الحكمة والفلسفة
وهنا مسألتان:
المسألة الأولى: في اتصافه تعالى بالرحمة اعلم أن المقرر في محله: أنه تعالى صرف الوجود، والمحرر في مقامه أن صرف الوجود (1) صرف كل كمال وجمال، ولا يكون لسائر الكمالات أصل آخر وراء أصل الوجود، وجميع الأسماء والصفات الكمالية في جميع النشآت يرجع إلى ذلك الجامع الشامخ، وإلا يلزم التركيب من الوجود والعدم الذي هو شر التراكيب، ويلزم النقصان وإمكان الاستكمال وتصوير الأتم، الذي كل واحد منها يكفي برهانا على هذا الرأي الساطع والفكر الثاقب، ولا نحتاج إلى إطالة الكلام في المقام بذكر البراهين تفصيلا. فبالجملة: كل شئ ثبت أنه كمال الوجود بما هو الوجود، هو ثابت له تعالى بنحو الأعلى والأشرف، فهو صرف النور والعلم والقدرة والحياة... وهكذا، ومن ذلك الرحمة فإنه تعالى صرف الرحمة والرأفة، لأن الرحمة هي الوجود، لا الأمر الآخر، لأنها هي التي وسعت كل شئ حتى نقيضه، وهل يعقل أن تكون رحمته واسعة كل شئ، ولا يكون هو تعالى موصوفا بها ؟! فهل يمكن للعقل ترخيص ذلك، فيعطي كل شئ رحمة، وهو لا يكون موصوفا به ؟! فإذا كان هو تعالى كذلك، وكان معنى الرحمة هو الوجود، فهو تعالى نفس الرحمة، لأنه تعالى نفس الوجود وصرف التحقق والواقعية، ولا نبالي بأن نقول: إن مفهوم الرحمة غير مفهوم الوجود في عالم المفهومية كالقدرة والعلم، لكنهما متساوقان في حقه تعالى، أي لا يصدق أحدهما إلا ويصدق الآخر، وإن كان وجه الصدق مختلفا بحسب الاعتبار. ومن هنا تندفع شبهة وهمية في المقام: وهي أنه كيف يمكن توصيفه تعالى بها، بأن يكون ذلك صفة ذاتية له، لا بأن يكون الرحمة صادرة عنه، فإنه يمكن توصيفه بها لأجل صدورها منه، كما يقال لزيد: إنه تأمر لابن باعتبار التمر واللبن، كذلك هو " الرحمن والرحيم " باعتبار صدور الرحمة منه تعالى، لا باعتبار ذاتية الرحمة له تعالى وعينيتها معه في الذات كسائر الصفات الذاتية. وجه الاندفاع: أن الرحمة بمعنى الغفران غير الرحمة الواسعة كل شئ، فإنها ليست هي الغفران، وما لا يمكن هو الأول دون الثاني، لأن الرحمة الواسعة كل شئ، لا يتصور لها معنى إلا ما هو قوام كل شئ وما به يخرج الأشياء من العدم، فإذا كانت تلك الرحمة تسع كل شئ، فهو تعالى مخزن هذه الرحمة الواسعة، ومعدن تلك النعمة الوازعة، وهو الوجود، وما يشابه ذلك من العناوين الأخر الحاكية عن تلك الواقعية. إن قلت: الرحمة هي رقة القلب أو الغفران وما شابه ذلك، وأين هذا من ذاك ؟! قلت: نعم، إلا أن المقرر في السابق هو أن هذه الألفاظ القاصرة بحسب الدلالة، كافية لإفادة المعاني الراقية الألوهية على الكناية والتوسع، فإذا قيل: " وبرحمتك التي وسعت كل شئ " (2) ينتقل المخاطب والسامع إلى أن رأفته ورقته وغفرانه وسع كل شئ، إلا أن رأفة كل شئ بحسبه وعلى الوجه المناسب معه، فهو تعالى إذا قيل: غافر كل شئ، فلابد وأن يراد من الغفران هو التجاوز عن السيئة، ويراد من السيئة خطيئة العدم، فإنه من الخطيئات أيضا. فبالجملة: فهم ذلك من ذاك موكول