي الرحيمية إذا كان الغضب ينتهي إلى الكفر والإلحاد، فافهم وكن على بصيرة.

تذنيب وتنبيه

حول كون " الرحمن " و " الرحيم " من أمهات الأسماء قيل: إن لله تعالى ثلاثة آلاف اسم: ألف عرفها الملائكة لا غير، وألف عرفها الأنبياء لا غير، وثلاثمائة في التوراة، وثلاثمائة في الإنجيل، وثلاثمائة في الزبور، وتسعة وتسعون في القرآن، وواحد استأثر الله به، ثم هذه الثلاثة آلاف في هذه الثلاثة: " الله والرحمن والرحيم " فمن علمها وذكرها فكأنما ذكر الله بكل أسمائه (18). وغير خفي: أن قضية هذه الرواية والمقالة أن هذه الثلاثة من أمهات الأسماء العرضية، وتكون هذه الثلاثة من الأسماء المحيطة، وتكون الأسماء الاخر في ظلها وتحت تربيتها، وهذا خلاف ما تقرر في علم الأسماء من أن الأمهات أربعة في لحاظ، وسبعة في لحاظ آخر، والأربعة هي: " الظاهر والباطن والأول والآخر "، وفي اعتبار أم الأمهات الطولية والعرضية هو الله تعالى لما كان تحته جميع الكمالات والصفات (19)، ولذلك اشتهر: أنها موضوعة للذات المستجمعة للكمالات والأوصاف، ف? - " الرحمن والرحيم " ليسا من الأسماء الامهاتية العرضية، بل " الرحيم " تحت ظل الرحمن من غير كون الظلية والأصلية من الاعتبارات المائية من قبل العلة الحقيقية وذاته تعالى على الوجه المقرر في السابق.

إشراق وإنارة

حول كونهما من أسماء الذات والصفات والأفعال اعلم أن الأسماء تنقسم في نوع من الأقسام إلى أسماء الذات والصفات والأفعال، وإن كان كلها في وجه أسماء الذات، ولكن باعتبار ظهور الذات فيها تسمى أسماء الذات، وبظهور الصفات فيها تسمى أسماء الصفات، وبظهور الأفعال فيها تسمى أسماء الفعل (20)، ويأتي في باب الأسماء المعلمة ب? " آدم " تفصيلات حول هذه المسائل. وبالجملة: قد ذكر الشيخ في تقسيماته: أن " الرحمن " و " الرحيم " من أسماء الصفات (21)، وعندي أنهما باعتبار من تلك الأسماء وباعتبار من أسماء الأفعال، فإذا اعتبرت سعة الرحمة إلى أصل الوجود، تكون الأعيان الثابتة مستجلية بالرحمة الذاتية والفيض الأول الأقدس، ومتحلية بحلية العلم الإلهي، فهما من أسماء الصفات، وباعتبار ظهور الأعيان العلمية في الأعيان بالفيض المقدس تكونان من أسماء الأفعال. وإن شئت قلت: هما باعتبار الفيض الأقدس من أسماء الذات، وباعتبار الفيض المقدس والوجود المنبسط من أسماء الصفات، وباعتبار كمال الوجود من أسماء الأفعال، فافهم واغتنم.


1- البيت للفروغي البسطامي ومطلعه : كي رفته أي ز دل كه تمنا كنم تو را * كي بوده أي نهفته كه پيدا كنم تو را.

2- لم نقف عليه في كتب ابن العربي بل الموجود أن الاسم الأعظم هو الله ، لكن انظر تفسير القرآن الكريم ، ابن العربي 1 : 7 ، فلعله منشأ الخطأ في النسبة.

3- البقرة ( 2 ) : 31.

4- شرح فصوص الحكم ، القيصري : 14.

5- تفسير القمي 1 : 28.

6- الكافي 1 : 89 / 1.

7- قد مر عدم كونه من الأمالي ، انظر مجمع البيان 1 : 21.

8- البقرة ( 2 ) : 143.

9- الأحزاب ( 33 ) : 24.

10- الصحيفة السجادية : دعاء 54.

11- المستدرك ، الحاكم النيسابوري 1 : 515.

12- طه ( 20 ) : 5.

13- بحار الأنوار 95 : 75 ، كتاب أعمال السنين والشهور والأيام ، الباب 5.

14- الصحيفة السجادية ، دعاء 54.

15- التوحيد : 232 / 5 ، تفسير الصافي 1 : 19.

16- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام ( عليه السلام ) : 34 ، تفسير الصافي 1 : 19.

17- التوحيد : 232 / 5 ، تفسير الصافي 1 : 19.

18- انظر عوالي اللآلي 4 : 106 / 157.

19- شرح فصوص الحكم ، القيصري : 13 - 14.

20- المصدر السابق : 14.

21- شرح فصوص الحكم ، القيصري : 14 ، مصباح الانس : 113.