الفقه

هنا مسائل:

المسألة الأولى: حول مس " الرحمن " في جواز مس " الرحمن " وعدمه قولان (1) أو احتمالان، ربما ينشئان من أنه الاسم والعلم الشخصي وعدمه. فمن قال: هو العلم الشخصي، فلا يجوز ذلك، سواء قصد حين الكتب معناه أم لم يقصد، لأنه بعدم القصد لا يخرج عن العلمية والاسمية إلا إذا كانت علما للآخر، وهو غير معهود في هذه العصور. ومن قال: بأنه وصف ونعت، فلا يجوز حين ما قصد به الله تعالى، وإلا فهو كغيره من الأسماء والصفات. والمسألة من هذه الجهة تطلب من محلها لخروجها عما يرتبط بالتفسير وبالكتاب العزيز. وبالجملة: حيث قد عرفت منا أن " الرحمن " صارت علما بالغلبة، أو كانت علما بالعبري وصارت معربا في العربي، فلا يجوز مسها بناء على عدم جواز مس اسم الله، على ما عرفت سابقا تفصيل البحث في مسائل ﴿بِسْمِ اللّهِ﴾، ف? " الرحمن " و " الله " مشتركان في هذه الجهة. وأما " الرحمن " في البسملة، فإن قلنا بأنه علم ولقب فلا يجوز مسه من ناحيتين: إحداهما لأجل أنه مس اسم الله، ثانيهما لأجل أنه مس الكتاب والمصحف. وإن قلنا بأنه نعت فعدم الجواز ينحصر بالثاني. وغير خفي: أن مقتضى ما تحرر منا في السابق أن ما هو المنهي عنه على الجنب هو مس اسم الله، وحيث تكون إضافة الاسم إليه تعالى معنوية، فلا يشمل هذا المضاف نفس المضاف إليه، للزوم كونها إضافة بيانية، فلابد من استفادة الحكم في خصوص كلمة " الله " من طريق الأولوية، وإن شئت جعلتها إضافة بيانية، فحينئذ يشكل تحريم مس سائر الأسماء الشخصية والصفات الاختصاصية. والإنصاف: أن الأدلة اللفظية قاصرة عن إثبات تحريم المس على الجنب والمحدث بالأصغر والحائض لاضطراب أدلته كما مر تفصيله، وحيث إن المسألة ما كانت معنونة قبل الشيخين، فلا إجماع مفيد فيها. وتوهم تحريمه من باب الهتك فاسد كبرويا وصغرويا.

المسألة الثانية: حكم تسمية الغير ب? " الرحمن " في جواز أن يسمى به غير الله تعالى وعدمه وجهان: من عدم الدليل الخاص على التحريم، ومن استنكار المسلمين ذلك وامتناعهم عنه، مع ما ورد عن " أمالي الصدوق (رحمه الله) " عن الصادق (عليه السلام): " الرحمن اسم خاص بصفة عامة، والرحيم اسم عام بصفة خاصة " (2). وفي " تاج العروس " قال أبو الحسن: ولا يجوز أن يقال: " رحمن " إلا لله عز وجل (3). وفيه أيضا قال الجوهري: إلا أن " الرحمن " اسم مخصص بالله لا يجوز أن يسمى به غيره، ألا ترى أنه قال: ﴿قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ﴾، فعادل به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره، وكان مسيلمة الكذاب يقال له: رحمان اليمامة (4).