إلى عقول البشر، وكيفية إدراكهم للحقائق ما يليق بحضرته الربوبية، من غير لزوم كون الاستعمالات حقيقة، كما عرفت تفصيله، ومن غير الالتزام بأنه تعالى لا يوصف بذلك ولا بما هو المكنى عنه، بل هو تعالى يوصف بالرحمة التي لازم رقة القلب في الخلق، من غير نظر إلى إثبات الرقة له تعالى، حتى يكون من الأوصاف الانفعالية الناقصة التي يتنزه عنها هو تعالى وتقدس، فلا تخلط وكن على بصيرة من أمرك. فما تخيله الوالد المحقق - مد ظله - من المقالة الأولى (3)، وما توهمه صدر المتألهين في " شرح أصول الكافي " من: " أنه تعالى إذا وصف بالرحمة والرأفة، كان اتصافه بهما على وجه أعلى وأشرف، وكان باعتبار المظاهر والآثار، وكذا نسبة الغضب إليه تعالى باعتبار ما يصدر عنه في حقه تعالى " (4) انتهى. كلاهما في غير محله. نعم ربما يستظهر من قوله: " على وجه أعلى وأشرف " ما أردنا إثباته لولا تذييله بقوله: " وكان... "، والأمر بعد ذلك سهل.
المسألة الثانية: رجوع أقسام الرحمة إلى القوابل قضية القواعد الحكمية والبراهين القطعية: أن الله تعالى هو المفيض على الإطلاق، وفيضه مطلق، ولا خصوصية من ناحية الفاعل في التحديد والتضييق، ضرورة أن منع الفيض بالنسبة إلى طائفة من الماهيات في الوجود، كمنعه بالنسبة إلى الأخرى في كمال الوجود، فكما أن ذاك غير جائز لرجوعه إلى الجهل أو البخل أو العجز، وتعالى عنها وتقدس، كذلك هذا أيضا غير صحيح. فالخصوصيات المانعة عن تجلي الفيوضات الإلهية ناشئة من قبل القوابل والمادة وتبعاتهما، فهو تعالى رحمن ورحيم، ولا خصوصية لرحمته الرحمانية ولا الرحيمية من تلك الناحية المقدسة. نعم تحصل الخصوصية في ناحية القوابل، فتمنع عن قبول الرحمة التي نعبر عنها بكمال الوجود كمالا ثانيا وثالثا، وهكذا إلى أن يصل الموجود في قوس الصعود إلى أرقى الكمالات الإمكانية، حتى تصل إلى مقام لا يبقى معه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا صديق ولا شهيد، وتلتحق عينه الثابتة بالحضرة الإلهية، ويكون باقيا في السفر الرابع ببقاء الله، بعد الفناء في الله تبارك وتعالى وتقدس. فعلى ما تقرر عندنا - في كتابنا الموسوم ب? " القواعد الحكمية " - لا يتم ما اشتهر من تقسيم الرحمة إلى الأقسام، على وجه يتبادر منه أن تلك القسمة حصلت من ناحية الفياض على الإطلاق. وأما ما في بعض رواياتنا فسيأتي تحصيلها في محله إن شاء الله. وغير خفي: أن هذه المسألة لا تنافي كون القوابل متعددة بفيضه الأقدس، كما اشتهر: أن القوابل تتقدر بفيضه الأقدس، وتظهر بفيضه المقدس، لأن الأول بالقياس إلى الثاني كالموضوع بالقياس إلى الحكم والموضوع، لا يكون محدد الحكم، بل هو شخصه، فافهم واغتنم.
1- انظر الأسفار 2 : 368 - 372 ، و 6 : 100 - 118.
2- دعاء كميل بن زياد عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) انظر مصباح المتهجد : 744.
3- آداب الصلاة ، الإمام الخميني ( قدس سره ) : 248 - 251.
4- شرح أصول الكافي ، صدر المتألهين : 289.