. وغير خفي ما في استدلاله. ونظيره في الضعف ما مر من قوله تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ (5)، فإنه لو سلمنا أن يكون المراد منه هو الشريك في الاسم، ولكنه لا يدل على الممنوعية الشرعية. وتوهم الممنوعية لأجل أنه دخول في سلطان الرب، وهو هتك، في غير محله. نعم لا يبعد ظهور حديث " الأمالي " (6) في أن الخصوصية مفروغ عنها في كلامه (عليه السلام)، ويكون ناظرا إلى ممنوعية الاشتراك في الاسم، وإلا فبحسب التكوين يمكن ذلك، فلا تكون الجملة إخبارية حتى يلزم الكذب - نعوذ بالله - إذا سمي به غيره، بل هي جملة إنشائية أو في حكم الإنشاء، ومن الممكن دعوى أنها إخبارية، ومجرد إمكان التسمية لا يستلزم كذب المفاد، فلا يتفق بعد ذلك كما لم يتفق إلى الآن. هذا، مع أن الرواية غير ظاهر السند، فراجع. ثم اعلم أن هذه المسألة ليست معنونة بالفقه، إلا أن بعضا من المفسرين كالقرطبي (7) نسبها إلى أكثر العلماء، ومنعوا جواز تسمية غيره به، معللا بقوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ﴾ (8) وبقوله تعالى: ﴿وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون﴾ (9). ولا يخفى سخافة الاستدلال، فإنهما دليلان على أنه علم شخصي له تعالى مثلا، وأين هذا من ممنوعية تسمية الغير به ؟!

المسألة الثالثة: حكم كتابة " الرحمن " بالألف قد مضى تحقيق أن كلمة " الرحمن " كانت تكتب بدون ألف، وهذا الأمر كان من ابتداء نزول البسملة، فإن في جميع المخطوطات المطبوعة - من الكتاب والسنة وبعض المناشير - كتبت بدونه، ولعل ذلك كان لأجل إيجاد الميز بين اسم الله وغيره كما مر، فبناء على هذا هل يجوز تغير ذلك فيكتب بالألف، لأنه الصحيح، ضرورة أن المكتوب لابد وأن يطابق الملفوظ أم لا يجوز شرعا، بل لابد من المحافظة على الغلط المزبور، كما كانوا يواظبون عليه ومصرين عليه؟وجهان. وغير خفي: أن الأغلاط الكتبية المخالفة لقواعد الرسم والخط، كثيرة في الكتاب العزيز، كما فصلناه سابقا، وننبه عليه تحت كل كلمة تأتي بإذن الله إن شاء الله تعالى. لا شبهة في أن شبهة الوجوب منتفية، لما علم من السيرة جواز كتابتها بالألف، فلو قلنا بوجوب تصحيح الأغلاط الإملائية أو الكتبية في الكتاب العزيز، فلا سبيل إلى إيجابه هنا في خصوص الرحمن. وربما يشكل كونه غلطا: بأن مثل إبراهيم وإسماعيل يكتبان على نحوين، فيكون هذا مثله. ولكنه مدفوع: بأن إسماعيل وإبراهيم يقرآن بدون الألف في العبراني، فلا تلزم الغلطية بخلاف " الرحمن ". نعم لو قلنا بأن " الرحمن " أصله " الرخمن " كما مضى شرحه، و " الرخمن " يقرأ بدون الألف، فشابه المنقول إليه المنقول عنه في الكتابة فهو، وإلا فلا يتم القياس. ومن الممكن دعوى: أن " الرحمن " في الكتاب العزيز استعمل علما نوعا، وللإيماء إلى العدول من الوصفية إلى العلمية كتبت بدون الألف. والله العالم. والذي هو التحقيق في هذا الفرع الفقهي: لزوم المحافظة على المكتوب الأولي، حذرا عن وقوع سائر التصرفات في الكتاب من أنواع التحريف وغيره، ولعل الكاتب من الأول كتب غلطا فاستحفظ عليه، إرشادا إلى التزام الأمة الإسلامية على هذه الشدة من الحفظ عن التصرفات حتى اليسيرة، فتبصر.


1- لاحظ جواهر الكلام 3 : 48.

2- لم يوجد في الأمالي بل الحديث مذكور في المصباح ، الكفعمي : 317 ، ومجمع البيان 1 : 21.

3- تاج العروس 8 : 307.

4- الصحاح 5 : 1929.

5- مريم ( 19 ) : 65.

6- مر الحديث وهو من " المصباح " للكفعمي.

7- الجامع لأحكام القرآن 1 : 106.

8- الإسراء ( 17 ) : 110.

9- الزخرف ( 43 ) : 45.